د. سمير صالحة - تلفزيون سوريا

جاء تاريخ 24 من نيسان "الأرمني" مرة أخرى وها نحن نعود إلى حالة الاستنفار في علاقاتنا التركية الأرمنية والتركية الغربية. الأزمة هي تحرّك عواصم وقوى سياسية غربية، إلى استغلال هذا الملف و"مد يد العون" للدياسبورا الأرمنية في العالم ومحاولة الجلوس فوقه لإدارته بحسب مصالحها السياسية والاقتصادية والانتخابية. رأينا عواصم عربية كثيرة أيضا تتدافع لتصفية حساباتها مع تركيا عبر تحريك الملف من خلال رسائل تضامن وزيارات وإعلان مواقف سياسية إلى جانب يريفان أو الأقليات الأرمنية المنتشرة في لبنان وسوريا.

بعد أكثر من 90 يوما على انتخاب جو بايدن رئيسا ورسالة التهنئة التركية المتأخرة بعض الشيء من قبل الرئيس رجب طيب أردوغان جرى مساء الجمعة المنصرم الاتصال الهاتفي المنتظر بين الرئيسين. حوار الرئيسين واكبه بعد ساعات اتصالات متلاحقة بين وزيري خارجية البلدين والناطق باسم الرئاسة التركية إبراهيم كالن ومستشار الأمن القومي جاك سوليفان. الواضح هو أن الموضوع الأرمني وقرار بايدن استخدام عبارة "الإبادة" هذا العام كان يتقدم على غيره من المسائل الساخنة.

نفذ الرئيس الأميركي جو بايدن وعده الانتخابي للدياسبورا الأرمنية واعتمد مصطلح "الإبادة في توصيف أحداث عام 1915 في شرق الأناضول. البعض في الإعلام التركي يتساءل عن أسباب توقيت الاتصال الهاتفي الذي تم بين بايدن والرئيس التركي رجب طيب أردوغان. هل كان ينتظر فرصة تاريخ 24 من نيسان ليبلغ أنقرة أنه سيلتزم بما قاله للناخب الأرميني في الولايات المتحدة حول استخدام مصطلح "الإبادة" بعكس ما اعتمده العديد من الرؤساء السابقين حول أحداث عام 1915 في شرق الأناضول واعتبارها "فاجعة إنسانية"؟ هل كان يبحث عن وسيلة امتصاص ردة الفعل التركية عبر اتصال مباشر مع نظيره أردوغان ومحاولة طمأنته أن الخطوة لن يكون لها أي ارتدادات على مسار العلاقات وهي غير ملزمة لأميركا في تبني أي موقف سياسي أو قانوني ضد تركيا؟

قد يكون السيناريو الأقرب هو أن الرئيس الأميركي أراد تبرير خطوته الأرمنية هذه واطلاع القيادة السياسية التركية عليها قبل إعلانها مع التأكيد على أنها مجرد رأي شخصي له ووعد انتخابي أطلقه غير ملزم لإدارته ولبلاده ولا يمكن ترجمته كموقف سياسي أو قانوني ضد أنقرة. لكن الاحتمال هو أن تركيا لن تقبل بما قاله بايدن في مسألة بالغة الحساسية بالنسبة لها وأن الرد التركي سيأتي بأكثر من اتجاه بما يؤثر سلبا على مصالح أميركا في علاقاتها مع تركيا.

ركز المتحدثان الرسميان باسم الرئاسة في تركيا وأميركا بعد الاتصال الهاتفي على اتفاق أردوغان وبايدن لعقد اجتماع مشترك على هامش أعمال قمة حلف شمال الأطلسي المرتقبة في حزيران المقبل في بروكسل. إلى جانب ذلك ردد أكثر من مسؤول في الإدارة الأميركية الجديدة أن تركيا تعتبر حليفا استراتيجيا مع الإشارة إلى أهمية دورها ووجودها داخل منظومة الناتو لكن ذلك لم يغيب حقيقة توتر العلاقات التركية الأميركية والتي قد يتحول الموقف الأخير لبايدن حيال المسألة الأرمينية فيها إلى مواجهة علنية مباشرة تطيح بكثير من المعادلات والتوازنات في العلاقات بين البلدين. أنقرة سترد حتما على قرار وضع العربة أمام الحصان في مسار العلاقات بين البلدين وفي مسألة يعتبرها الأتراك خطا أحمرَ في علاقاتهم مع بقية الدول. وهي تقول إنها ذكرت واشنطن أكثر من مرة بأنها لم تكن العقبة أمام أي حوار تركي أرميني وأن هناك أكثر من تقرير أميركي حول عدم وجود مجازر ارتكبت بل أجواء حرب تضرر منها الجميع قبل مئة عام وأن الرئيس الأميركي ويلسن نفسه كلف لجنة دولية مؤلفة من 50 خبيرا برئاسة الجنرال هاريورد عام 1919 لتقصي الحقائق حول الموضوع وأنها أعدت تقريرا مطولا بحدود 1500 صفحة لا يتحدث عن مجازر أو إبادة في شرق الأناضول ضد الأرمن بل عن كوارث إنسانية دفع ثمنها كلا الطرفين التركي والأرمني.

بايدن لن يكون أول من يلجأ إلى استخدام العبارة فرونالد ريغان فعل ذلك في العام 1981 وارتدادات خطوة من هذا النوع سيكون سياسيا يوتر العلاقات بين البلدين وبين تركيا وأرمينيا أكثر مما هي متوترة. الدياسبورا تحتاج إلى خطوة من هذا النوع تبقي الموضوع الأرميني دائم السخونة لقطع الطريق على استهدافات العولمة ومخاطر الذوبان السياسي والاجتماعي واللغوي للشتات في دول العالم. اللوبيات الأرمينية ستحاول تحويل الموقف الأميركي إلى وثيقة ترفعها إلى المحاكم في الغرب لمطالبة تركيا كوريث للدولة العثمانية لدفع تعويضات أو إعادة أراضي أو الاعتراف والاعتذار عما جرى قبل أكثر من 100 عام.

يتطلع بايدن إلى حساباته الانتخابية ولعبة التوازنات السياسية الداخلية وما تقدمه له الدياسبورا الأرمنية من دعم في الولايات المتحدة الأميركية. وهو يريد تحويل الورقة الأرمينية إلى عصا يلوح بها بوجه الأتراك عند اللزوم. وهو سيعمل على تمرير رسائل أن ما جرى في قره باغ والتنسيق التركي الروسي هناك لن يمر بسهولة. وكذلك محاولة الانتقام من الانفتاح التركي الزائد على موسكو في ملفات ثنائية وإقليمية. وأنقرة تقول إنها حاولت أكثر من مرة مع أرمينيا والدياسبورا بوساطات غربية بينها الوساطة الأميركية عام 2000 وإنشاء لجنة المصالحة الثلاثية التي أفشلتها لوبيات التشدد الأرميني عبر تهديد الأسماء المشاركة فيها على مرأى ومسمع واشنطن وأن رسائل الانفتاح التركي على يريفان لم تتوقف بين العامي 2005 و2009 دون أي تجاوب أرميني حقيقي.

أين وكيف سيكون الرد التركي؟

وجه أردوغان أكثر من رسالة انفتاحية إلى الإدارة الأميركية الجديدة تحت عنوان دبلوماسية أربح أربح وركز على المصالح المشتركة للبلدين الواجب حمايتها بمنظور طويل الأمد وأن القناعة التركية هي في تبني حقيقة أن مصالحنا المشتركة مع الولايات المتحدة تفوق بكثير حجم الخلافات في الرأي.

لكن بايدن قرر المغامرة وتجاهل أن تركيا تمتلك مفتاح حل العديد من الأزمات التي تتابعها أميركا في أفغانستان وجنوب القوقاز وأوكرانيا وسوريا والعراق ومنطقة البحر الأسود والمضائق التركية وأن المصالح الاستراتيجية المشتركة للبلدين أبعد من التوتر في صفقة صواريخ إس 400 أو إبعاد أنقرة عن برنامج المقاتلة إف 35. كان هناك شعور تركي أن بايدن سينفذ وعده الانتخابي للأرمن وسيغامر في دفع العلاقات مع أنقرة نحو الهاوية لذلك جاءت رسائل أنقرة باكرة حيث أعلن وزير الخارجية التركي مولود جاووش أوغلو، قبل يومين أن بلاده تتفاوض مع روسيا بشأن شراء دفعة جديدة من أنظمة صواريخ إس 400 هذا إلى جانب التقارب التركي الصيني الاستراتيجي البعد. تحريك مسائل المجازر المرتكبة والتصفيات العرقية ضد الهنود الحمر والزنوج وسكان الإسكيمو وإذابة هويتهم الاجتماعية واللغوية والجغرافية سيكون بين الخيارات أيضا. كل مساحات التقاطع الجغرافي والسياسي والاستراتيجي قد تتحول إلى جبهات مواجهة تركية أميركية أيضا. في سوريا والعراق وجنوب آسيا والقوقاز وحوض البحر الأسود.

للتذكير فقط كيف تتم عمليات تأجيج الفتن وزرعها ونشرها خدمة لمصالح الشيطان قبل غيره. قصة معروفة نكررها فقط: أراد الشيطان إيقاع الفتنة بين سكان قرية فوقع اختياره على حمار يرعى بسلام وسط أحد البساتين. فك حبله وتركه يدخل بستان الأرض المجاورة. وبقية القصة معروفة حول كيف تحولت القرية بكاملها إلى ساحة كر وفر بين قتلى وجرحى. الشيطان يقول لا ذنب له نيته كانت صافية فك حبل الحمار ليصل إلى العشب في أنحاء البستان.

 

عن الكاتب

د. سمير صالحة

البرفسور الدكتور سمير صالحة هو أكاديمي تركي والعميد المؤسس لكلية القانون في جامعة غازي عنتاب وأستاذ مادتي القانون الدولي العام والعلاقات الدولية في جامعة كوجالي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس