د. سمير صالحة - أساس برس

عندما بدأنا نتحدّث قبل عام تقريباً عن انطلاق الحوار التركي الإماراتي على مستوى أجهزة الاستخبارات في البلدين، لم يكن بين أيدينا الكثير ممّا يوثّق ذلك، فبدا ضرباً من التوهّم إلى أن كشف الرئيس إردوغان عنه قبل أيام. طال انتظار نتائج الحوار بين القيادات في البلدين أكثر من اللازم لأنّ ملفّات الخلاف والتباعد كثيرة ومتشعّبة ومعقّدة.

ليس مقنعاً أنّ مستشار الأمن الوطني الإماراتي الشيخ طحنون بن زايد آل نهيان جاء إلى أنقرة في أول اتصال سياسي دبلوماسي رفيع بهذه الأهمية من أجل "نقل تحيّات القيادة الإماراتية" أو لبحث العلاقات الاقتصادية بين البلدين، أو أنّه استقلّ الطائرة إلى العاصمة التركية لمناقشة "فرص الاستثمار في مجالات النقل والصحّة والطاقة"، كما ذكرت وكالة الأنباء الإماراتية. لا بل ليس مقنعاً أيضاً كلام الرئيس التركي إردوغان بعد اللقاء عن أنّه "ناقش مع ضيفه خطط الاستثمار الإماراتي المهمّة والجديّة في تركيا". يخطىء مَن يعتقد أنّ انطلاق الحوار التركي الإماراتي سببه اقتصادي لأنّ العلاقات التجارية بين البلدين لم تتراجع على الرغم من كلّ التوتّر في الملفّات السياسية. ففي تقرير لوكالة الأناضول ورد أنّ الإمارات تحتلّ المرتبة الأولى بين دول الخليج التي تستثمر داخل تركيا بحجم 4.3 مليارات دولار، ومستشار الرئاسة الإماراتية الوزير أنور قرقاش يذكر أيضاً أنّ الإمارات هي "الشريك التجاري الأول لتركيا في الشرق الأوسط".

وقد شرح إردوغان مطوّلاً ما يجري، في حديث تلفزيوني بعد ساعات على لقائه الضيف الإماراتي، ففصّل أسباب الانفتاح التركي الجديد على الإمارات: "نولي أهميّة لأن يجري الفاعلون المؤثّرون في المنطقة محادثات مباشرة، وأن يتفاوضوا ويحلّوا مشكلاتهم معاً". وردّاً على سؤال: "هل تعني الزيارة الإماراتية ذوبان الجليد بين البلدين؟"، قال إنّ "مثل هذه التقلّبات حصلت ويمكن أن تحصل بين الدول، وهذا ما حدث في العلاقات التركية الإماراتية". وأمّا الخطوة التالية بالنسبة إلى الرئيس التركي فهي "عقد لقاءات أخرى مع القيادة الإماراتية، وعلى رأسها الشيخ محمد بن زايد، في الفترة المقبلة إن شاء الله، ونتائج اجتماعاتنا مع الضيف الإماراتي تقول ذلك".

تأتي زيارة الشيخ طحنون بعد 4 أشهر من اتصال هاتفي بين وزيريْ خارجية تركيا والإمارات، هو الأول من نوعه منذ 5 سنوات، وقد تمّ خلاله تبادل التهاني بحلول عيد الفطر. قبل هذا الاتصال كان هناك الكثير من الإعداد على مستوى أجهزة الاستخبارات في البلدين، وأُسدِل الستار على الكثير من ملفّات الخلاف الثنائي والتصعيد الإعلامي وتبادل الاتّهامات التي كنّا نتابعها عبر الفضائيات والصحف ووسائل التواصل الاجتماعي.

بدأ التوتّر التركي الإماراتي قبل 8 سنوات بعد تطوّرات الأحداث في مصر، ثمّ توسّع وانتقل إلى الملفّات السورية والليبية وشرق المتوسط والموضوع الفلسطيني والأقلّيات في المنطقة والمناورات العسكرية المشتركة مع اليونان وقبرص اليونانية. ونظرة سريعة وخاطفة على أرشيف العلاقات التركية الإماراتية في الأعوام الأخيرة فقط ستذكّرنا بالتصريح التركي: "طلبنا من وزير خارجيّتنا بحث تعليق العلاقات الدبلوماسية مع أبو ظبي، أو حتّى سحب السفير التركي"، وردّ الوزير الإماراتي قرقاش: "لا نعتزّ بأيّ خلاف مع تركيا". فردّ وزير الخارجية التركي شاووش أوغلو أنّ "تركيا تلقّت رسائل إيجابية من الإمارات، وتأمل حدوث أشياء ملموسة قريباً بين الدولتين".

كانت أبو ظبي على علم بتفاصيل الحوار التركي المصري، والتركي السعودي، والمبادرة التركية في موضوع سدّ النهضة، وزيارة الفريق أول عبد الفتاح البرهان رئيس المجلس السيادي السوداني إلى تركيا، التي أعقبتها زيارة رئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد إلى العاصمة التركية. وكانت أنقرة على علم بتفاصيل الخطة الإماراتية لتسوية النزاع الإثيوبي مع القاهرة والخرطوم، ودور الإمارات في دفع الأمور نحو الحلحلة في الملف الأفغاني، الذي تُناقش فيه وتُعرَض خطة عربية إقليمية على أطراف النزاع. فطحنون بن زايد كان قبل أسبوع في القاهرة وقبل يومين في أنقرة "وهناك خطوات محسوبة وتفاهمات على نار هادئة"، كما قيل لنا في أبو ظبي. والتحرّك الإماراتي التركي مرتبط حتماً بالتحرّك الثلاثي التركي – القطري – الأردني الذي تابعناه أخيراً.

ساعدنا قرقاش على فهم أبعاد وأهمية زيارة الشيخ طحنون، إذ قال إنّ "الإمارات مستمرّة في بناء الجسور وتوطيد العلاقات. وأولويّات الازدهار والتنمية هي محرّك توجّهنا الداخلي، وهي أيضاً قاطرة سياستنا الخارجية".

لكن هل يعني وصول الشيخ طحنون إلى أنقرة أنّ كلّ المسائل تمّت تسويتها بين تركيا والإمارات؟

طحنون بن زايد رجل أمن مخضرم، ومن بين أبرز الشخصيات التي تجلس حول طاولة اتخاذ القرار في الإمارات. كانت مهمّته صعبة من دون شك وهو ينقل الرسائل إلى أنقرة، ويعود منها برسائل أخرى. ما سيقوله في أبو ظبي عند رجوعه مهمّ جدّاً في تحديد مسار ومستقبل العلاقات التركية الإماراتية.

أكثر المتفائلين لم يكن يتوقّع هذه السرعة في التحرّك على خطّ أنقرة – أبوظبي. فقد كان يسود التباعد والاصطفافات وسط تراكمات من الخلافات الثنائية والإقليمية، ثمّ يُطلَب إلى الشيخ طحنون بحث سبل تجميدها وتهدئة التوتّر في لقاء ثنائي مع إردوغان.

لا تقلّ الاستعدادات للزيارة في الكواليس بعيداً عن الأعين قيمةً وأهميةً عن لحظة دخول الشيخ طحنون مبنى رئاسة الجمهورية التركية. كم مرّة التقت أجهزة الأمن والاستخبارات التركية والإماراتية للإعداد لهذه الزيارة وإنجاحها؟ أين وكيف تمّ ذلك؟ هل دخل أحد على خطّ الوساطة بين البلدين؟

أعلنت تركيا أنّها بدأت مراجعة وتغيير الكثير من مواقفها وطريقة تعاملها مع ملفات إقليمية تتقدّمها العلاقات التركية العربية التي كانت مرعبة في بيانات القمم الأخيرة حيال سياسة أنقرة العربية. كان الحديث لاحقاً عن انتظار الأفعال وليس الأقوال على الرغم من أنّ القيادات التركية كشفت النقاب عن الكثير من التحوّل في طريقة تعاملها مع الملف الليبي والعراقي والمصري والسوداني والخليجي. فإذا ما كانت تركيا قد قرّرت مراجعة سياساتها الإقليمية، فلماذا تبقى بعض العواصم العربية خارج هذا التحوّل؟

ستكون دبلوماسية مبتورة مجتزأة وصعبة في فتح الطريق أمام المسار الجديد الذي يعبّر عن رغبة تركية معلنة في تحسين العلاقات مع القاهرة وبغداد والخرطوم، إذا جرى تجاهل أنّ الكثير من الحراك بهذا الاتجاه سيكون صعباً من دون مصالحة تركية مع أبو ظبي والرياض. من هنا يبدو أنّ اللقاء التركي الإماراتي الأخير سيكون فرصة لوضع نقطة على السطر، وبداية سطر جديد في سياسة تركيا الجديدة حيال العالم العربي.

لن يكون في أنقرة أو أبو ظبي مَن يحاول تبرير ما جرى، بل إنّ الدفاع عن ضرورات الإقدام على خطوة شجاعة من هذا النوع هو ما سيُقال. سيكون هناك مَن يهاجم وينتقد ويرفض ما جرى لأنّ الحسابات التي بناها البعض كانت تنطلق من فرضية استحالة حدوث أيّ تقارب تركي إماراتي، وأنّ البناء سيتمّ تشييده على هذا الأساس.

عن الكاتب

د. سمير صالحة

البرفسور الدكتور سمير صالحة هو أكاديمي تركي والعميد المؤسس لكلية القانون في جامعة غازي عنتاب وأستاذ مادتي القانون الدولي العام والعلاقات الدولية في جامعة كوجالي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس