د. علي محمد الصلابي - خاص ترك برس

أحدث السلاجقة تأثيراً واضحاً في الدول التي حلَّت محلَّهم أو جاءت بعدهم في مختلف الجوانب العسكرية، فيذكر ابن الأثير: أن ديوان زنكي كان يشبه إلى حد كبير دواوين السلاجقة في نظمه من كثرة الحاشية، وجمال الزينة، ونفاذ الأمر ، وهذا ـ بدون شك ـ من آثار نظم السلاجقة الواضحة في أتابكتهم الذين ترسموا خطاهم، فساروا عليها في جميع أحوالهم، وبهذا كان الزنكيون أول من طبق النظم السلجوقية، وعلى رأسها النظم العسكرية ، فكان عماد الدين زنكي (ت 541 هـ)  رجلاً عسكرياً؛ أعتنى بجيشه وبتنظيماته، فجعل ديواناً خاصاً يُعنى بطعامهم، ومرتباتهم، وأسلحتهم، وكان يتولى أمور الجيش أمير حاجب يرجع للسلطان مباشرة ، وكل هذه التنظيمات قد وجدت عند السلاجقة، وجاء من بعده ابنه سيف الدين غازي (ت 544 هـ)  الذي قد تربَّى في بلاط السلاجقة، فكان لهذا تأثير كبير في سياسته، واطلاعه على أمور الحرب، وإدارة الدواوين، فكان يقلِّد السلاجقة في زيه، وركوبه، وإظهار قوته .

أشار القلقشندي إلى أن أهم الدول والإمارات التي قامت في المنطقة كانت تستمد نظمها من السلاجقة في معظم الأحيان، وذكر بعض المؤرخين: أن بعض تلك الدول قد حذت حذو السلاجقة في كل شيء كالدولة الأيوبية ، فقد اعتاد الجيش المصاحب لشيركوه على الأنظمة المتوارثة عن السلاجقة، فكانت أنظمتها العسكرية وسياستها الحربية مستمدة من الأنظمة السلجوقية التي عايشها الأيوبيون الأوائل عندما كانوا في كنف عماد الدين زنكي، بل كان مجيء صلاح الدين إلى مصر في جيش من جيوش نور الدين ابن عماد الدين، فقد اعتمد نور الدين محمود نفس النظم التي كان السلاجقة قد أرسوا قواعدها، والتي كان أبوه زنكي قد اعتمدها ـ من قبل ـ وأفاد منها إلى حدٍّ كبير، وجاء الأيوبيون والمماليك في أعقابهم، ليسيروا بهذه النظم نحو مزيد من النصح والشمول ، حيث يذكر القلقشندي: أن المماليك تأثروا في نظمهم بالسلاجقة بفعل ما أخذوه عن الأيوبيين الذين نقلوه بدورهم عن السلاجقة عن طريق أتابكتهم ، ومن هنا يؤيد عماد الدين خليل الرأي القائل بأن المنطقة كلها قد تأثرت في هذه المرحلة التاريخية بشكل كبير، أو صغير بما أنشأه السلاجقة من نظم حربية مختلفة .

ويذكر حسن حبشي: أن السلاجقة كانوا من أسباب التأثير الحضاري غير المباشر للشرق على الغرب، والذي نجم عن الاحتكاك العسكري عبر الحروب الصليبية ، كما تأثرت الأجهزة المدنية والعسكرية في الدولة العثمانية بما وجد لدى السلاجقة؛ حتى اعتبرت امتداداً لتلك التنظيمات ، ليس بحكم أصل النشأة، فالجميع أتراك، وإنما بتأثير الامتداد والتعاقب الحضاري، ويمكن محاولة تتبع هذه التأثيرات السلجوقية بدراسة المجالات العسكرية المتنوعة، والتي منها:

1 ـ أجناس وعناصر الجند:

قام السلطان صلاح الدين بإعادة تنظيم الجيش بعد فتحه لمصر، فصار مكوناً من الأكراد والأتراك والتركمان بشكل رئيس ، وفي هذا التغيير دلالة على ثقته الكبيرة في هذه العناصر العسكرية من خلال المعرفة السابقة لها في جيش نور الدين، وإقصاء العناصر التي كان يتألف منها الجيش الفاطمي، ولا زالت متأثرة بالولاء للدولة الفاطمية ، ويذكر المقريزي التزام المماليك بعد الأيوبيين في الاعتماد على هذه العناصر، بقوله: إنه بعد زوال دولتهم بقيام عبيدهم المماليك الأتراك، فحذَوا حذو مواليهم بني أيوب، واقتصروا على الأتراك، وشيء من الأكراد، واستجدُّوا من المماليك التي تجلب من بلاد الترك شيئاً كثيراً .

2 ـ تكوين الجيش:

تكوَّن الجيش الأيوبي من فرق كانت تعرض أمام السلطان فرقة بعد فرقة وموكباً بعد موكب، بلغ عددها مئة وسبعة وستين فرقة، وكانت تعرف وقتذاك باسم طلب يتكون ما بين مئتي فارس إلى مئة إلى سبعين فارساً ، وكانت عملية جمع الجيش الأيوبي للقيام بالحملات الكبرى مشابهة في أساسها ومضمونها لما عند السلاجقة، فيتم استدعاء فرق الأمراء الذين أقطعوا المدن والأقاليم للمشاركة بجيوشهم في هذه الحملات .

3 ـ فرق الجيش:

كان في الجيش الأيوبي فرقة النشابين الذين يرمون بالنشاب، وفرقة النفاطين، وهم الذين يرمون النفط لإحراق حصون الأعداء والمنجنيقيون، وهم رماة المنجنيق ،

والعيارون رماة الحجارة، وكانوا يملؤون مخالي  الخيل بها ، كذلكَ أتباع العسكر، أو الأوباش والرعاع ويسمون سوقة، أو حوش ، ويذكر المقريزي: أن الجاويشية قد وجدوا عند المماليك، وكانت مهمتهم تنظيم سير مواكب سلاطينهم ، وهذه كلها تنظيمات وفرق مشهورة في الجيش السلجوقي، ووجودها عند الأيوبيين والمماليك يدل دلالة واضحة على التأثير السلجوقي في الجيش الأيوبي، والمملوكي .

4 ـ الخطط والفنون القتالية:

استعمل الأيوبيون في قتالهم طريقة المصاف، بتقسيم الجيش إلى ميمنة، وميسرة، وقلب بالإضافة إلى المقدمة والساقة، فيصف شاهد عيان كيف قسم السلطان صلاح الدين جيشه إلى ميمنة وميسرة وقلب استعداداً للقتال ، كما استخدم التقسيم في معركة الرملة كذلك ، وهو من الأساليب التي اتخذها السلاجقة في قتالهم، ومعلومٌ: أن هذا التقسيم نظام قديم ومعروف، ولكن التشابه في استخدامه يشير إلى التأثير السلجوقي على الأيوبيين كجانب من جوانب التأثير لديهم ، وعندما نأتي لدراسة عهد الدولة الأيوبية بإذن الله تعالى سوف نرى الخطط والفنون القتالية التي تأثر بهاالأيوبيون بالسلاجقة، كالحرب الخاطفة والمباغتة، وتطويق العدو، والكمائن، واستدراج العدو ومحاولة تحديد مكان المعركة ، وغير ذلك.

5 ـ الإقطاع العسكري:

يقول المقريزي بعد حديثه عن الوزير نظام الملك والإقطاع؛ موضحاً التأثير السلجوقي في هذا المجال على من جاء بعدهم: واقتدى بفعله من جاء بعده من الملوك من أعوام بضع وثمانين وأربعمئة إلى يومنا هذا . هذا كما وجد عند الأيوبيين كناحية من نواحي التأثير المتعددة للسلاجقة على الدولة الأيوبية، ويرى بعض المؤرخين: أن الإقطاع ذا الصبغة العسكرية في عهد صلاح الدين، كان استمراراً لوجوده السابق عند السلاجقة وأتابكتهم .

ووجد الإقطاع أيضاً عند المماليك بعد ذلكَ بينما احتفظ العثمانيون بما كان متبعاً لدى السلاجقة في مجال الإقطاع ، وفي ذلكَ كلهُ دلالة واضحة على التأثير الذي أحدثه نظام الإقطاع العسكري السلجوقي لدى الدول التي جاءت بعد السلاجقة .

6ـ التقسيم العشري:

اتبع السلاجقة التقسيم القائم على تقسيم القادة العسكريين ابتداءً من كبار القادة أمراء المئة ومروراً بأمراء الطبلخانات، ثم العشرات فالخمسات، وهي أقل هذه الدرجات وهي من التنظيمات المهمة في عصر السلاجقة، وكان لها تأثيرها البالغ في بعض من جاء بعدهم من الدول، فكان عماد الدين زنكي قد اتبع هذا التنظيم العسكري، ثم اتخذ أساساً لتنظيمات الأيوبيين في هذا المجال ، وبلغَ أوج استقراره ونضجه لدى المماليك بعد ذلك .

7 ـ الألقاب العسكرية:

أ ـ الأتابك: كانت بداية هذا اللقب عند السلاجقة، وتطور، حتى وصل بالأتابك من الناحية العمليَّة بعد ذلكَ توريث وظيفته، حتى على مستوى امتلاك الحكم، فكان صلاح الدين قد تدرع بكونه أتابكاً للملك الصالح إسماعيل بن نور الدين، وعن هذا الطريق ضمَّ سوريا، كما سيأتي عند حديثنا عن صلاح الدين في الدولة الأيوبية بإذن الله، كما ظلَّ هذا اللقب حرفة مستقلة كذلكَ حتى عهد المماليك .

ب ـ الإسفهسلار: وكانت مهمته الإشراف على الجند في العصر السلجوقي، ثم انتقل اللقب عن طريق الدولة النورية إلى الدولة الأيوبية .

ج ـ اللباس العسكري: يفصِّل القلقشندي التأثيرات السلجوقية في هذا المجال على الأيوبيين عن طريق أتابكتهم، فكان اللباس العسكرية الأيوبي مماثلاً، سواء في ذلك القادة، أو الجند، فكانوا يلبسون الكلوتات  الصفر على رؤوسهم مكشوفة بغير عمائم، وذوائب شعورهم مرخاة تحتها، سواء في ذلكَ المماليك والأمراء وغيرهم ، ويوافقه محسن محمد على ذلك، حتى إن التغييرات التي أحدثها بعض الأتابكة، كسيف الدين غازي ابن عماد الدين زنكي ثاني أتابكة الموصل (544 هـ) ، حينما استحدث حمل السنجق  على رأسه، وألزم الجند بشد السيوف في أوساطهم، وجعل الدبابيس تحت ركبهم عند الركوب، قام السلطان صلاح الدين بتطبيق ذلك ، ويؤكد ذلكَ القلقشندي بقوله عن صلاح الدين بأنه: جرى على هذا النهج، أو ما قاربه ، ومعلوم: أن اللباس عند الأتابكة قبل تعديلات سيف الدين غازي هو بذاته لباس السلاجقة، وبذلكَ يكون التأثير السلجوقي قد انتقل بواسطة أتابكتهم، وكانت من عادة السلاجقة استخدام الجاليش في مقدمة الجيش السلجوقي، وهو عبارة عن خصلة من شعر الحصان توضع في أعلى الراية أمام الجيش، ثم انتقلت على مقدمة الجيش، وقد انتقلت هذه العادة إلى الأيوبيين .

فهذه بعض الإشارات العابرة حول أثر نظم السلاجقة في الدول الأخرى.


المصادر والمراجع:

علي محمد الصلابي، دولة السلاجقة وبروز مشروع إسلامي لمقاومة التغلغل الباطني والغزو الصليبي، ص 336-340.
محمد كوبريلي، قيام الدولة العثمانية، ترجمة أحمد السعيد سليمان، الهيئة المصرية العامة للكتاب 1993 م.، ص 171.
نظير سعداوي، جيش مصر في أيام صلاح الدين، مكتبة النهضة المصرية 1959 م، ص 20.
محسن محمد حسين، الجيش الأيوبي في عهد صلاح الدين، مؤسسة الرسالة، بيروت 1406 هـ  1986 م، ص 129.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس