سعيد الحاج - عربي 21

لعل التوصيف الأقرب للعلاقات الأمريكية- التركية في السنوات القليلة الأخيرة هو التذبذب القائم على أرضية مهتزة. كثير من المحطات والأحداث أثبتت أن هناك فجوة ثقة كبيرة بين طرفين يتفرض أنهما حليفان ضمن الناتو (بل القوتان الأولى والثانية فيه)، وتجمع بينهما شراكة استراتيجية منذ عقود.

نهايات فترة أوباما الثانية سجلت تراجعاً ملحوظاً في العلاقات بين الجانبين، بسبب الدعم الأمريكي المقدم لمجموعات مسلحة في سوريا تعدُّ امتداداً لحزب العمال الكردستاني، المنظمة الإرهابية التي تخوض حرباً انفصالية ضد تركيا. بشكل أو بآخر، كان من تراهم أنقرة منظمات إرهابية وانفصالية وخطراً على أمنها القومي؛ "الحلفاءَ المحليين" و"مقاتلين من أجل الحرية" بالنسبة لواشنطن.

بدت العلاقات أفضل نسبياً في عهد ترامب، لكنها لم تكن مستقرة فضلاً عن أن تتحسن وتتطور، بل شهدت فرض عقوبات أمريكية على تركيا، خصوصاً بسبب منظومة "إس 400" الدفاعية الروسية التي اشترتها أنقرة. ومع بايدن، ما زال مسار العلاقات غيرَ واضح بشكل كامل، وإن كانت الحملة الانتخابية ثم البدايات لا تبعث على التفاؤل فيما يبدو.

رغم تصريحات بايدن خلال حملته الانتخابية والتي تعرض فيها لأردوغان وتحدث سلباً عن تركيا، إلا أن الأخيرة سعت لتجنب أزمة جديدة مع الإدارة الديمقراطية الجديدة، خطاباً وممارسةً، داخلياً وخارجياً، بما في ذلك الحديث عن إصلاحات ديمقراطية ودستور مدني جديد، والتهدئة مع أوروبا وتأجيل تفعيل "إس 400"، وغير ذلك.

إلا أن الأيام القليلة الماضية حملت أربعة تطورات يمكن عدها إشارات سلبية ورسائل ضغط من واشنطن لأنقرة:

الأول، تأكيد الناطق باسم البنتاغون، جون كيربي، استمرار تجميد مشاركة تركيا في مشروع مقاتلات F35 بسبب شرائها منظومة S400، رغم أنها شريكة في المشروع وليس مجرد زبون يرغب في الشراء. حيث كررت هنا واشنطن عدم قبولها أي بدائل أو خيارات تعرضها تركيا باستثناء التخلي التام عن المنظومة الروسية. فقد قال كيربي نفسه إن بلاده تدعو تركيا "لعدم إبقائها في بلادهم"، في رد ضمني على ما يبدو على اقترح وزير الدفاع التركي خلوصي أكار قبل أيام بتطبيق ما اصطلح على تسميته بـ"نموذج كريت"، أي إبقاء المنظومة دون تفعيل (إلا لدى الضرورة كما عاد وصرح الوزير نفسه لاحقاً).

الثاني، تحميل تركيا المسؤولية كاملة على لسان نفس المتحدث؛ الذي قال إنه "كان أمام تركيا إمكانيات كثيرة على مدى السنوات العشر الماضية لشراء منظومات باتريوت من الولايات المتحدة الأمريكية، لكنها اختارت بدل ذلك S400". وهو تحدِّ مباشر ودحض لسردية أنقرة بأنها حاولت مراراً شراء الباتريوت دون أن تتعاون معها واشنطن قبل أن "تضطر" لصفقة مع روسيا، وهي السردية التي أقرها عليها ترامب خلال رئاسته.

الثالث، مشاركة الولايات المتحدة في عدة مناورات عسكرية مع اليونان على مقربة من الحدود التركية، بما في ذلك حشد قوات لافتة مؤخراً شملت 110 مروحيات من طراز "بلاك هوك"، و25 مروحية هجومية من نوع "أباتشي"، و10 مروحيات نقل ثقيلة من طراز "شينوك"، وأكثر من 1800 عربة عسكرية. ورغم أنه لم يصدر ردة فعل حادة من أنقرة على المناورات ونشر القوات، إلا أن هناك استشعاراً في كواليس أنقرة أن في الأمر رسالة انحياز واضحة إلى جانب أثينا في ما يتعلق بأزمة شرق المتوسط، كما يحذر بعض الكتاب الأتراك بأن في الأمر انتهاكاً لاتفاقية لوزان 1923 التي تمنع نشر قوات عسكرية هناك.

الرابع، تأخر اتصال بايدن بنظيره التركي أردوغان، على خلاف عدد من قادة المنطقة (الذين تأخر الاتصال بهم كذلك)، ورغم توقع حصوله في الفترة السابقة بعد تواصل البلدين على مستوى الخارجية والأمن القومي مؤخراً. ولئن كان الأمر مفتوحاً على عدة تفسيرات محتملة، إلا أنه حين يوضع جنباً إلى جنب مع الإشارات الأخرى يحمل معنى سلبياً ولا شك، ويحيل إلى فتور - مقصود فيما يبدو - من واشنطن تجاه أنقرة مع الإدارة الجديدة.

في هذا الإطار لفتت الأنظار خلال الأيام القليلة الماضية عدة تقارير ومقالات أمريكية تحدثت عن تراجع أهمية الشرق الأوسط برمته بالنسبة لإدارة بايدن، مثل تقرير "بوليتيكو"، وأخرى تحدثت عن تمايز دول المنطقة في الأهمية بالنسبة لبايدن، كمقال ستيفن كوك في فورين بوليسي.

في مقاله هذا، صنف كوك تركيا ضمن الدول لن تكون في بؤرة اهتمام إدارة بايدن في المرحلة المقبلة، مشيراً إلى أنها "لم تعد تملك أصدقاء كثراً" في واشنطن، وراصداً عدداً من الإشارات السلبية تجاه أنقرة، بما فيها رفض مقترحاتها بخصوص "إس 400" وانتقادها بخصوص بعض المحاكمات على خلفية الانقلاب الفاشل في 2016.

في الحقيقة، لا تملك تركيا رفاهية التراجع عن صفقة منظومة S400 بعد إتمامها واستلامها، إذ يعرض ذلك مصداقيتها وعلاقاتها مع موسكو لهزات لا تريدها. كما أن إبقاءها غير مفعلة - وهو سيناريو أرجح نسبياً من سابقه - سيعرضها بالتأكيد لانتقادات المعارضة، من باب أنها أهدرت 2.5 مليار دولار على السلاح دون استخدامه؛ في ظروف اقتصادية صعبة.

نظرياً، تملك تركيا عدة خيارات بخصوص S400، رغم أن الولايات المتحدة لم تتجاوب حتى اللحظة مع أي منها. لكن خيار أنقرة الأفضل هو مقترحها للإدارة الأمريكية بتشكيل لجنة مشتركة من الجانبين - أو بمشاركة الناتو - لفحص مدى دقة ادعاء إضرار المنظومة الروسية بالأسلحة الأمريكية، وخصوصاً مقاتلات F35. وهو مقترح عرضته أنقرة على إدارة ترامب دون استجابة، وتجدده مؤخراً لإدارة بايدن دون تفاعل كذلك.

هذا الرفض لأي خيار آخر غير "إخراجها من بلادهم" كما جاء على لسان الناطق باسم البنتاغون، وصمُّ واشنطن آذانَها عن أي مقترح أو سيناريو آخر يدفع أنقرة للتفكير بأن الإدارة الجديدة تستخدم الصفقة الروسية ذريعة لتوتير العلاقات معها، أكثر من كونها سبباً رئيساً لهذا الفتور والتصعيد ضدها. وبالتالي يطرح ذلك أسئلة حول مواقف معينة قد تكون واشنطن تريدها من أنقرة في ملفات أخرى، وتستخدم هذا التصلب ورقة ضغط عليها لدفعها نحو ما تريد.

وفي هذا الإطار، وفي غياب أي مؤشرات على مراجعة بايدن موقف بلاده من دعم المنظمات الانفصالية في شمال سوريا وكذلك ملف غولن، تأتي المناورات العسكرية مع اليونان لتزيد من قلق أنقرة حيال احتمال انحياز واشنطن بشكل كامل إلى جانب أثينا في ملف شرق المتوسط، الذي يمثل أولوية بالنسبة لها مؤخراً.

هذا القلق التركي تحول إلى خطوات عملية، من قبيل التعاقد مع جماعات ضغط وشركات حقوقية في الولايات المتحدة للدفاع عن حق تركيا في العودة لمشروع F35 وتوضيح موقفها بخصوص S400، وهو ما يمكن قراءته من إحدى الزوايا بعدِّهِ تراجعاً في آمال تركيا بقرب حوار جاد ومثمر مع الإدارة الجديدة، بحيث تحوَّلَ رهانها من السياسي إلى الحقوقي والقانوني. وهي مخاوف ستبقى قائمة ومتفاعلة لحين حصول أول لقاء فعلي بين بايدن وأردوغان، هاتفياً أو شخصياً، إذ حينها فقط ستتضح ملامح الرؤية الأمريكية للتعامل تركيا في المرحلة المقبلة.
 

عن الكاتب

سعيد الحاج

باحث في الشأن التركي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس