د. علي حسين باكير - عربي 21

تعليقاً على إجراء مصر مناقصة للبحث عن الطاقة في شرق البحر الأبيض المتوسط راعت فيها حدود الجرف القاري لتركيا، أبدى وزير خارجية تركيا خلال الأسبوع المنصرم انفتاح بلاده على التفاوض مع القاهرة بشأن ترسيم الحدود البحرية بينهما وتوقيع اتفاقية لإنشاء منطقة اقتصادية خالصة. 

وأشار تشاووش أوغلو إلى أنّ مسار العلاقات بين الطرفين يسمح بإمكانية التفاوض مع مصر في هذا الخصوص، مؤكّداً أنّ القاهرة لم تنتهك الحدود الجنوبية للجرف القاري التركي في الاتفاق الذي وقعته مع اليونان عام ٢٠٢٠، وأنّها تواصل أنشطة الاستكشاف الزلزالي داخل جرفها القاري دون الدخول في الجرف القاري التركي، موضحاً "تواصل مصر احترام جرفنا القاري، ونحن نرحب بذلك".

فُهِمَ من الخطوة المصرية الأخيرة أنّ القاهرة لا تزال مهتمّة بالخيار التركي شرق البحر المتوسط، وهو ما ردّ عليه الجانب التركي بالمثل. ومن الملاحظ أنّ الطرفين يتبادلان الرسائل بشكل غير مباشر مؤخراً وذلك بموازاة التواصل الذي يتم بينهما منذ فترة على مستوى القنوات الاستخباراتية المفتوحة. 

ولعل الخطوات التي اتّخذتها القاهرة في الملف الليبي على سبيل المثال لا الحصر وتضمّنت قرار فتح سفارة في طرابلس واستقبال مسؤولي حكومة الوفاق الوطني، تعدّ إحدى المؤشرات على نتائج مثل هذه الخطوط المفتوحة بين الطرفين. على المستوى الثنائي، يمكن كذلك ملاحظة ارتفاع التبادل التجاري بين الطرفين في فترة ما قبل الجائحة، وتلويح تركيا بجزرة استيراد المزيد من الغاز من مصر.

لكن وبالرغم من هذه المؤشرات، فلا يمكن القول إنّ هناك موقفاً واحداً لدى النظام المصري، ومن المهم أن نرصد المؤشرات المتزايدة عن تضرّر مصالح النظام المصري نتيجة الاتفاقات الاماراتية-الإسرائيلية من جهة، والمصالحة الخليجية من جهة أخرى حيث لم يكن للقاهرة أي كلمة تذكر في الملفّين بالرغم من أنّ الأولى تمس مصالحها الاقتصادية بشكل مباشر، والثانية كانت مصدر تكسّب للنظام.

ومع أنّ حسابات النظام قد لا تتناسب بالضرورة مع مصالح الدولة المصرية في كثير من الحالات، إلا أنّه بدأ يشعر ربما بأنّ وقوعه تحت تأثير إماراتي كبير منذ العام ٢٠١٣ يحرمه من الكثير من الفرص الإقليمية ويقلّص من أي دور مصري محتمل في الإقليم، كما أنّه من الممكن أن يشكّل تهديداً للمصالح الحيوية المصرية على المدى البعيد، لكن من غير الواضح ما إذا كان النظام سيتخذ أي قرار حاسم في هذا الشأن في أي وقت في المستقبل. 

الأكيد أنّ النظام المصري وفي سياق محاولته توسيع مساحة المناورة لديه والتقليل من التبعية الكبيرة للإمارات في القرارات المهمّة، شرع في اتخاذ مواقف مغايرة إلى حد ما عمّا كان عليه الوضع سابقاً وقد أدخله ذلك في تناقضات واضحة في المواقف. فعلى سبيل المثال، لم يكن النظام راضياً عن المصالحة الخليجية لكنّه لم يغب تماماً عن قمّة العلا، وبدا واضحاً أنّه يحاول أن يوازن بين الإمارات والسعودية من جهة، وبين هذه الجهات وقطر من جهة أخرى ليستفيد من الجميع.
 
نفس الأمر ينطبق على الحالة شرق المتوسط، حيث إنّ مصالح الدولة المصرية في الترسيم البحري كانت ولا تزال ترتبط بمصالح تركيا لأنّه الخيار الذي يعطي القاهرة أكبر مساحة ممكنة هناك. وبالرغم من أنّ التقنيين في الخارجية والاستخبارات أكّدوا دوماً على أهمّيته، فقد عقدت القيادة السياسية اتفاقاً مع اليونان من أجل كسب دعم أوروبي وإسرائيلي. اليوم، تشير الرسائل غير المباشرة إلى محاولة الموازنة مجدداً بين تركيا واليونان. 

تبدو هذه التوازنات اليوم هشّة وتكتيكية وليست مبنيّة على أسس صلبة، وخير دليل على ذلك موقف الخارجية المصريّة الذي تتّهم فيه تركيا بالتدخّل بشؤون الدول العربية، وهو موقف تحاول القاهرة أن تظهر من خلاله أنّها لا تزال دولة مهمّة للدول العربية الأخرى في وقت تعاني هي فيه من عجز كبير في لعب أي أدوار إقليمية مهمّة. 

من غير الممكن لمثل هذه التقلّبات والتناقضات في المواقف أن تستمر طويلاً، كما أنّ إرضاء جميع الأطراف سيكون أمراً مستحيلاً، وعليه فإن على النظام المصري أن يختار. لا يمنع ذلك من بقاء الخطوط مفتوحة والمصالح قائمة مع جميع اللاعبين، لكنّ الخيارات الاستراتيجية يجب أن تظهر في السياسات الخارجية بشكل واضح، وإلاّ فإنّ أي مبادرة مصريّة لا يمكن التعويل عليها.  

عن الكاتب

د. علي حسين باكير

مستشار سياسي - باحث في العلاقات الدولية والشؤون الاستراتيجية


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس