د. عامر مصطفى - خاص ترك برس

منذ مصادقة الكونجرس الأمريكي على قانون قيصر، سارعت كل الأطراف المهتمة بالشأن السوري إلى تغطية أخبار القانون من وجهات نظر مختلفة، فكل جهة (إعلامية ومن ورائها سياسية) رأته بعين مصالحها في المنطقة، ويبدو أن "قيصر" ليس مجرد قانون أو خبر تتداوله وسائل الإعلام، بل مادة دسمة لتمرير رسائل خفية تخدم إيديولوجيات مختلفة.

على الرغم من اختلاف طريقة صناعة الأخبار (فيما يتعلق بمسألة النزاهة والموضوعية واستقلالية القرار إلخ) بين الصحافة الأجنبية والعربية، إلا أن كلا الجانبين استخدم عدة أدوات لغوية (مثل اختيار المفردات والتقديم والتأخير وطريقة صياغة العنوان) للتأثير على القارئ والمشاركة في هندسة موقفه حيال القانون، فعدد كبير من الصحف والمواقع الإخبارية رأت في القانون خطوة جيدة على طريق العدالة ومحاسبة المجرمين، أو على أقل تقدير اعتبرته وسيلة للضغط على نظام الأسد لتعجيل الحل في سورية، فقامت هذه الصحف بتقديم القانون للقارئ عبر استخدام كلمات ذات مدلول إيجابي Positive Connotation عند الحديث عنه، أو عبر استخدام كلمات ذات مدلول سلبي  Negative Connotation عند وصف النظام وتسليط الضوء على جرائمه التي كانت سبباً في استصدار القانون. فعلى سبيل المثال، استخدمت سي إن إن الأمريكية مفردات مثل: (وحشية نظام بشار الأسد) ونيويورك تايمز: (عقوبات تستهدف حكومة الرئيس بشار الأسد) وواشنطن بوست الأمريكية: (عقوبات على الأسد بسبب جرائم الحرب) وديرشبيغل الألمانية: (قُتلوا في أقبية التعذيب التابعة للأسد) ولوموند الفرنسية: (عقوبات ضد نظام بشار الأسد) والتيليغراف البريطانية: (القمع الوحشي.. معاقبة الرئيس الأسد وحلفائه) والأناضول التركية: (يعاقب النظام السوري) والجزيرة القطرية: (ضربة موجعة للنظام السوري وأركانه) والعربي الجديد: (سجون ومعتقلات وأفرع أمن النظام). ويتضح جيداً من هذه الأمثلة أن هذا التيار من الصحافة ركّز على نقطتين أساسيتين: أولاً، التأكيد على أن القانون يستهدف نظام الأسد ومن يدعمه فقط وليس الشعب السوري، وأنه سيشكل نقطة فارقة في ميدان العدالة والمحاسبة، أما النقطة الثانية فتمثلت في تبرير صدور قانون قيصر من خلال تسليط الضوء على الجرائم والانتهاكات التي كانت سبباً لإصداره.

على الجانب الآخر، رأت بعض الصحف التي تدعم نظام الأسد أن الهدف من القانون هو تجويع الشعب السوري وإنهاك الدولة السورية، وتركزّت جهود هذا التيار من الصحافة على محورين رئيسين: إما تقديم القانون بشكل سلبي جداً، أو من خلال نفي التهم الموجهة لنظام الأسد والتي كانت سبباً في صدور القانون. فعلى سبيل المثال قالت وكالة تاس الروسية: (يستهدف حلفاء البلد وقطاعات الاقتصاد السوري الأساسية) أي بمعنى آخر، أن القانون لا يستهدف الأسد بل البلد، ويستهدف اقتصاد الدولة وليس أرصدة نظام الأسد وداعميه. أما قناة Press TV الإيرانية أوردت في خبرها: (العقوبات تمنع دمشق من تحقيق نصر على المسلحين المدعومين من الخارج) وهو اتهام غير مباشر بدعم الإرهاب أو على الأقل عرقلة جهود مكافحته. وجاء في خبر وكالة شينخوا الصينية: (جرائم حرب مزعومة) وهو تشكيك واضح في أسباب صدور قانون قيصر. أما سكاي نيوز الإماراتية والعالم الإيرانية فاعتبرتا القانون عقاباً للسوريين فقالت الأولى: (كيف ستتأثر سورية بقانون قيصر العقابي؟) بينما قالت الأخرى (بموجب القانون ستعاقب الولايات المتحدة السوريين).

على الرغم من كونه قانوناً ذا محتوى واضح، محدد، وثابت، إلا أن عناوين الصحف تنوّعت وتم تضمينها بمضامين معينة لتمرير رسائل محددة منذ البداية، وذلك من أجل تهيئة القارئ ومحاولة توجيه بوصلته نحو نقطة محددة. بدا ذلك واضحاً في عناوين الصحافة التي غطّت القانون، فعلى الرغم من أن الخبر يتناول قانوناً أمريكياً يفرض عقوبات على نظام الأسد، إلا أن الجزيرة لم تفوّت فرصة الإشارة إلى خسارة خصومها الإماراتيين في سورية جرّاء العقوبات، وجاء العنوان كالتالي "قانون قيصر الأميركي.. هل يوقف زحف الشركات الإماراتية في سورية؟". أما عكاظ السعودية فلقد رأت القانون من زاوية مصالح السعودية في المنطقة ومشكلتها مع الوجود الإيراني في سورية، حيث عنونت خبرها بـ "هل ينهي قانون قيصر ظاهرة الميليشيات؟". وفي رسالة واضحة للرد على من كل من يقول إن قيصر سيقوم بإفقار الشعب السوري وتجويعه، عنّونت فورين بوليسي مقالها بـ "العقوبات ستساعد الشعب السوري ولن تلحق به الضرر"، وفي نفس السياق قامت بي بي سي البريطانية بإرسال رسالة واضحة مفادها أن العقوبات تستهدف داعمي نظام الأسد وليس الشعب السوري فعنّونت خبرها بـ "العقوبات الأمريكية الجديدة تستهدف الداعمين الأجانب لحكومة الأسد"، وتكرر ذلك في كثير من عناوين الصحف التي وجّهت القارئ لنقطة معيّنة وطوّعت الخبر لتمرير رسائل معيّنة، وتم ذلك من خلال العمل على استخدام مفردات معينة في العنوان لدعم أو مهاجمة القانون والتأثير في صناعة موقف القارئ منه.

وتجدر الإشارة إلى أن تغطية الصحافة الغربية لقانون قيصر بعيدة نوعاً ما عن سياسة الأبيض والأسود (إما مع أو ضد القانون)، بل تدرّجت وتنوعت، وهذا طبيعي نظراً لاختلاف طريقة صناعة الخبر، والتي تتم بشكل مغاير تماماً لسياسة القطب الواحد في الطرف المقابل. بمعنى آخر، في المعسكر الشرقي غالباً ما تصب الصحف الموالية للحكومات في تيار واحد، وتغطي جميع الأخبار بما يتماشى مع سياسة الدولة، أما في الطرف المقابل قد يختلف موقف الصحيفة من خبر لخبر وقد يكون مغايراً في بعض الأحيان لسياسة الدولة، وخير دليل على ذلك المناوشات المستمرة بين سي إن إن والرئيس دونالد ترامب.

وأخيراً، لعبت السياسة دوراً حاسماً في تغطية قانون قيصر، فلكل دولة حساسية معينة ومصالح محددة حيال الملف السوري الذي انعكس بدوره على تقديم قانون قيصر للشارع، فروسيا على سبيل المثال لن تقبل بقانون يؤثر على مصالحها في الشرق الأوسط وخصوصاً بعد الثمن الباهظ (العسكري والمادي) الذي دفعته للحفاظ على نظام الأسد من السقوط، والصين ستعارض بطبيعة الحال أي شيء يخدم مصالح الخصم اللدود (الولايات المتحدة)، وإيران تهاجم القانون بشدة لأنه يهدد مشروعها الطائفي في المنطقة، أما الإمارات (رائدة الثورات المضادة) فهي تتعامل بحساسية شديدة مع الملف السوري وتخوض حربها الخفية على الربيع العربي، وبالنسبة للسعودية فالملف السوري معقّد أيضاً، فهي تحاول الموازنة بين وضع حد للربيع العربي من بوابة سورية وبين وقف التغلغل الإيراني، أما تركيا  صاحبة الحدود الأطول مع سورية، فلقد لعب أمنها القومي من جهة واستقبالها لملايين السوريين من جهة أخرى، دوراً كبيراً في دعم القانون إعلامياً من أجل وضع حد للأزمة السورية، وبالتالي إزاحة عبء كبير عن كاهلها، وحذا حذوها جميع من يساند الثورة السورية، أما بالنسبة للمواطن السوري (الذي صدر قانون قيصر "لحمايته") فما زال ينتظر نتائج حقيقية على الأرض لأنه كفر بكلام الصحافة والساسة بعد أن تاجر بقضيته كل من هب ودب.

عن الكاتب

د. عامر مصطفى

باحث لغوي متخصص في لغة الأخبار والإعلام - دكتوراة في اللغويات.


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس