د. علي حسين باكير - تلفزيون سوريا

خلال الأسبوع الماضي، أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان اكتشاف بلاده حقلاً ضخماً للغاز في البحر الأسود وذلك بحجم تقديري يبلغ حوالي ٣٢٠ مليار متر مكعّب. يعتبر هذا الاكتشاف الأكبر من نوعه في تاريخ تركيا ومنطقة البحر الأسود. سفينة "الفاتح" التركية كان لها سبق الاكتشاف في الموقع تونا-١ حيث يقع حقل سكاريا على عمق ٢١٠٠ متر قبالة زونغولداغ على بعد حوالي ١٠٠ ميل بحري عن الشاطئ.

التقديرات التي تحدّثت عنها تقارير بلومبرغ ورويترز قبل إعلان الرئيس التركي عن الاكتشاف كانت تشير إلى أنّ حجم الحقل أكبر من ذلك بكثير (حوالي ٨٠٠ مليار متر مكعب) وتستطيع أن تكفي الاحتياجات التركية من الغاز لحوالي ٢٠ عاماً. لكن تبيّن أنّ الحجم المعلن هو أقل من ذلك بكثير، وهو ما أدى إلى نوع من الإحباط لدى البعض.

وفقاً لوزير الطاقة والموارد الطبيعية فاتح دونميز، فإنّ هناك إمكانية للحفر على عمق أكبر بزيادة حوالي ١٠٠٠ متر، وهو ما يعني أنّ هناك طبقات أخرى قابلة للاستكشاف ومن المتوقع أن يتم العثور فيها على المزيد من الغاز بحيث يرفع ذلك من حجم حقل سكاريا لاحقاً.

وبالمقارنة مع الحقول المكتشفة شرق البحر المتوسط، يعدّ حقل سكاريا أقل من نصف حجم حقل ظُهر المصري العملاق، ويحتاج إلى بضعة مليارات من الاستثمارات ناهيك عن بضعة أعوام من الزمان حتى يتمكن الجانب التركي من ضخ الغاز منه إلى السوق المحليّة.

على الصعيد الاقتصادي، تستورد تركيا ما قيمته حوالي ٤١ مليار دولار من واردات الطاقة من الخارج، منها ٩٩٪ من حاجات البلاد من الغاز التي تبلغ سنويا قرابة ٤٥ مليار متر مكعّب بقيمة إجمالية تتراوح بين ١٠ و١٥ مليار دولار سنوياً. يقدّر البعض أنّ الكمّية المكتشفة حاليا في حقل سكاريا تعادل ما قيمته حوالي ٦٠ إلى ٦٥ مليار دولار. سيسد الاكتشاف نسبة كبيرة من احتياجات تركيا من الغاز (اعتماداً على النسبة التي يمكن استخراجها من الحقل)، فهو قادر على سبيل المثال على سدّ حوالي ربع حاجة تركيا من الغاز لمدة ٣٢ عاماً إذا ما تمّ استخراج ١٠ مليارات متر مكعّب منه سنويا.

علاوة على ذلك، من المنتظر أن يخفف الاستكشاف من أعباء فاتورة الطاقة، ويحسن من وضع العجز في الميزان التجاري الذي يعتبر مشكلة أساسية بالنسبة إلى الاقتصاد التركي وذلك بحوالي ٣ مليار دولار لكل ١٠ مليارات متر مكعّب من الغاز. سيكون لمثل هذا الأمر انعكاس إيجابي على وضع الاقتصاد كما أنّه سيوفّر المزيد من العملة الصعبة للبلاد والتي كان من المفترض أن يدفعها الجانب التركي لواردات الغاز في الحالة الاعتيادية.

على المستوى السياسي، من الواضح أنّ ربط توقيت بدء ضخ الغاز إلى السوق التركي بالعام ٢٠٢٣ يحمل دلالات ذات طابع سياسي داخلي أيضاً. إذا لم تحصل انتخابات مبكّرة، فمن المفترض أن يشهد العام ٢٠٢٣ انتخابات رئاسية وبرلمانية ومحلية، ولا شك أنّ إدخال الغاز إلى المعادلة من شأنه أن يعزّز من موقع حزب العدالة والتنمية في هذه الانتخابات بعد حوالي ٥ سنوات من التراجع في الأداء والمؤشرات. لكن إذا ما حصل واكتشفت تركيا المزيد من الغاز في البحر الأسود أو في شرق المتوسط خلال الفترة الممهّدة للانتخابات، فهذا سيعني بالتأكيد أنّ الحزب ضمن إلى حدّ كبير مكانه في السلطة التنفيذية وعزز من موقعه في السلطة التشريعية. 

على صعيد أمن الطاقة، سيعطي الاكتشاف دفعة كبيرة للجانب التركي لتعزيز استراتيجية أمن الطاقة التي يتّبعها منذ سنوات. تقوم هذه الاستراتيجية بشكل أساسي على تنويع الاعتماد على مصادر الطاقة وتخفيف استهلاك الفحم الحجري وزيادة نسبة مصادر الطاقة المتجددة في إجمالي استهلاك الطاقة العام.

علاوة على ذلك، تهدف الاستراتيجية إلى تخفيف الاعتماد على واردات الطاقة (نفط وغاز) من كل من روسيا وإيران، ليس لأنّ الاعتماد الزائد عليهما يؤدي إلى تهديد أمن الطاقة في تركيا فحسب، بل لأنّ لذلك يترتّب عليه أيضا تقييد قدرة تركيا على المناورة سياسياً وعسكرياً في الملفات الإقليمية التي ترتبط بطريقة أو بأخرى بهما.

وبهذا المعنى، فإنّ الكمّية المكتشفة حالياً ستعزز من مكانة الغاز في إجمالي استهلاك الطاقة التركية، وتقلل من الاعتماد على غاز روسيا وإيران، كما أنّها تعطي أنقرة أفضلية مستقبلاً فيما يتعلق بالتفاوض على عقود إمدادات الغاز الطويلة الأجل مع الدول المصدّرة له، أو حتى تعديل الاتفاقيات القائمة بين تركيا وبعض هذه الدول.

نجحت تركيا العام الماضي في تخفيض واردات الغاز من روسيا وإيران وزيادة الكمية المستوردة من أذربيجان وقطر والجزائر والولايات المتّحدة الأميريكية. الاكتشاف الجديد سيقوّي من موقع أنقرة التفاوضي مع عدد من الدول التي من المتوقع أن تنتهي عقود الغاز معها قريبا من بينها بعض الاتفاقيات مع روسيا وأذربيجان عام ٢٠١٢، والجزائر ٢٠٢٤، وإيران ٢٠٢٦.

على الصعيد الجيو-اقتصادي والجيو-سياسي، سيحفّز هذا الاستكشاف تركيا للدفاع عن حقوقها والتمسّك بموقفها في حوض شرق البحر المتوسط بشكل أكبر على اعتبار أنّ إمكانية اكتشاف الغاز بإمكانيات ذاتية وطنية أصبح حقيقة وليس مجرّد حلم. علاوةً على ذلك، فإنّ اكتشاف حقول غاز ضخمة شرق المتوسط كحقل ظُهر المصري على سبيل المثال من شأنه أن يغيّر معادلة الطاقة والاقتصاد في تركيا بشكل هائل، وأن يعزز من استقلالية البلاد على صعيد السياسية الخارجية والدفاعية بشكل غير مسبوق.

بإمكان الجانب التركي توظيف الاكتشاف الذي جرى مؤخراً كورقة كذلك لتمييع مواقف بعض الدول المناوئة أو تعزيز موقف بعض الدول الداعمة لتركيا من خلال دعوتها إلى الاستثمار في الحقل المكتشف في البحر الأسود. وبالرغم من أنّ أنقرة قد تفضل أن تستمر لوحدها، إلاّ أنّ استخراج الغاز لن يكون عملية سهلة، كما أنّ هناك حاجة إلى توظيف الشق السياسي له في إعادة خلط الأوراق داخل الاتحاد الأوروبي وتفكيك الضغط الفرنسي-اليوناني وتحييد الموقف الأميركي على الأقل.

إحدى الأوراق التي من الممكن لعبها في هذا المجال هي دعوة شركات إيطالية إذا كان المقصود تعميق التباين بين الموقف الإيطالي والفرنسي. أو حتى من الممكن دعوة شركات فرنسية إذا كانت أنقرة ترى أنّ ذلك سيساعد على تمييع الموقف الفرنسي أو ربما شركات أميركية إذا كان ذلك سيضمن موقفاً حيادياً لواشنطن.

بغض النظر عن كل ذلك، يبقى هذا الاكتشاف مهماً للغاية في الموازين الاقتصادية والسياسية، لكنّه ليس كافياً لوحده لتغيير موازين القوى وقلب المعادلات وهو ما يعني أنّ الجانب التركي سيكون بحاجة إلى اكتشاف المزيد من مصادر الطاقة قبل أن نستطيع القول أنّ تركيا دخلت فعلاً عصراً جديداً.

 

عن الكاتب

د. علي حسين باكير

مستشار سياسي - باحث في العلاقات الدولية والشؤون الاستراتيجية


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس