د. سمير صالحة - تلفزيون سوريا

أجمعت الكثير من التصريحات والتحليلات على أن لقاء القمة بين الرئيسين التركي رجب طيب أردوغان ونظيره الأميركي جو بايدن في الرابع عشر من الشهر الحالي كان إيجابيا انفتاحيا مثمرا بعكس الكثير من التوقعات. أردوغان حمد الله أن الموضوع الأرمني لم يتم التطرق إليه رغم إعلانه وهو في الطريق إلى الاجتماع أنه لن يفوت هذه الفرصة، وبايدن نسي كل ما قاله حول القيادة التركية قبل عام فكلام الليل يمحوه النهار. هل يعني ذلك أن رزمة كبيرة من ملفات الخلاف والتوتر بين البلدين قد سويت وعادت الأمور إلى سابق عهدها؟ لا طبعا كل طرف ما زال على مواقفه ومتمسك بما يقول ويريد لكن المتفق عليه هو إحالة المسائل على فرق العمل المشتركة التي ستتولى مهام إيجاد المخرج المناسب الذي يرضي الجانبين. أردوغان لم يصعد وبايدن لم يتصلب فكل طرف دعا للتركيز على الجانب الممتلىء من الكوب، والتنبه إلى ضرورة عدم إهدار فرص التنسيق والتعاون في قضايا إقليمية مهمة مثل أفغانستان وليبيا وشرق المتوسط وسوريا كان لها الأولوية لحسم مسار الحوار ونتائجه.

لم يكن أحد يتوقع صفقة أميركية تركية كبيرة لكن المفاجأة قد تكون مسارعة الطرفين للإعلان عن حاجتهما إلى بعضهما البعض، وإبداء الرغبة بالعودة إلى لغة الحوار وطاولة التفاوض بعيدا عن التهديد والتصعيد.

حقيقة أخرى هي التأثير الإيجابي للعديد من اللقاءات السياسية والعسكرية والتصريحات الانفتاحية التي سبقت القمة، والتي لعبت دور المسكن قبيل الاجتماع. العنوان العريض للقمة هو هدنة جديدة وإرجاء موعد ومكان المواجهة بانتظار التحولات في مواقف وقرارات الطرفين، ومتابعة التغيرات الإقليمية في الملفات التي تعنيهما.

وصف أحد الدبلوماسيين المتقاعدين الأتراك والذي خدم لسنوات طويلة في العواصم الغربية بايدن وهو يفاوض أردوغان أنه كان يتصرف مثل السياسيين السوفيات "ما هو لنا فهو لنا أما ما هو لكم فهو على طاولة المفاوضات" لكن الرئيس التركي كان جاهزا للتعامل معه على الطريقة العثمانية في الإدارة أيضا "نصغي إلى ما تقولون لكننا نحن من يتخذ القرار".

العامل الروسي كان حاضرا في القمة التركية الأميركية بقدر ما كانت تركيا حاضرة في القمة الأميركية الروسية التي عقدت بعد يومين. ملفات إقليمية كثيرة نوقشت بين بايدن وبوتين تعني تركيا ومواقفها وسياساتها ويتقدمها الملف الأوكراني والأفغاني والسوري وتوترات البحر الأسود والقوقاز وشرق المتوسط، وربما شكل ذلك سببا إضافيا لنجاح الحوار بين أردوغان وبايدن. امتحان القمة في بروكسل ذكرنا مرة أخرى أنه لا فرص كثيرة لأميركا والغرب بإغضاب أنقرة أو احتمال التخلي عنها لكنه قال لنا ايضا إن الغرب لن يعطي تركيا كل ما تريده لأنه يعرف أن الجغرافيا السياسية التي توجد فيها تحتم عليها الاستماع والتعاون مع خصومه مثل إيران وروسيا والصين.

قطعت أنقرة الطريق على احتمال حدوث تفاهمات أميركية روسية على حسابها في القمة المرتقبة بين الرئيسين بايدن وبوتين بإعلانها باكرا أنها تريد فتح صفحة جديدة من العلاقات مع الإدارة الأميركية الجديدة، ورحبت واشنطن بالمواقف التركية التي تقول إن أنقرة لن تتخلى عن تحالفاتها وعلاقاتها مع الغرب وحلف شمال الأطلسي. لم تتغير الأمور كثيرا هناك علاقات تركية روسية ما زالت قوية وهناك انفتاح تركي واسع على الصين، وعلى واشنطن أن تقبل أنقرة كما هي اليوم، وهي التي تريد تعويض ما فقدته نتيجة تدهور علاقاتها مع الغرب في العامين الأخيرين.

حقيقة أولى هي أن لا أحد يضمن أن أردوغان لن يتصل ببوتين خلال أيام لتقييم حصيلة اجتماعات جنيف في القسم المتعلق بالمصالح التركية الروسية منها. وحقيقة ثانية لا يمكن إغفالها وهي أن استطلاعات الرأي الاميركية قد تقول العكس لكن أرقام الداخل التركي تصنف إدارة البيت الابيض المهدد الأول لمصالح الأتراك في العالم. بايدن يرحب بفكرة تسليم أمن مطار كابول إلى الأفغانيين بالتنسيق مع تركيا بعد سحب جنوده من هناك، وأنقرة تقول إن لاعبين محليين وإقليميين لا يمكن تجاوزهم في خطوة استراتيجية من هذا النوع بغض النظر عن تصنيفاتهم وتوصيفاتهم بينهم نفوذ طالبان وباكستان وروسيا والصين في الملف الأفغاني.

يعلن بايدن أنه سعيد لنتائج الحوار مع أردوغان لكنه يحتفظ بورقة المؤسسات الأميركية مثل الكونغرس والمؤسسة العسكرية وجهاز الاستخبارات جانبا ليحركها ضد تركيا عند الضرورة. بالمقابل لم تبحث أنقرة في السابق عن سبل ووسائل إرضاء روسيا في ملفات إقليمية متداخلة حساسة لأن الغرب كان دائما إلى جانبها. اليوم تغضب العواصم الغربية أنقرة لأنها تتمنع عن إعطائها ما تريده فلماذا تفوت موسكو فرصة تاريخية من هذا النوع ولا تستغل الفرص لتقديم المزيد من العروض المغرية لتركيا على المستوى الثنائي والإقليمي؟

ورطة اللاعبين الثلاث في الملف السوري تهدد مصالحهم أكثر فأكثر يوما بعد آخر فمتى نسمع الجديد حول مسار الأزمة السورية على ضوء الحوار التركي الأميركي الروسي، وهي المفاجأة التي ننتظرها منذ مدة طويلة؟ فرنسا ماكرون تعطي الأولوية لليبيا والصين ترصد أفريقيا وجنوب أسيا ومنطقة الخليج، وألمانيا وإنكلترا منشغلتان بتحصين مواقعهما داخل أوروبا، وإيران بدأت تعاني من الضغط الإسرائيلي والعربي في مواجهة سياسة التمدد التي تعتمدها، وهي فرصة للاعبين الثلاث الأتراك والأميركيين والروس لدفع الأمور نحو الحلحلة في سوريا فهل يحدث ذلك؟

سأل جار نصر الدين خوجا (جحا تركيا) وهو يبحث أمام باب الحظيرة ليلا عما يفعله فقال أسقطت مفتاح الحظيرة في الداخل وأنا أفتش عنه. فسخر منه مستغربا ولماذا لا تبحث عنه حيث فقدته. فرد الخوجا هناك ظلمة وهنا ضوء القمر وأنا لا أريد أن تقول زوجتي التي تنظر من النافذة إنني لم أفعل شيئا. أنقرة وواشنطن أسقطتا مفتاح العلاقات منذ سنوات، ويبدو بعد لقاء القمة الأخير أنهما قررتا البحث عنه في المكان المناسب.

 

عن الكاتب

د. سمير صالحة

البرفسور الدكتور سمير صالحة هو أكاديمي تركي والعميد المؤسس لكلية القانون في جامعة غازي عنتاب وأستاذ مادتي القانون الدولي العام والعلاقات الدولية في جامعة كوجالي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس