د. سمير صالحة - أساس ميديا 

اشتعل الداخل التركي مرّة أخرى في أعقاب تطوّرات المشهد المرعب في كابول. هل يستمرّ الحوار والتنسيق التركي الأميركي في ما يتعلّق بالتطوّرات في أفغانستان أم تختار أنقرة لعب الورقة الروسية الصينية الإيرانية هناك بعد الانتكاسة الأميركية الكبيرة التي كانت متعمَّدة ومقصودة حسب الكثير من التحليلات التركية بهدف إشعال فتيل الانفجار في آسيا الوسطى وتعريض المصالح التركية نفسها هناك للخطر؟

أوّل ارتدادات التطوّرات في أفغانستان على الداخل التركي كانت حالة الانقسام في طرح أفكار وضرورات المرحلة المقبلة في التعامل مع الملف الأفغاني. فقد دعت المعارضة إلى سحب القوات التركية من كابول، والتريّث في موضوع الاعتراف بطالبان بانتظار قرارات المجتمع الدولي، والتركيز على قطع الطريق أمام محاولات اختراق الحدود الإيرانية التركية من قبل آلاف اللاجئين. أمّا تحالف "الجمهور" الحاكم فدعا إلى الحوار والتنسيق مع طالبان من دون تريّث، وضرورة إبقاء القوات التركية في كابول لأنّها لم تنفّذ مهامّ قتالية في أفغانستان، والتحرّك في أكثر من اتجاه للعب دور الوسيط والمسهِّل في الحوار بين الأطراف الأفغانية لتجنيب البلاد الكارثة. وأطلق الرئيس التركي رجب طيب إردوغان وفريق عمله أكثر من موقف انفتاحي باتجاه طالبان، داعياً إلى ضرورة الحوار معها، فردّت طالبان التحيّة بأحسن منها عبر المتحدّث الرسمي باسمها الذي توقّف عند أهمية الدور التركي الإقليمي وضرورة التنسيق مع أنقرة.

وقد قرّرت القيادات التركية فوراً تبنّي سياسة مغايرة لسياسة العديد من العواصم الغربية والإقليمية لناحية الإعلان أنّ قوّاتها باقية في كابول حالياً، وأنّها لن تغلق مباني البعثات الدبلوماسية التركية هناك، وستتفاهم مع طالبان في موضوع اللجوء الأفغاني إلى تركيا عبر إيران، وهو بين الأولويات التي تعنيها مباشرة. وكانت أنقرة قد حسمت موقفها باكراً في تحديد معالم سياستها الأفغانية الجديدة من خلال التنسيق السريع مع لاعبين مؤثّرين في الملف مثل قطر والأردن، والتحرّك على خط طالبان بثلاثة اتجاهات:

- الأول سياسي عبر الحوار مع قيادات الحركة المتمركزة في الدوحة.

- والثاني عسكري من خلال الحوار مع قيادات طالبان الموجودة في إسلام آباد.

- والاتجاه الثالث استخباري عبر التنسيق مع أجهزة التنظيم الأمنيّة في كابول.

كانت طالبان تطالب أنقرة بسحب جنودها من كابول ليبدأ الحوار التركي الأفغاني من جديد حول مسار ومستقبل العلاقات بين البلدين. لكن يبدو أيضاً أنّ تركيا، التي ستشكر حركة طالبان على إخراجها من ورطة حماية مطار كابول، المشروع التركي القديم الموضوع بالتنسيق مع أميركا، برفضها المبادرة، ستتحرّك لمطالبة التنظيم بالتنسيق المباشر معها هذه المرّة للمساهمة في خطوة البقاء في مطار حميد كرزاي الدولي، وتوفير الحماية له كبادرة حسن نيّة تنتظرها تركيا من طالبان.

الجميع اليوم أمام أزمة فريدة من نوعها: مجموعات إرهابية، كما وُصفت حتى الأمس القريب من قبل العشرات من الدول والمنظمات والأجهزة، تعود وتسيطر على السلطة في أفغانستان، وتقرّر إدارة شؤون البلاد بقوة السلاح. واللاعب المنهزم في الملف، أميركا وحلف شمال الأطلسي وبعض العواصم الإقليمية، يعدّ لتغيير سياساته ومواقفه قبل أن يتريّث لمعرفة ما الذي ستقوله وتفعله حركة طالبان. وسط كلّ هذهالمتغيّرات ستحاول تركيا أن تكون جزءاً من معادلة جديدة في أفغانستان تأخذ بعين الاعتبار مصالحها هناك مع المحور الغربي الذي اعترف بالهزيمة وخسارة الكثير، والمحور الشرقي المحسوب على مجموعة شنغهاي الذي يقول إنّه خرج منتصراً من المشهد.

وإذ دعت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل العواصم الأوروبية إلى التنسيق المباشر مع تركيا في الملف الأفغاني... يبدو أنّ أوروبا وصلت إلى استنتاج أنّ دفع تركيا إلى التوغّل أكثر فأكثر في الملف الأفغاني نيابة عنها هو فرصتها الجديدة لإنقاذ مواقفها وسياساتها الأفغانية في المرحلة المقبلة. ويبدو أنّ أنقرة تسلّمت الرسالة الأوروبية، وقرّرت القبول بهذا الدور الذي حاولت واشنطن التفريط به وتعريضه للخطر، وهو وجودها في قلب المشهد الأفغاني كدولة إسلامية تعتبر نفسها جزءاً من الغرب، وتنسِّق مع حلف شمال الأطلسي الذي رفع شعار العداوة مع طالبان لسنوات.

كان الرئيس التركي إردوغان يردّد قبل أيام أنّ الوضع في أفغانستان وصل إلى مرحلة خطيرة ويجب أن تتم السيطرة عليه: "أجرينا مباحثات مع الجانب القطري حول سبل وقف خطوات طالبان وتحقيق المصالحة. وأنا قد أجتمع مع زعيم حركة طالبان في إطار جهود إنهاء القتال إذا ما تطلّبت الأوضاع ذلك". كانت أنقرة ولا تزال تعوّل على الدور القطري، كما يبدو، وخصوصاً بعد رفض قيادات طالبان الحضور إلى إسطنبول للمشاركة في مؤتمر الحوار والمصالحة الوطنية الأفغانية. والاتصالات التركية القطرية الأردنية الأخيرة هي حلقة وصل مهمّة بين أكثر من عاصمة عربية وإسلامية وغربية للدخول مجدّداً على خط الأزمة الأفغانية وتفعيل الحوار الوطني وإنهاء الاقتتال هناك.

إنّ الردّ التركي الأرجح سيكون الذهاب وراء سيناريو التنسيق والحوار المباشر مع طالبان، والاعتراف بها قبل الآخرين ولأكثر من سبب:

- لا تريد أنقرة أن تنتظر طويلاً ريثما يحسم المجتمع الدولي مواقفه حيال طالبان لأنّ ظروفها وتموضعها وعلاقاتها الحسّاسة مع أطراف النزاع في آسيا متداخلة ومتشابكة.

- الخدعة الأميركية التي سقطت أرضاً، كما يردّد البعض في أنقرة، كانت على الشكل التالي: تفاهمات وتنسيق على تسليم تركيا إدارة شؤون مطار كابول، ثمّ تفاهم أميركي آخر مع طالبان على تسليمها إدارة شؤون العاصمة بعد تأمين انسحاب الأميركيين من هناك، وإلزام حلفائها المحليين بهذا الاتفاق. أسلوب أميركي معروف يكرّر نفسه كما حدث في كوريا وفيتنام والعراق ولبنان وسوريا. تسلِّح واشنطن وتدرِّب وتجهِّز وتموِّل، ثمّ تنسحب وتترك الأمور بيد خصومها بعد أن تكون قد زرعت بذور الأزمة بين الأطراف المحليين من جهة، والإقليميين من جهة أخرى. وهذا سبب آخر يدفع أنقرة إلى الانفتاح على طالبان ردّاً على الفخّ الأميركي الذي كان منصوباً لها.

- الخلاف بين أنقرة وواشنطن هذه المرّة هو حول إصرار واشنطن على إدخال عشرات الآلاف من الشبّان الأفغان إلى الأراضي التركية عبر إيران، ونقلهم من هناك إلى الولايات المتحدة في إطار برنامج الهجرة. معظم الوافدين الأفغان هم في نحو سنّ العشرين، وبعضهم يرتدي الزيّ العسكري. تريد أميركا الاستفادة من هذه الشريحة المهمّة في أكثر من مجال، وهي سبق أن فعلت ذلك مع الآلاف من العراقيين الذين نقلتهم عبر جسر جوّي إلى أراضيها.

- تتحدّث أنقرة يومياً عن المصالحة والتفاهم الوطني في أفغانستان، وضرورة بناء دولة حديثة هناك، وبايدن يردّد أنّ "المهمّة لم تكن يوماً بناء دولة أفغانستان الجديدة". ما يغضب أنقرة هو السلوك الأميركي، إذ تركت واشنطن كل المسائل الخلافية والملفّات الأساسية في أفغانستان ومستقبلها، وتجاهلت إمكان أن تتحوّل كابول إلى قاعدة جديدة للمجموعات المتشدّدة والمتطرّفة، وقرّرت إعطاء الأولوية للإجابة على سؤال: كيف ستتعامل طالبان مع موضوع إنعاش السياحة في البلاد؟

- وها هو وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن يبحث الملف الأفغاني مع ألدّ خصومه روسيا والصين بعد تحرّكهما السريع باتجاه طالبان وعرض الخدمات عليها. في العلن هو حوار من أجل دعم مواصلة المفاوضات في الدوحة بين أطراف النزاع الأفغاني. لكنّ الحقيقة أنّ واشنطن نفسها قد تكون جاهزة للتنسيق مع موسكو وبكين هناك بعد هذه الهزيمة التي تلقّتها. فلماذا تتريّث أنقرة، خصوصاً أنّ المتحدّث باسم حركة "طالبان" سهيل شاهين يقول إنّ "تركيا دولة شقيقة، ونتطلّع إلى إقامة علاقات طيبة معها".

عن الكاتب

د. سمير صالحة

البرفسور الدكتور سمير صالحة هو أكاديمي تركي والعميد المؤسس لكلية القانون في جامعة غازي عنتاب وأستاذ مادتي القانون الدولي العام والعلاقات الدولية في جامعة كوجالي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس