ياسر عبد العزيز - خاص ترك برس

صريحة ومعمقة

بعد تصريحات، أغلبها جاء من أنقرة، عن عودة العلاقات مع القاهرة، وهو ما فسره الإعلام الموالي للنظام في مصر على أنه هرولة من تركيا وانتصارا للنظام، لاسيما بعد الخطوة الأولى التي اتخذتها أنقرة من جانبها وبناء على طلب النظام في مصر بطلب التهدئة من المعارضة المصرية متمثلة في وسائل الإعلام التي تبث من إسطنبول، جاء ذلك قبل أن تصدر الأوامر لإعلام النظام بعدم التعرض لتركيا وسياستها، وإن استمر استهداف المعارضة المصرية في تركيا وإعلامها.

وفي خطوة أرادت بها تركيا تأكيد جدية رغبتها في الدخول في علاقات أكثر دفئا مع القاهرة، بعثت أنقرة وفدا دبلوماسيا دون مستوى الوزير للقاهرة، استمرت زيارة الوفد التركي ليومين، أجرى خلالها الوفد المصري ونظيره التركي مباحثات اصطلح الطرفين على تسميتها بالمباحثات الاستكشافية، وهي التسمية التي يجب الوقوف عندها كثيرا، إذا أن المصطلح غالبا ما يطلق على تلك التي تضم خصوما لا أصدقاء، فعلى الرغم من أن العلاقات السياسية انقطعت خلال السنوات السبع الماضية، إلا أن العلاقات التجارية وحتى الاستخباراتية ظلت متواصلة ولم تنقطع، حتى أن الميزان التجاري بين الدولتين شهد خلال عام ما قبل فيروس كورونا طفرة بينية، وإن مال لصالح تركيا، ويبدو أن المباحثات كانت جادة وحادة، حتى أن البيان المشترك الذي أعقب المباحثات ابتعد قليلا عن التوصيفات البرتوكولية والدبلوماسية واختار وصفا سياسيا، واصفا إياها بأنها كانت مباحثات جادة ومعمقة، ما يعطي انطباعا بأن المباحثات لم تكن حميمية كما كان منتظرا وأن جبل الجليد لم يذب بحرارة جو القاهرة، بل إن السنوات السبع الماضية كانت كفيلة لتعميقه.

الحراك الموازي

في الوقت الذي كان الوفد التركي في القاهرة كان وفد رفيع المستوى قد طار بالتوازي إلى ليبيا وفد رفيع المستوى إلى ليبيا، حيث ضم وزير الدفاع خلوصي أكار، ووزير الخارجية مولود تشاووش أوغلو، ورئيس جهاز الاستخبارات هاكان فيدان، ورئيس الأركان يشار غولر، فالملف الليبي يعد واحد من الملفات المهمة التي سيعمل عليها أقرانهم في القاهرة، ومن ثم يجب ترتيبه بشكل قوي حتى لا يكون نقطة ضعف في مباحثات القاهرة، لاسيما بعد تصريحات وزير الخارجية في المجلس الانتقالي نجلاء المنقوش لوسائل إعلام إيطالية بأنها فتحت حوارا مع تركيا لسحب قواتها من ليبيا، وفي الوقت الذي كانت الدبلوماسية المصرية مشغولة بملف سد النهضة موجهة بوصلتها نحو الجنوب، كان حلفاء النظام من دول حصار قطر، قد فتحوا ملف العلاقات التركية مع حليفهم في النظام المصري، فطار ولي عهد الإمارات للقاء ولي عهد السعودية في زيارة حملت مصالح مشتركة والهدف تركيا، ففي الوقت الذي تحاول تركيا مد جسور عودة العلاقات مع السعودية من خلال الملك سلمان، حيث تلقى ملك السعودية اتصالا هاتفيا من الرئيس التركي لتأكيد الهدف وفتح قنوات الاتصال، كان ابن زايد يلتقي الفاعل الحقيقي في المملكة ولي العهد السعودي، رغم محاولات أنقرة فتح قنوات اتصال بأبوظبي، وفيما يبدو أن الدبلوماسية التركية دخلت من الباب الخطأ ومن ثم لم تجلس مع الشخص الصحيح الذي يمكن أن يسمع لصوت العقل وخطاب السياسة.       

أهداف طرفي المباحثات 

الوفد التركي ذهب إلى القاهرة في أجندته ملفات مهمة يهدف إلى تحقيقها أهمها تقاسم ثروات شرق المتوسط، وانخراط مصر في مفاوضات بشأن ترسيم الحدود البحرية مع قبرص واليونان دون وجود تركيا، ويهم تركيا بشكل كبير إحداث اختراق في علاقة القاهرة مع كل من اليونان وقبرص لاسيما وأن اتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع قبرص واليونان الموقعة في عام 2020 حذفت المنطقة المثيرة للجدل الخاصة بحدود جزيرة كاستيلوريزو، والتي تصر تركيا على أنها تقع داخل حدودها البحرية، وبالتوازي وبشكل عضوي يرتبط هذا الملف بملف الوجود التركي في ليبيا والذي يعد قاعدة متقدمة للأخيرة في مربع الصراع، لاسيما بعد اتفاقية ترسيم الحدود بينها وبين الحكومة المعترف بها في ليبيا وقت توقيع الاتفاقية، ومن ثم فإن وجود القوات التركية في ليبيا يعد ضمانة لها من تقلبات الساسة الليبيين واختلاف ميولهم ويضاف إلى ذلك قدرة كل من الإمارات والسعودية بقدراتهم المالية والمخابراتية إحداث إنقلاب في المواقف، في ظل حديث عن إعادة تسليح حفتر، وإعادة تدويره سياسيا وتقديمه على أنه مرشح محتمل لرئاسة ليبيا، لحين إيجاد بديل مقنع من قبل الإمارات والسعودية.

لكن على المستوى التجاري يحتاج البلدان بعضهما البعض، فمن ناحية تحتاج تركيا مصر كسوق كبير (ما يقارب الــ 105 مليون نسمة) فيما يحتاج النظام في مصر تصدير غازه ونفطه، إلا أنه يريد أيضا أن تكون تركيا ورقة ضغط على حلفائه في الخليج الذين ذهبوا إلى مصالحة قطر دون النظر إلى مصالحه، ويحتاج النظام المصري إلى حبة مسكنة من الصداع الذي تسببه وسائل إعلام المعارضة التي تبث من إسطنبول، لاسيما مع حالة الفشل الذريع التي يعيشها في إدارة ملف مياه النيل وعدم التوصل لحل في أزمة سد النهضة، بعد الخطأ الاستراتيجي بتوقيع اتفاق المبادئ الذي ترتكن إليه إثيوبيا وتمضي في تنفيذ مشروعها غير آبهة بمطالبات القاهرة التوقف عن الملء الثاني.  

مستقبل العلاقات الثنائية وورقة المعارضة 

لقراءة مستقبل العلاقات بين القاهرة وأنقرة يجب العودة لمفردات البيان الصادر بعد المباحثات الاستكشافية حيث أوضح البيان أن المباحثات تطرقت إلى القضايا الثنائية، فضلا عن عدد من القضايا الإقليمية، لا سيما الوضع في ليبيا وسوريا والعراق، وضرورة تحقيق السلام والأمن في منطقة شرق المتوسط، ما يعني أن العلاقات الثنائية مربوطة بحل أزمة الأوزون والقضاء على فيروس كورونا، وإن كان تعبيري في ذلك مجازي، لكنه يكشف مدى عمق الأزمة بين الطرفين، ولتأكيد هذا المفهوم سنرجع مرة أخر للبيان الذي نص على أن (الجانبين سيقومان بتقييم نتيجة هذه الجولة من المشاورات والاتفاق على الخطوات المقبلة).

ما يؤكد أن الملفات الخلافية معقدة إلى حد لا يمكن حلها في جلسة ولو امتدت ليومين، وهو ما توقعناه في مقالنا المنشور بعنوان (هل قرر أردوغان رفع المعارضة المصرية من على جهاز التنفس؟) والذي استشرفنا فيه ما ستنتهي إليه مباحثات الوفد التركي في القاهرة.

ولعلى تصريح الرئيس أردوغان بعد انتهاء المباحثات والتي أكد فيها على تمسك بلاده بإعادة الوحدة مع الشعب المصري، مؤكدا وجود نظرة إيجابية لدى تركيا تجاه الشعب المصري، لاحظ! 

ومع وجوب عدم إغفال التحركات المتوازية لكل طرف وللأطراف الفاعلة في ملف عودة العلاقات التركية مع النظام المصري، فإن النظام المصري أيضا بدأ يتحرك بشكل لا يفقده أوراق ضغطه، فانطلاق مناورات بحرية وجوية بين مصر وفرنسا خلال الأسبوع الجاري، يشكل ورقة ضغط على تركيا المتدهورة علاقاتها بفرنسا، وإذا كانت المناورات في البحر الأحمر، إلا أنها تلامس رغبات تركيا فيه، وبين هذا وذاك، لم ترسم المعارضة المصرية بعد خريطة مصالحها، وإن كانت زيارة وفد من جماعة الإخوان لحزب سعادات التركي تشكل خطأ استراتيجيا لا يمكن فهمه، ولو فسر على أنه في إطار اللقاءات التي تجريها الجماعة مع بعض المؤسسات التركية المجتمعية، لتوضيح أحوال ومتطلبات المصريين اللاجئين في تركيا!  

إذا كان وضع المعارضة المصرية حساس، إلا أن حساسية لقاء حزب معروف تاريخه مع الحزب الحاكم أكثر حساسية، وهو ما فتح الباب لإعلام النظام وإعلام حلفائه في الخليج لينسج فخاخا بنقل ما دار في لقاء الجماعة بحزب سعادات، وكأنهم حضروا الاجتماع المغلق، وبعيدا عن كل ذلك فإن المعارضة المصرية تحتاج أن تقف مليا وتتحسس خطاها وتنسق مواقفها وألا يعمل فصيل فيها منفردا حتى ولو كان الفصيل الأكبر، فمن لم يُجد التخطيط فلن يحصل على النتيجة النهائية التي سعى إليها مهما بذل في سعيه مبلغا، ومن ثم فعلى المعارضة أن تتحلى بمزيد من الحكمة، و ضبط النفس نصف الحكمة والنصر رفيق الصبر.

عن الكاتب

ياسر عبد العزيز

كاتب وباحث سياسي ومدير مركز دعم اتخاذ القرار في حزب الوسط المصري سابقا.


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس