عصمت بينارك مدير عام إدارة وثائق الدولة التركية - ترجمة كمال أحمد خوجة أوغلى - خاص ترك برس

قبل الحرب العثمانية الروسية لم تكن هناك مسألة اسمها المسألة الأرمنية، لكنها بدأت بعد احتلال الروس لبعض المدن التركية، عندما حرضوا الأرمن في هذه المدن على الثورة ضد الباب العالي بهدف الاستقلال وليكونوا وسيلة لتحقيق أغراضهم. وبعد إضافة الأحكام المتعلقة بإجراء الإصلاحات في الأماكن التي يعيش فيها الأرمن إلى معاهدتي أياستفانوس وبرلين، ظهرت المسألة الأرمنية بتدخل الدول الكبرى في الشئون الداخلية للدولة العثمانية متذرعة بهذه الأحكام. وبتحريض الأرمن بمختلف الوعود وقعت سلسلة من الأحداث الدموية . ومما لا شك فيه أن نشاطات المنصرين البروتستانت كانت فعالة في تهيئة أسباب هذه الأحداث.

فأمريكا وبريطانيا وروسيا وغيرها من الدول التي تتظاهر بحماية حقوق الأقليات النصرانية التي تعيش في الأراضي العثمانية، قامت بتحريض الأرمن خدمة لمصالحها،وامتنعت هذه الدول عن نشر مراسلات ومكاتبات الحكومة العثمانية وكذلك الممثلين الأجانب التي تعبر عن الحقائق المتعلقة بوضع الأرمن ومعاملتهم، لأنها تتناقض مع مصالحها وسياساتها.

ومن حيث الأساس فإن المسألة الأرمنية تشكل جزءا من المسألة الشرقية. فالدول الأوربية الاستعمارية الكبيرة المعروفة بالدول العظمى (فرنسا وإنجلترا وروسيا وألمانيا)أرادت تأمين مصالحها عن طريق تمزيق وتفتيت الدولة العثمانية فلجأت إلى دعم الحركات القومية والانفصالية التي بدأت بين الرعايا غير المسلمين بصورة خاصة، وعملت على تأسيس دول في البلقان تكون تحت نفوذها ولتحقيق ذلك قام الروس بحماية الأرثودكس ،والفرنسيون بحماية الكاثوليك والنمسا بحماية كاثوليك البلقان . وبتأثير من التحريض الخارجي والتيارات القومية، ثار قوميو البلقان وكانت النتيجة أن ظهرت دول اليونان والصرب ورومانيا والجبل الأسود، وصار لبنان عام 1860 يتمتع بالحكم الذاتي.

وفي القرن التاسع عشر صار غير المسلمين هدف المسألة الشرقية وكذلك وسيلتها. لأن السياسة الاستعمارية لأن الدول العظمى وجدت نقاط مشتركة بين مصالحها ومصالح الأقليات غير المسلمة . ولما أحس غير المسلمين بذلك تطوعوا لأن يكونوا الممثلين الأحياء للمسألة الشرقية وقوتها المحركة . فجملة القول أن المسألة الشرقية تعني بالنسبة لغير المسلمين تمزيق الدولة العثمانية والقيام بالإصلاحات التي تحقق مصالحهم، والحصول على التنازلات والامتيازات التي تؤدي بهم ضمن هذا الإطار إلى الحكم الذاتي أو الاستقلال[1].

فمن المعروف أن أسباب ظهور المسألة الأرمنية ليست ناشئة فقط عن الوضع الاجتماعي والثقافي والاقتصادي والإداري والسياسي للأرمن الذين يعيشون في أراضي الدولة العثمانية ، بل إن أصل المسألة هو عبارة عن استراتيجية استعمارية دولية وسياسة توازن بين القوى سميت "بالمسألة الشرقية ".

وعبارة" المسألة الشرقية" التي أخذت مكانا لها في التاريخ السياسي، تعني العمل على تمزيق الدول العثمانية من قبل الدول الغربية.

وجاء في أشمل تعريف للمسألة الشرقية ضمن تصور التاريخ السياسي في القرن الذي نعيش فيه:" مجموعة المسائل التاريخية الناشئة عن رغبة الدول الأوربية الكبرى في وضع الدولة العثمانية تحت سيطرتها ونفوذها اقتصاديا وسياسيا أو اختلاق الأسباب لتمزيقها وتأمين استقلال الشعوب التي تعيش تحت الحكم العثماني" [2]

ويجب أن نعرف بأن المسألة الأرمنية التي اختلقها الغرب لتحقيق أطماعها في الدولة العثمانية في فترة تسارع انهيارها السياسي،  نابعة من مصالح أوربا الاقتصادية والفكرية والسياسية والدينية والثقافية.

ولا نخطئ إذا قلنا أن الحكم المسبق على الدولة التركية والشعب الأرمني بالحقد المتوارث وبشعور الكراهية والانتقام والسبب في القتل وإزهاق الأرواح ما هو إلا انسياق أعمى وراء المؤامرة السياسية التي أعدتها المصالح الروسية والإنجليزية والفرنسية[3].

فالسياسة التي اتبعتها روسيا وإنجلترا وفرنسا وأمريكا حيال الدولة العثمانية والأرمن تأتي في مقدمة الأسباب التي أدت إلى ظهور المسألة الأرمنية. ويحسن بنا أن نوجز مسلسل السياسة التي اتبعتها هذه الدول.

آثار السياسة التي اتبعتها روسيا

أما روسيا التي أصبحت دولة لها نفوذ في أوربا في عهد القيصر بطرس الأول(1682-1725) فكانت دائما تطمع في المضائق. فروسيا التي تشعر بالميل الشديد لبلاد البلقان وتريد السيطرة عليها أو جعلها تدور في فلكها، أنشأت قنصليات في هذه البلدان، وحرضتها ضد الدولة العثمانية وبذلك حصلت على دور حامي الاتحاد السلافي- الأرثودكسي وشعوبه. ولم تفوت الفرصة في استغلال الاضطرابات واختلال التوازن في المنطقة في تطبيق هذه السياسة. ونجحت في إشعال ثورة الصرب عام 1806 واليونان عام 1827 وثورات البوسنة والهرسك والبلغار والصرب عامي 1875-1876 وشجعت على انتشارها.

وكانت نتيجة هذه الثورات أن روسيا بسياستها هذه أرادت الحصول على أراض من الدولة العثمانية في المناطق التي أثارت فيها الاضطرابات. لكن هذه السياسة لم تلق النجاح دوما بسبب تعارضها مع مصالح إنجلترا وفرنسا في بعض الأحيان؛ ولذلك لجأت إلى تطبيق سياسة تقاسم الأسلاب مع الدول الأخرى قبل أن تقدم للعمل ضد الدولة العثمانية.

وروسيا التي أيقنت بأن أحلامها في الوصول إلى المياه الدافئة وتحولها إلى قوة يسيطر على البحر المتوسط والشرق الأوسط ستتحقق بتفتيت بلاد أراضي الأناضول، ولذلك سعت دوما للسيطرة على خط أرضروم – إسكندرون الذي يعيش فيه الأرمن بكثرة، فبدأت اتصالات روسيا بالكنائس الأرمنية في الدولة العثمانية ودعمها للعناصر الإرهابية من الأرمن.

وروسيا التي عملت على تحقيق أطماعها في شرقي الأناضول على يد الأرمن الذي دخلوا في خدمة القيصر ودفعت الأرمن إلى مقدمة الصفوف في حروبها مع إيران. وبعد أن نجحت في الحصول على أرمينيا الشرقية بموجب معاهدة تركمانجاي  عام 1828 وانضم أرمن إيران إلى هذه الاتحاد استخدمت قوتها الجديدة في الهجوم على الدولة العثمانية. ولما طالب أربعون ألفا من الأرمن الذين هاجروا إلى روسيا بموجب معاهدة أدرنه عام 1829 بإنشاء أرمينيا يكون لها الحكم الذاتي، رفضت روسيا مع أنها نصبت نفسها حامية للأرمن لتحقيق مطالبهم هذه في الأراضي العثمانية.

وبذلك فقد الأرمن صفة الرعايا المخلصين للدولة العلية، ودفعوا ثمن خيانتهم بالظلم والقهر الذي تعرضوا له في كثير من الأحيان  من روسيا القيصرية عندما طالبوا بأبسط حقوقهم الطبيعية.

آثار السياسة الإنجليزية

واهتمام الإنجليز بالدولة العثمانية ومن بعدها بالأرمن، له علاقة وثيقة بالمد الروسي نحو الجنوب بصورة تهدد المصالح الإنجليزية وتصبح الدولة دولة قوية في منطقة البحر الأسود.

والمعروف بأن دعم إنجلترا للدولة العثمانية ضد روسيا بهدف الحيلولة دون تطوير مصالحها بشكل يهدد مصالحها ، استمر من عام 1783 وحتى الحرب العثمانية الروسية في 1877-1878.

وبالرغم من أن إنجلترا فصلت النمسا عن التحالف مع روسيا خلال الحرب العثمانية الروسية عام 1787-1792، وأخذت بروسيا إلى جانبها بعد الثورة الفرنسية لتضغط على روسيا، فإنها وقفت إلى جانب روسيا خلال الحرب الفرنسية-الروسية.

ويحلل رئيس الوزراء الإنجليزي في تلك الفترة موقف بلاده المعارض للدولة العثمانية خلال ثورة اليونان قائلا بأن هذا الموقف من إنجلترا لا يعني التفاهم مع روسيا، وكان الأحسن أن تكون اليونان التي تأكد حصولها على الاستقلال مدينة في ذلك لإنجلترا وهي الدولة الصديقة في البحر المتوسط بدل أن تكون مدينة في ذلك لروسيا."

وقد دعمت إنجلترا الدولة العثمانية ضد ثورة والي مصر محمد علي باشا لكنها عام 1838 أرغمت السلطان محمود الثاني على توقيع "اتفاقية التجارة الإنجليزية" فكانت سببا في خسائر جسيمة من الناحية السياسية والاقتصادية للدولة العثمانية.

فالدولة العثمانية التي تحولت إلى سوق مفتوحة للإنجليز بموجب هذه الاتفاقية، لم تستطع أن تفعل شيئا أمام استغلال الروم والأرمن هذه الفرصة لتقوية أوضاعهم.

كما رفضت إنجلترا مقترحات القيصر الروسي نيقولا الثاني حول اقتسام الدولة العثمانية، ووقفت إلى جانب العثمانيين في حرم القرم. لكن البنية السياسية الأوربية التي تغيرت في السبعينيات من القرن التاسع عشر غيرت معها إنجلترا، وتخلى الإنجليز عن تأييد وحدة التراب العثماني بعد معاهدة أياستفانوس التي وقعت عقب الحرب العثمانية الروسية في 1877-1878 وبعد معاهدة برلين، وتبنت سياسة تمزيقها وإنشاء دول على هذه الأراضي تكون تابعة لها.

وسبب آخر مهم في تغيير انجلترا لسياستها تجاه العثمانيين الاهتمام الذي أولته أوربا للمسألة الأرمنية  اعتبارا من عام 1880.

ولما كانت فرنسا حامية الكاثوليك في الدولة العثمانية ، وروسيا حامية الأرثودكس ، فإن إنجلترا نجحت في إضافة حرية تغيير الدين في فرمان الإصلاحات بهدف زيادة عدد الأرمن البروتستانت. وبذلك اتبعت سياسة حماية البروتستانت ووجدت الفرصة في التدخل في الشئون الداخلية للدولة العثمانية، وأولت اهتمامها لتطوير الثقافة الأرمنية وعملت على إثارة النعرة القومية للأرمن.

ويعتبر احتلال روسيا لبعض المدن في الأناضول خلال الحرب العثمانية الروسية في 1877-1878 وتحريضها الأرمن ضد الدولة العثمانية بغية انفصالهم نقطة البداية في المسألة الأرمنية. 

وقد وافقت إنجلترا على المسألة الأرمنية بعد أن أدركت بأنها لن تستطيع بمفردها منع الأعمال العدوانية الروسية ضد الدولة العثمانية وحماية مصالحها، فخطت الخطوة الأولى وحصلت على جزيرة قبرص  عن طريق تهديد الحكومة العثمانية، لتكون قاعدة لها ضد روسيا كما فرضت على الدولة العثمانية إجراء الإصلاحات في ولايات شرقي الأناضول لصالح النصارى الذين يعيشون في تلك المناطق. وبذلك جعلت المسألة الأرمنية قضيتها.

ومع أنه لم يكن للأرمن أية نية في الانفصال عن الدولة العثمانية وتأسيس دولة مستقلة قبل الحرب العثمانية- الروسية، فإن الروس أدرجوا المسألة الأرمنية في معاهدة أياستفانوس. كما أضافت إنجلترا المسألة الأرمنية إلى معاهدة قبرص دون أن تشعر بالحاجة إلى أخذ رأي الأرمن حول الموضوع. فالإنجليز دعموا أرمينيا مستقلة معتقدة بأنها تضع روسيا في مأزق من جهة وتحول دون تطور الدولة العثمانية من جهة أخرى.

آثار السياسة التي اتبعتها فرنسا

حظوة الامتيازات التي أعطاها السلطان سليمان القانوني لفرنسا عام 1535 تفضلا منه وتكرما، كانت بداية علاقات الصداقة بين البلدين. هذه العلاقات التجارية والسياسية استمرت وتوسعت مع امتيازات 1740. وفي مقابل ذلك فإن فرنسا خلال الحصار الثاني لفيينا، أعلنت عن موقفها من خلال مساعدتها للنمسا، وكانت حملة نابليون بونابرت على مصر التي انتهت بهزيمته استمرارا لهذا الموقف. إلا أن فرنسا التي تظاهرت بصداقتها مع الدولة العثمانية خلال حربها مع روسيا، عادت إلى موقفها المتناقض مع صداقتها عندما تفاهمت مع روسيا عام 1807.

وفي ثورة محمد علي باشا دعمت فرنسا هذه الثورة . لكنها خلال حرب القرم عادت ووقفت إلى جانب الدولة العثمانية.

ولما خسرت فرنسا في حربها مع ألمانيا عام 1870 بقيت محرومة بعد الوقت من المناورات السياسية ومن دورها في التأثير على الدول الأخرى. ومع أنها اشتركت في مؤتمر برلين لكن اشتراكها هذا لم يكن فعالا. إلا أن فرنسا عادت إلى دورها السابق مع إعلان الجمهورية مرة أخرى وصارت تدعم الصراع السياسي الذي تخوضه مختلف المجموعات وأصبحت المأوى والملاذ لهم ، ومن ذلك تعهدها بحماية الكاثوليك في الدولة العثمانية ولعبت دورا مهما في قضية الأماكن المقدسة التي كانت سببا في حرب القرم.

وفرنسا التي لم تركن إلى هزيمتها أمام ألمانيا بدأت بالتقارب مع روسيا التي كانت على خلاف مع ألمانيا أثناء مؤتمر برلين عام ، 1878 كما قامت بحل الخلاف في وجهات النظر مع إنجلترا، وبدأت هذه الدول الثلاث بالتنسيق فيما بينها لتمزيق الدولة العثمانية. وكان لفرنسا دور نشط جدا في وضع خطط التقسيم والتمزيق.

وفرنسا التي عملت في الفترة من عام 1830 وحتى 1921، للمحافظة على التوازن في الشرق الأوسط والبحر الأبيض بعد طرحه بشكل مصطنع على النحو الذي كان في المسألة الأرمنية وبزيادة نفوذها السياسي في الأناضول بعد أن احتلت هذه الأراضي عملت أيضا على تطوير علاقاتها مع الأرمن بعد التوقيع على معاهدة موندروس وأثناء احتلالها للأناضول. وحاولت احتلال الأراضي التركية بالتعاون مع الميليشات والمنظمات الأرمنية. وخلال المباحثات الدولية قدم الفرنسيون دعما كبيرا للأرمن كما هو معروف.

وبعد معاهدة سيفر وبلوغ حرب الاستقلال التركية النصر نلاحظ بداية التراجع في العلاقات الفرنسية- الأرمنية.

وبعد معاهدة لوزان بدت فرنسا وكأنها شطبت المسألة الأرمنية من سياستها .  ومن المؤسف أنه لم يكد يمر نصف قرن على ذلك حتى عادت فرنسا  لتجعل نفسها طرفا في المسألة الأرمنية التي استعرت مرة أخرى في السبعينيات. ونريد أن نعبر بكل أسى بأن الرأي العام الفرنسي هو الآخر بقي ساكتا حيال مقتل رجال الدولة الأتراك على يد الأرمن.


[1] لمزيد من المعلومات انظر: بايرام قودامان، المسألة الشرقية والتطور التاريخي، حلقة دراسية عن مشاكل تركيا ضمن التطورات التاريخية، أنقرة، 8-9 مارس/ آذار 1990 ، ص 59-63 وما بعدها ؛ بايرام قودامان، "أسباب ظهور المسألة الأرمنية" ، مجلة الثقافة التركية، 219،آذار- نيسان 1981، ص 240-149 ، وانظر كذلك : M.S Anderson, The Eastern Question 1774-1923,New York , 1978  أنور ضياء قارال، التاريخ العثماني، و.ج.، 4 ط أنقرة، 1983، ص 203-204 ؛ Edward M.Earl,Great Powers and Bagdad Railway, New York,1966 P 9-23

[2] جواد كوجوك، وثيقة هامة حول المسألة الشرقية؛ جامعة استنبول مجلة تاريخ كلية الآداب، عدد(آذار 1979)، ص 607- 638؛ أردال إيلتر، نظرية المسألة الأرمنية وثورات زيتون، ( 1780-1880)، أنقرة، 1988

[3] ناشدة كرم دمير، ما قاله التاريخ لأم أحد الشهداء: المسألة الأرمنية بتركيا. الطبعة الثالثة. أنقرة، 1982

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس