د. علي حسين باكير - عربي 21

لا يزال استحواذ تركيا على منظومة الدفاع الصاروخي الروسية (اس ـ٤٠٠) في العام ٢٠١٧ يشكّل معضلة رئيسية أمام العلاقات الأمريكية- التركية. واشنطن أخرجت تركيا من برنامج إنتاج مقاتلات (اف ـ ٣٥)، وامتنعت عن تسليم بضعة مقاتلات منها إلى أنقرة بالرغم من دفع ثمنها بشكل مسبق، وفرضت عقوبات عليها كذلك بذريعة اقتنائها لهذه المنظومة. 

تحاول الحكومة التركية فتح باب للتفاوض حول هذا الملف، لكنّ إدارة بايدن لا تزال ترفض هذا الأمر وتتمسك بضرورة أن تتخلّى تركيا عن هذه المنظومة بشكل كامل. وفي هذا السياق، انتقد وزير الدفاع التركي مؤخراً القيود التي فرضتها الولايات المتحدة على تركيا مشيراً إلى أنّ تلك "القيود لا تتوافق مع روح التحالف في حلف شمال الأطلسي وأن المنظومة الروسية ستستخدم لمواجهة التهديدات والمخاطر، ولذلك فهي لا تشكل خطرا على من لا ينوي مهاجمة تركيا".
 
ولا يزال الطرفان يدوران في حلقة مفرغة من التصريحات والتصريحات المضادة بشكل يمنع من إطلاق جولات حوار بناّءة لمناقشة هذا الموضوع. المعضلة الأولى باعتقادي تكمن في تحديد ماهية المشكلة. هل هي تقنيّة؟ هل هي سياسية؟ هل هي أيديولوجية؟ الولايات المتّحدة تحاول أن توحي بأنّ الموضوع تقنيّ بحت لكن هناك العديد من المؤشرات التي تؤكّد انّه ليس كذلك. وفقاً للإدّعاء الأمريكي، فانّ منظومة (اس ـ ٤٠٠) تعرّض تكنولوجيا مقاتلات (اف ـ ٣٥) الحديثة للخطر، ولذلك قررت أنه لا يمكن لأنقرة أن تجمع بين السلاحين، فإمّا أن تحصل على (اس ـ ٤٠٠) وتتحمّل العواقب، وإمّا أن تتراجع عن الصفقة. 

لكن بالعودة إلى بداية السجال حول المنظومة، سنجد أن الرواية التي تقول بأنّ واشنطن تعترض عليها لأنّها تعرّض أمن تكنولوجيا (أف ـ ٣٥) للخطر، قد ظهرت في وقت متأخر جداً في هذا النزاع الذي يمتد لسنوات. سبق هذه الادعاءات ذرائع سابقة كان من بينها "منظومة اس ـ ٤٠٠ لا تتوافق مع شبكة أنظمة الناتو"، و"إدماج منظومة اس ـ ٤٠٠ غير ممكن"، و"من غير الممكن لأعضاء الناتو اقتناء منظومات روسية"، ..الخ.

هذه الذرائع المختلفة تعني أنّ المنظومة قد لا تشكّل تهديداً لـ (اف ـ ٣٥) بالضرورة بشكل قطعي لكن الهدف من استخدام هذه الذريعة هو رفع سقف الضغط ضد أنقرة بأعلى شكل ممكن. علاوةً على ذلك، فانّ كانت المشكلة تتعلق بالشق التقني، من الممكن حينها تشكيل لجنة تقنية لإختبار هذا الادعاء بمعزل عن الحسابات الأيديولوجية والسياسية. 

في حقيقة الأمر كانت أنقرة قد طرحت بالفعل هذا الخيار لحل الأزمة عندما إقترحت تشكيل لجنة مشتركة من التقنيين، لكن واشنطن رفضت هذا المقترح وهو ما يشكك في حقيقة إدّعائها بأنّ الموضوع تقني لانّه لو كان كذلك، لسمح هذا الأمر للفريقين بالتحقيق في الموضوع والتوصّل الى نتيجة. فإمّا أنّ منظومة (اس ـ ٤٠٠) تشكّل خطراً بالفعل على مقاتلة (اف ـ ٣٥)، وحينها سيعطي هذا الأمر ذريعة لتركيا لتتملّص من الصفقة، وتقنع روسيا بضرورة مراجعتها لأنّ الابقاء على المنظومة سيحرم تركيا من (اف ـ ٣٥)، وإمّا أنّ المنظومة لا تشكّل خطراً حقيقياً على (اف ـ ٣٥) وحينها سيكون على واشنطن أن ترفع العقوبات والضغوط عن تركيا وترسل لها المقاتلات الحديثة

لكن إذا كان الموضوع سياسياً أو أيديولوجياً، فعندها يصبح حل الأزمة صعباً للغاية لأنّ هناك لوبيات تعمل داخل واشنطن على تقويض العلاقة بين الطرفين من خلال الدفع بالخلافات الأيديولوجية إلى الواجهة. تركيا لا تثق بهذا النوع من السياسات المدفوعة بأجندات أيديولوجية، لكنّها وكما أعلنت مراراً، ترغب في حل الموضوع ومنفتحة على مناقشته. 

الأمريكيون يريدون من أنقرة أن تتخلى عن الـ (اس ـ ٤٠٠)، لكن حتى لو فعلت تركيا ذلك، هل سيكون هناك ضمانات لتسليم مقاتلات (اف ـ ٣٥)؟، هل سيكون هناك ضمانات بانّ تركيا ستحصل على البديل (الباتريوت) فوراً؟ هل سيكون هناك ضمانات من أنّه لن يجري إبتزاز الجانب التركي كما يحصل الآن بالفعل بذريعة (اس ـ ٤٠٠)؟ هل سيتم تعويض انقرة مالياً اذا ما قامت بخرق الاتفاق مع روسيا؟ الجواب المُستقى من خضم التجربة الطويلة مع واشنطن هو "لا".

رفض هذا الخيار سيكون خطاً كارثياً لأنّه سيُعقّد من المشاكل الأخرى وسيحول دون إنشاء أرضية مشتركة للطرفين للتفاهم حول الخلافات المتزايدة بينهما. إذا ما استمر الأمر على هذا الحال لمدة غير قصيرة، فهذا يعني أنّ أجندات الطرفين في الشرق الاوسط ستعمل ضدّ بعضها البعض. هل يصب هذا الأمر في مصلحتهما؟ بالتأكيد لا، لكن متى كانت آخر مرّة حاول فيها الأمريكيون حل خلافاتهم بطريقة عقلانية مع تركيا .

عن الكاتب

د. علي حسين باكير

مستشار سياسي - باحث في العلاقات الدولية والشؤون الاستراتيجية


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس