د. علي حسين باكير - تلفزيون سوريا

مع تصاعد النزاع بين تركيا واليونان شرق البحر المتوسط ودخول أطراف ثالثة غير أصيلة على الخط لدعم أثينا في مواجهة أنقرة، يتصاعد التوتر بشكل كبير ينذر بإمكانية حصول صدام غير محسوب العواقب بين الطرفين. وتشير الخطوات اليونانية المتّخذة مؤخراً -من بينها إجراءات تقويض مساعي ألمانيا وحلف شمال الأطلسي (الناتو) للتهدئة- إلى عدم وجود رغبة لدى أثينا في تخفيض التصعيد أو الجلوس إلى طاولة المفاوضات مع تركيا وذلك نتيجة الدعم غير المشروط الذي يُقدّم لها من قبل الاتحاد الأوروبي.

وفي هذا السياق، يهدد الاتحاد الأوروبي بفرض عقوبات على تركيا الأمر الذي من شأنه أن يزيد الأمور تعقيداً، ويُقفل -في حال تنفيذه- الباب تماما أمام فرص الحوار بين الجانبين مُمهّداً بذلك لجولة أطول وأخطر من التصعيد العسكري شرق البحر المتوسط. وأمام هذا الواقع، تُثار بين الفينة والأخرى إمكانية البحث عن طرق بديلة لحل النزاع من بينها خيار الذهاب إلى محكمة العدل الدولية في لاهاي.

نصّت المادة ٣٣ من ميثاق الأمم المتّحدة على أنّه يجب على أطراف النزاع الذي من شأن استمراره أن يعرض حفظ السلم والأمن الدولي للخطر أن يلتمسوا طرقاً للحل مُشيرة إلى عدّة طرق لعلّ أبرزها المفاوضات والوساطة والتحكيم. وسيكون من المفيد بالنسبة لنا مقاربة هذه الخيارات فيما يتعلق بالأزمة بين تركيا واليونان.

أولا: المفاوضات، تهدف المفاوضات إلى التوصل إلى اتفاق أو معاهدة بين الطرفين، لكن وكما هو معروف، فإن واحدا من متطلبات التفاوض للتوصل إلى اتفاق من هذا النوع هو توافر المصلحة المشتركة وإيمان الطرفين بأنّ المفاوضات هي الطريق الأمثل للتوصل إلى تسوية مرضية.

ما يقوّض من حظوظ هذا الخيار هو قيام الاتحاد الأوروبي بتقديم الدعم المطلوب لليونان -حتى لو كانت على خطأ- بداعي ضرورة التضامن بين أعضاء الاتحاد. وبهذا الموقف، يكون الاتحاد الأوروبي قد نسف أحد الشروط الضرورية للتفاوض بين الطرفين لأنّ مصلحة اليونان أصبحت ترتبط بالدعم الأوروبي للضغط على تركيا وليس بإجراء تفاوض مع أنقرة. ولذلك ما لم يتم تغيير موقف الاتحاد (سرا أو علنا)، فمن المستبعد أن يتغير السلوك اليوناني.

ثانيا: الوساطة، ينطوي خيار الوساطة على قبول طرفي النزاع طلب مساعدة تدخل طرف ثالث أو على قبول ربما عرض من طرف ثالث بالتدخل للمساعدة على التمهيد لمفاوضات بينهما أو حتى المساعدة على إيجاد تسوية للنزاع. دور الوسيط يتضمن عدداً كبيراً من الخيارات التي تعتمد في نهاية المطاف على رغبة طرفي النزاع في تحديدها، لكن من الشروط الأساسية في مثل هذا الخيار أن يكون الوسيط نزيهاً وغير منحاز، لأنّه إذا لم يكن كذلك فهذا معناه تفريغ هذا الخيار من مضمونه. وكما أصبح معلوماً، فإنّ توافر طرف حيادي في الأزمة الحالية أمر صعب المنال لا سيما مع انحياز الاتحاد الأوروبي إلى اليونان.  

ومن الممكن أن يسبق خيار الوساطة خيار آخر هو المساعي الحميدة أو التوفيق. الفارق بين هذا الخيار والوساطة هو أنّ المساعي الحميدة تهدف للتمهيد للمفاوضات وذلك من خلال محاولة التهدئة ومنع الاصطدام والحث عن الانخراط في عملية تفاوضية. دور الطرف الثالث هنا في الغالب يقتصر على اجتماعات غير رسمية وعلى نقل رسائل بين الطرفين بطريقة أمينة أو على تهيئة الأجواء اللازمة للتفاوض. لكن نتيجة المساعي الحميدة تبقى مرهونة بإرادة طرفي النزاع، فعلى سبيل المثال، قبلت تركيا مساعي ألمانيا وحلف (الناتو) مؤخراً لكن تمّ تقويضها من قبل أثينا.

ثالثاً: التحكيم الدولي، عادة ما يتم اللجوء إليه بعد استنفاد أطراف النزاع كل السبل الأخرى، وهو بهذا المعنى الخيار الأخير لحل النزاع بطريقة سلميّة. يكمن جوهر التحكيم في أنّ نتيجته ملزمة لطرفي النزاع ولا يصدر عن دولة بعينها ممّا يستلزم الرضوخ بحسن نيّة لنتيجته. وفي هذا السياق بالتحديد، تكثر التساؤلات بشأن المانع من قيام تركيا واليونان بإحالة النزاع بينهما إلى محكمة العدل الدولية كوسيلة لحلّه بطريقة سلمية خاصّة أنّ هناك تصريحات لكل منهما تشير إلى الاستعداد للذهاب إلى محكمة العدل الدولية.

تجدر الإشارة بداية إلى أنّ التحكيم الدولي يتطلب اتفاق طرفي النزاع على إحالة الموضوع إلى المحكمة والقبول بالقرار الذي ستصدره بهذا الشأنّ. الاتفاق يتضمن أيضاً النقاط التي يريد كل طرف من المحكمة أن توضحها أو تفصل بها أو تصدر قراراً بشأنها. الجانب التركي كان قد دعا مرارا وتكرارا إلى مفاوضات مع اليونان من دون قيد أو شرط، لكن أثينا رفضت حتى هذه اللحظة. أنصار كل طرف يقولون إنّ الطرف الآخر هو الذي يرفض الذهاب إلى المحكمة.

اليونان تريد من كل جزرها في إيجة وشرق المتوسط أن تولّد جرفاً قارّياً وتقول أنّ ذلك حق لها بموجب القانون الدولي. وجهة نظر الجانب التركي تقول أنّ القانون الدولي الذي تستند إليه اليونان نفسها يقول أنّ هناك استثناءات يجب أن تأخذ بعين الاعتبار، منها: قواعد الانصاف والعدالة والظروف الخاصة، وأنّ هذه الاستثناءات تصب لصالح تركيا لأنّها لا تعطي كل الجزر الحق بتوليد جرف قاري.

وبالفعل، فإن الحكم بشأن ما إذا كانت الجزر تمتلك الحق في أن تولّد جرفاً قارّياً يستند إلى عدد كبير من المعايير منها على سبيل المثال لا الحصر مدى بعد جزيرة معيّنة عن سواحل طرفي النزاع، وحجمها، وعدد سكّانها، وعمّا إذا كانت قادرة على إعالة نفسها بنفسها، وعمّا إذا كانت امتدادا طبيعياً للتركيبة الجغرافية لإحدى الدولتين...الخ من المعايير.

 في حقيقة الأمر هناك سابقة حصلت بين الطرفين في هذا الشأن. في السبعينيات من القرن الماضي، تصاعد الخلاف بين أنقرة وأثينا بشأن حدود الجرف القاري للبلدين في بحر إيجة بعد إجراءات أحادية الجانب كانت اليونان قد اتخذتها (شبيهة بوضع اتخاذ قبرص بدعم من اليونان خطوات أحادية شرق المتوسط منذ التسعينيات). طلبت تركيا من اليونان التفاوض لحل النزاع على اعتبار أنّه ذو طابع سياسي على الأغلب لكنّ الأخيرة قامت بمحاولة استخدام مجلس الأمن للإقرار بحقها ضد تركيا، فما كان من الأخير إلا أنّ رفض ودعا الطرفين إلى إيجاد حل من خلال التفاوض.

في ١٠ آب ١٩٧٦، قامت أثينا برفع الملف إلى محكمة العدل الدولية مطالبة إياها بالاعتراف بسيادتها على الجزر وبأحقيتها في توليد هذه الجزر جرفاً قارياً بالإضافة إلى إلزام تركيا بوقف العمليات التي تتم في المنطقة التي تزعم اليونان أنها تابعة لها وذلك إلى جانب عدد آخر من الطلبات.

بمعنى آخر، فإنّ الخطوة اليونانية لم تكن تهدف إلى إيجاد حل بقدر ما كانت تهدف إلى تفادي التفاوض مع أنقرة. تركيا رفضت الذهاب إلى المحكمة لسببين. الأوّل أنّ اليونان لم تتفاوض مع الجانب التركي لا بشأن الخلاف الأساسي ولا بشأن المحكمة (النقاط المراد رفعها). أمّا الثاني فهو أنّ أثينا كانت قد رفعت مطالب إلى المحكمة لا توافق عليها أنقرة (بعد أن كانت قد اتخذت خطوات أحادية)، كمطلب الاعتراف بأحقية تبعية الجزر لليونان وإيقاف النشاطات في المناطق التي تزعم اليونان أنّها تابعة لها إلى حين الانتهاء من القضية. ونتيجة لذلك، قامت تركيا بالطعن باختصاص المحكمة.

 في ١١ أيلول ١٩٧٦، رأت محكمة العدل الدولية أنّ النظر في القضية لا يتطلب تنفيذ التدابير التي طلبتها اليونان، كما أمرت المحكمة بأنّ يتم النظر في موضوع الاختصاص أوّلاً نظراً للطعن التركي. وفي ١٩ كانون الاول ١٩٧٨، وجدت المحكمة أن الوثائق التي اعتمدت عليها اليونان في تقديم الدعوى للمحكمة لا تمنحها الولاية القضائية للتعامل مع القضية. لقد كان ذلك بمثابة هزيمة لليونان لأنّه أعاد وضع ادّعاءاتها في خانة "المتنازع عليها"، ولأنّه أكّد وجهة النظر التركية حول ضرورة التفاوض أولا على القضايا المختلف عليها.

علاوة على هذه السابقة، دخلت تعقيدات أخرى مؤخراً على إمكانية إحالة موضوع النزاع إلى المحكمة منها إدخال اليونان في ١٣ كانون ثاني من العام ٢٠١٥ تعديلات جوهرية على قبولها إلزامية الولاية القضائية للمحكمة فيما تصدره من أحكام. وتضمنت هذه التعديلات استثناءات منها على سبيل المثال:

1) كل ما يتعلق بالنزاعات المرتبطة بالنشاطات العسكرية والإجراءات المتخذة من قبل اليونان للدفاع عن سيادتها ووحدة أراضيها (إشارة إلى الجزر والحدود المتنازع عليها).

٢) كل نزاع يتعلق بحدود البلاد وسيادتها على أراضيها بما في ذلك النزاعات المتعلقة برقعة وحدود مياهها الإقليمية ومجالها الجوي.

ماذا يعني ذلك؟ يعني أنّ اليونان لن تقبل بالولاية القضائية الإجبارية للمحكمة فيما يتعلق بهذه القضايا، ولذلك فإنّ دعوة اليونان إلى نقل ملف الخلاف مع تركيا إلى المحكمة يتعارض مع هذه التحفّظات، ويتطلب في جميع الأحوال تفاوضاً مع أنقرة وهو أمر لا تزال أثينا ترفضه حتى هذه اللحظة.

عن الكاتب

د. علي حسين باكير

مستشار سياسي - باحث في العلاقات الدولية والشؤون الاستراتيجية


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس