سعيد الحاج - الجزيرة نت

في الرابع عشر من شباط/فبراير الجاري أعلنت وزارة الدفاع التركية نهاية عملية “مخلب النسر 2” شمال العراق، بعد أربعة أيام فقط من إطلاقها.

وقد أكدت مصادر الوزارة تدمير القوات المسلحة التركية، بالتعاون مع جهاز الاستخبارات، عشرات المواقع والمراكز لمنظمة حزب العمال الكردستاني وتحييد عشرات مسلحيه كذلك.

في المقابل، قال وزير الدفاع خلوصي أكار إن اليوم الأخير من العملية شهد إعدام الكردستاني 13 رهينة – 12 تركياً ومواطناً عراقياً – كان يحتجزهم منذ سنوات في إحدى مغارات منطقة “غارا”، قبيل دخول القوات الخاصة لإنقاذهم.

 

استراتيجية جديدة

تأسس العمال الكردستاني عام 1978 وبدأ عمله العسكري ضد تركيا بغية الاستقلال بدولة قومية للكرد عام 1984، ومنذ ذلك العام بدأت تركيا رحلة مكافحة الحزب ومواجهته داخلياً وخارجياً.

خارجياً كان شمالُ العراق معقلَ المنظمة المصنفة على قوائم الإرهاب، مستفيدةً من ضعف سيطرة الحكومة المركزية وإنشاء إقليم كردستان العراق بعد حرب الخليج الثانية عام 1990 ثم غزو العراقي في 2003. وعلى مدى العقود الماضية، بنت أنقرة استراتيجيتها لمحافحة الكردستاني والحد من عملياته داخل أراضيها والتسلل عبر حدودها، وقد عقدت لأجل ذلك عدة تفاهمات مع الجانب العراقي بما يتيح لها “الملاحقة الساخنة” لمسلحي التنظيم داخل الأراضي العراقية.

اتضح لتركيا مع الوقت أن هذه الاستراتيجية غير كافية، إذ كلفتها مواجهة الكردستاني وفق بعض التقارير غير الرسمية أرواح أكثر من 30 ألفاً من مواطنيها ومئات مليارات الدولارات من خزينتها، فضلاً عن الآثار السياسية والاجتماعية وما أتاحه الملف لدول وأطراف أخرى بالتدخل والضغط عليها بأشكال مباشرة وغير مباشرة.

في السنوات القليلة الأخيرة طورت تركيا استراتيجيتها نحو أخرى أكثر مبادرة وأقرب لمفهوم الحرب الاستباقية أو “ضرب الإرهاب في أوكاره قبل أن يأتينا” حسب السردية الرسمية التركية.

في هذا الإطار نفذت تركيا في أيار/مايو من عام 2019 عملية “المخلب”، ثم أتبعتها بـ”المخلب 2” و”المخلب 3″، ثم “مخلب النسر” و”مخلب النمر”، وصولاً لعملية “مخلب النسر 2” الأخيرة. وتهدف هذه الاستراتيجية لتقويض قدرات العمال الكردستاني ومنعه من التحشيد والتسليح والتدريب والتخطيط وبالتالي شن العمليات ضدها، وهي عمليات متدرجة تبني كل واحدة منها على سابقتها بالنسبة للأهداف وعمق الأراضي العراقية التي نفذت فيها.

 

عملية سنجار

كانت نهاية عملية “مخلب النسر 2” بهذه الطريقة إيذاناً ببدء مرحلة جديدة في استراتيجية مكافحة تركيا للكردستاني داخل الأراضي العراقية. ذلك أن إعدام الرهائن بهذه الطريقة تسبب بغضب شعبي كبير في تركيا، ما وضع على الحكومة ضغوطاً إضافية لضرورة الرد على ذلك بشكل مباشر وقوي وسريع. كما أن الانتقادات التي وجهتها المعارضة للحكومة، ومنها عدم القدرة على حماية أرواح الرهائن أو تنفيذ عملية فاشلة انتهت بمقتلهم، زادت من تلك الضغوط.

ولذلك فقد حرصت الحكومة على التواصل مع أحزاب المعارضة، تحديداً مع حزبَيْ الشعب الجمهوري والجيد، وشرح تفاصيل العملية بالصور والوثائق لرئيسَيْهما، ثم وضع أعضاء البرلمان في الصورة من خلال وزيرَيْ الدفاع والداخلية. ولئن فُهِمَتْ هذه الخطوات في إطار تخفيف الضغط عن الحكومة، إلا أنها في نفس الوقت مؤشر على حرصها على حشد أكبر تأييد بخصوص أي خطوات مستقبلية قد تلجأ لها، وفي مقدمتها عملية سنجار المرتقبة.

ذلك أن تركيا ما فتئت تلوّح بعملية عسكرية لإخراج مسلحي الكردستاني من منطقة سنجار، التي باتت في السنوات الخمس الأخيرة معقلاً ثانياً له بعد قنديل، حسب أنقرة. بل إن العمليات الأخيرة في شمال العراق، بما فيها العملية الأخيرة، هي من زاوية ما محطات إعداد لهذ العملية المفترضة.

بيد أن عملية سنجار تختلف جذرياً عن العمليات السابقة، ميدانياً وعسكرياً وكذلك سياسياً. فالمنطقة تبعد عن الحدود التركية حوالي 130 كلم في عمق الأراضي العراقية، ما يعني أن الإعداد لها، والمتطلبات العسكرية واللوجستية وكذلك التحديات الميدانية التي يمكن أن تواجهها أكبر بكثير مما سبقها، فضلاً عن أنها ستكون أصعب إذ تهدف لإنهاء تواجد المنظمة الإرهابية في معقل كبير ومهم لها، وبالتالي فهي كذلك مرشحة لأن تكون أطول زمناً وأكثر خسائرَ.

وتبعاً لذلك، فإن الحسابات السياسية للعملية المحتملة تصبح أكبر تعقيداً. إذ سيكون موقف بغداد هنا أكثر أهمية وتأثيراً ويتوقع له أن يكون أحدَّ رفضاً، بسبب الحرج الذي قد تسببه العملية للحكومة. كما أن عملية بهذا الحجم ستحتاج للتنسيق مع قيادة إقليم كردستان العراق في الشمال، والتي يجمعها بالكردستاني خلافات تاريخية وصراع تقليدي. من جهة ثالثة، تدرك أنقرة أن موقف واشنطن من عملية كهذه بالغ الأهمية، لا سيما في ظل التوتر الحالي معها، لكنها تراهن أن الموقف الأمريكي سيكون مختلفاً في العراق عنه في سوريا، إذ هنا العملية موجهة للعمال الكردستاني مباشرة وفي غياب قوات أمريكية  على الأرض.

بالنظر لكل ما سبق، يمكن القول إن خيار تركيا المفضّل هو إقناع الحكومة المركزية في بغداد بالقيام بعملية عسكرية ضد العمال الكردستاني في سنجار أو الضغط عليه لإخلائها، بشكل منفرد أو بالتنسيق والتعاون مع أربيل. وهو أمر ما زالت أنقرة تعمل على إقناع بغداد به، دون أن تـُظهر الأخيرة إشارات حقيقية على قبولها ذلك واستعدادها له.

ولذلك، عملياً، تسعى تركيا فيما يبدو لعملية مشتركة مع بغداد – وأربيل ربما – بما يعالج هواجس التدخل الخارجي والمطامع في الأراضي العراقية، وبالتالي يخفف الحرج عن الحكومة العراقية، وبما ينعكس كذلك على فرص نجاح العملية وتقليل متطلباتها وزمنها وخسائرها وتأثيراتها على تركيا.

 

الانعكاسات

سياسياً، بدأت انقرة بالإعداد لهذه العملية منذ ما قبل عملية مخلب النسر 2 الأخيرة، من خلال لقاءات الوفود التركية المشكّلة من وزارتي الخارجية والدفاع وجهاز الاستخبارات مع القيادات السياسية والعسكرية والأمنية في كلٍّ من بغداد وأربيل، وكذلك الزيارات المقابلة التي قامت بها وفود عراقية لتركيا.

يعني ذلك أن سؤال عملية سنجار المطروح على تركيا انتقل من مساحة “هل” إلى مساحات “متى وكيف ومع من وبأي حدود”، بمعنى اتخاذ القرار مع مرونة التفاصيل واستمرار الإعداد، وتصيّد التوقيت والظروف الأمثل لتحقيق أهداف العملية.

وعليه، فإن انعكاسات هذه العملية المرتقبة على العلاقات التركية – العراقية منوطة بالعملية نفسها، شكلها وحدودها والأطراف المشاركة بها، فضلاً عن التفاصيل العسكرية والميدانية…الخ.

فالعملية يمكن أن تنفذ على شكل تكثيف للقصف الجوي (وهو خيار بديل عن العملية في الأصل، لأنه لن يحقق ما تهدف إليه). ويمكن أن تكون عملية محدودة وقصيرة أو طويلة وموسّعة، ويمكن أن تقوم بها تركيا منفردة أو بالتعاون مع بغداد و/أو أربيل. ولكل واحد من هذه السيناريوهات ثمة ارتدادات وتأثيرات مختلفة متوقعة.

لكن في العموم، ورغم الموقف العراقي المعلن، يمكن ملاحظة “تفهّم” عراقي ضمني لدوافع تركيا في العمليات الأخيرة، خصوصاً وأن بغداد غير قادرة على لجم الكردستاني ومنع عملياته الموجهة ضد تركيا انطلاقاً من أراضيها. أكثر من ذلك، ثمة ما يشير إلى أن بغداد قد وُضِعَتْ في صورة العمليات الأخيرة قبل إطلاقها بقليل، ومن ذلك الزيارات المكثفة من الجانبين والتواصل الحثيث قبيل العمليات، وكذلك إعلان عملية “المخلب” الأولى خلال زيارة الرئيس العراقي برهم صالح إلى أنقرة في أيار/مايو 2019.

وعليه، فليس من المتوقع أن يكون للعملية المفترضة تأثيرات سلبية كبيرة على العلاقات بين أنقرة وبغداد، لا سيما وأن الجانبين يسعيان مؤخراً إلى تطوير العلاقات التجارية والاقتصادية بينهما، حيث يعدُّ العراق الشريك الاقتصادي الأول لتركيا في العالم العربي وتعد هي له – وللإقليم – متنفساً وطريقاً للعالم الخارجي.

فإذات ما أضفنا إلى ذلك تعاون الجانبين في مواجهة استفتاء استقلال كردستان العراق، والتعاون اللاحق في عدة مسارات أمنية وعسكرية، والدور التركي الإيجابي في المعادلة العراقية الداخلية، وتراجع حدة الرفض العراقي للعمليات التركية في الشمال مؤخراً، يتضح بأن العلاقات الثنائية بين البلدين باتت أكثر حصانة من الهزات والتأثر بعملية سنجار أو غيرها، لا سيما إن تمت بالتفاهم والتنسيق، وهو ما تسعى له أنقرة.

 

عن الكاتب

سعيد الحاج

باحث في الشأن التركي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس