عبد الوهاب بدرخان - العرب القطرية

ليس واضحاً الفارق بين ما تدعيه أرمينيا عن "مذابح الأرمن" على أيدي جنود السلطنة العثمانية، قبل مئة عام، وما تدعيه تركيا عن مقتل مئات آلاف الأتراك على أيدي "عصابات الأرمن"، سوى في من يكتب التاريخ ومن يقرأه ومن يوظفه. أواخر القرن التاسع عشر كانت الإمبراطورية أمضت بضعة عقود وهي في تراجع، بفعل الاختراقات الأوروبية عبر الأقليات الدينية، ثم أزف انهيارها الأخير مع ازدياد عوامل ضعفها عشية اشتعال الحرب العالمية الأولى وعدم اختيارها الاصطفاف المناسب بين فريقي تلك الحرب.

وكما كان الانقسام عالمياً، كذلك كان على المستوى الداخلي، فالأرمن ساندوا القوات الروسية التي اجتاحت الأراضي العثمانية شرقاً، إذ كانوا يريدون الاستقلال عن السلطنة، أسوة بسواهم من القوميات كاليونان والرومانيين والصرب والبلغار فضلاً عن العرب والبوسنيين. بديهي أن كل ذلك لم يعد في انشغالات تركيا اليوم، لكن الماضي يطاردها لأسباب لها علاقة بالحاضر في أحيان كثيرة.

هل كان هذا مبرراً لاضطهادهم ولحملة التهجير الواسعة لإخراجهم من الأناضول وبقوافل راجلة أدت إلى هلاك مئات الآلاف منهم؟ عثمانيو الأمس اعتبروا أنها الحرب التي تبرر كل المحظورات، وأتراك اليوم يقولون إنه التاريخ، وأرمن الأمس واليوم انتشروا بين أرمينيا ومختلف بقاع العالم حاملين قضيتهم ويطالبون بإنصاف شعبهم بدءاً بالاعتراف بما حصل، ثم بماذا؟ هذا هو السؤال الذي يؤرق أنقرة، فالاعتراف مقدمة لسلسلة تداعيات ربما تبدأ بالمطالبة بتعويضات تكبل الاقتصاد التركي لعقود مقبلة، ولا تنتهي بحسم المسألة الأرمنية بل تمتد إلى قوميات أخرى.

طوال مئة عام تجاهلت تركيا الحديثة مواجهة هذه القضية، نسجت لنفسها مساراً بعيداً تماماً عن "الإمبراطورية"، فألغت الخلافة الإسلامية واعتنقت العلمانية، وأصبحت حليفاً موثوقاً به من جانب الغرب الأطلسي بل خط تماسه الأول في الحرب الباردة ضد الشرق السوفيتي. غير أن «اللوبي الأرمني» النشيط أبقى ملف القضية مفتوحاً عالمياً، إذ إنهم اندمجوا جيداً في مجتمعاتهم الغربية واستخدموا كنيستهم وأحسنوا توظيف جالياتهم كقوة ناخبة ذات تأثير.

وبعد الحرب العالمية الثانية وتكريس محرقة اليهود (الهولوكوست) كجريمة إبادة في القانون الدولي، سعى الأرمن إلى انتزاع اعترافات حكومية بقضيتهم تحت مسمى "الإبادة الجماعية". وثمة مفارقة تكمن في أن إسرائيل بين الدول التي رفضت هذا الاعتراف، للحفاظ على "الإبادة" وصفاً ملازماً لـ "الهولوكوست" حصرياً، وكذلك لاستبعاد احتمال ملاحقتها بجرائم مماثلة ارتكبتها ضد الشعب الفلسطيني.

في الأعوام الأخيرة أصبح هناك أكثر من عشرين دولة بين أوروبا وأميركا الشمالية والجنوبية تعترف بأن الأرمن شعب تعرض لعملية "إبادة جماعية"، فضلاً عن منظمات حقوقية حول العالم. وخلال هذه السنة أطلقت مراجعات للحرب العالمية الأولى في ذكراها المئوية، فاكتسب الرابع والعشرون من أبريل بعداً خاصاً باعتباره الذكرى المئوية لـ "مذابح الأرمن"، ثم تحول موسماً لممارسة ضغوط غير عادية على تركيا.وعدا المناسبة في حد ذاتها، لا شك في أن هناك أسباباً أخرى سلطت الأضواء على الحدث وركزت الضغوط على ضرورة الاعتراف به كجريمة "إبادة"، بل ضرورة اعتراف تركيا نفسها بذلك.

من أهم تلك الأسباب أن طبيعة الحكم في أنقرة تغيرت، فهو أول حكم ديمقراطي متواصل وأول عهد مستقر اقتصادياً منذ ثلاثة عشر عاماً، بعد نحو قرن من التقلب بين حكم عسكري واضطراب اقتصادي على شفير الإفلاس. ثم إن حكومة حزب العدالة والتنمية أبدت استعداداً مزدوجاً لمعالجة كل ملفات الأقليات، سواء بإصلاح السياسة الاجتماعية لإنصاف جميع المتضررين من عهود سابقة ومنهم الأرمن، أو بالإصلاح السياسي آملة في إيجاد تسويات تاريخية كالتي باشرتها أخيراً مع الأكراد. بل إنها فتحت ملف تطبيع العلاقات مع أرمينيا ووقع البلدان للمرة الأولى اتفاقات زيوريخ عام 2009 للمباشرة بهذا التطبيع على أن يحال الخلاف إلى لجان مؤرخين تحصر حقيقة ما حدث وتقننها، وتسهيلاً لذلك اتخذت قراراً بفتح الأرشيف العثماني.

كان هذا المسار مريحاً للحكومات الغربية التي تريد الحفاظ على الحليف التركي وإرضاء "اللوبيات" الأرمنية، لكن يبدو أنه لم يكن ليحل عقدة المتشددين الأرمن بدليل التلكؤ في عرض الاتفاقات لإقرارها في البرلمان الأرميني، بل إنها سحبت أخيراً. ما يعني أن يريفان، مدفوعة بمزاج دولي تكاثر فيه المناوئون لتركيا، عادت إلى النهج السابق لتقديم القضية في ضوء معطيات جديدة. وكانت ضغوط للأمم المتحدة أدت عام 2005 إلى تمرير فقرة في القانون التركي تجرم أي اعتراف بمذابح الأرمن.

أما الصيغ التي كانت تركيا مستعدة لتبنيها فهي تلك التي توضح أن ما حصل كان في سياق الحرب وأن الطرفين خسرا ضحايا بشكل متزامن، وبالتالي فإن الاهتمام بالمستقبل وتطوير العلاقات بين البلدين يمكن أن يفتح مجالات لمعالجة جروح الماضي. وتستند أنقرة خصوصاً إلى أن مسيرة تركيا ما بعد الدولة العثمانية برهنت قطيعة مع الماضي. وبطبيعة الحال فإن هذا المنطق لم يناسب الأرمن.

لا شك أن الحملة الأخيرة أظهرت لأنقرة كم أن رهانها على دخول الاتحاد الأوروبي بات محفوفاً بالاعتراضات. وكان هذا الاستحقاق الذي أعدت له كل الإصلاحات والقوانين اللازمة اصطدم بمعارضة مكتومة من جانب العديد من الحكومات، كونها دولة مسلمة، وستستخدم قضية الأرمن الآن لتبديد كل الآمال التركية. ويبقى أن صعود التطرف الديني أخيراً وشعور مسيحيي الشرق بأنهم مستهدفون قد لعبا دوراً في إعادة الملف الأرمني إلى الواجهة.

لكن الولايات المتحدة وعدداً من الحكومات الأوروبية تواصل إبداء الواقعية بالدعوة إلى حل ثنائي بين الدولتين وبمعزل عن الجدل حول "الإبادة". فللاعتراف بالنسبة إلى تركيا، عدا عن أثره المعنوي، تداعيات قانونية تريد تجنبها لأنها تنعكس على اقتصادها، وحتى على استقرارها السياسي. هذه مخاطر ماثلة دائماً في تركيا وقد كافحت باستمرار لاستبعادها.

عن الكاتب

عبد الوهاب بدرخان

كاتب لبناني


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس