د. سمير صالحة - تلفزيون سوريا

المهم الآن أن يكون كل من تسبب بتفجير الوضع على هذا النحو وإشعال مواقع التواصل الاجتماعي والترويج لفيديوهات وأشرطة وتغريدات مسيئة قد تعلم الدرس. يتصدر الموز الواجهة ليس كفاكهة بطعمها العسلي تجلب المشترين، بل كذريعة لتوتير الأجواء ودفع الأمور نحو نقاش ساخن بين بعض الأتراك وفتاة سورية في أحد بازارات إسطنبول، سرعان ما انتقل إلى الصفحات الإلكترونية والإعلام المحلي والأجنبي، وفتح الطريق أمام إعادة بعض الشبان السوريين الذين احتموا بالأراضي التركية إلى الداخل السوري. لكن ما قيل ويقال وكان مؤلما على الكثيرين ولا بد من التعامل معه بجدية وحزم، وأن تواكبه خطوات عملية تقطع الطريق على حالات مماثلة تترك الجميع أمام امتحان أصعب وأكثر إيلاما. وهي مسؤولية تركية سورية مشتركة لا يمكن تأخيرها أكثر من ذلك.

نحن نعرف أن طعم ذلك الموز في تلك الأشرطة والصور والفيديوهات كان مصحوبا بالكثير من المرارة والاحتقان والغضب وخيبة الأمل. لكن إيصال الأمر إلى المساس بالعلم، الرمز الأول في تركيا الذي يحلم الآلاف من الشبان العرب اليوم أن يحملوا جنسيتها بعدما خذلتهم أنظمتهم لم يكن سهلا.

من تقرير إخباري يحاول أحد الشبان الأتراك إعداده حول الأوضاع الاقتصادية والمعيشية في تركيا إلى تلاسن أمام الكاميرا بين مجموعة من الأتراك وفتاة سورية جمعتهم المصادفة في أحد أسواق إسطنبول الشعبية حيث من المفترض أن ترخص أسعار الخضار والفواكه والموز طبعا.

"ابنتي تخرجت من قسم اللغة الإنكليزية وتنتظر منذ 5 سنوات تعيينها في الوظيفة" وأنا نادمة على تصويتي لهذا الحزب الذي أوصل البلاد إلى ما هي عليه اليوم"، ليرتفع منسوب التوتر إلى تحميل اللاجئين السوريين جزءا من مسؤولية سبب غلاء المعيشة وإيصاله إلى "تعيشون بسهولة أكثر منا. أنا لا أستطيع أن أشتري الموز فيما أنتم تبتاعونه بالكيلوغرامات". ورد بريء على "التهمة" لم يقنع المتجمهرين "نحن لا نأخذ شيئا بالمجان نشتري بأموالنا الخاصة" ليعقبه الاستنتاج الأكثر إيلاما "عودي إلى القتال في سوريا ما الذي تفعلينه هنا".

لغة مقلقة تظهر إلى العلن بين الحين والآخر فيها النفس التحريضي الاستفزازي والتعبئة الاجتماعية والسياسية مع الأسف. عشناها في العديد من المدن التركية وهي فردية لا تتفاعل أو تتطور في كل الأحيان، لكن خطط وجهود التعامل مع أسبابها وارتداداتها الاجتماعية والقانونية والتنظيمية غير كافية للحؤول دون تكرارها كما يبدو.

"عندنا الملايين من اللاجئين وأنفقنا المليارات عليهم، وسنفعل ذلك دوما طالما أنه بمقدورنا" لغة تحولها أصوات المعارضة إلى ورقة بمفعول عكسي كما يظهر حسب استطلاعات الرأي. خصوصا أن بعض المعارضين المتشددين بدؤوا استخدام ذلك كأداة تحريضية ضد سياسة اللجوء المعتمدة. "أول ما سنفعله تطهير تركيا من ناكري الجميل" كما يردد البعض مع الأسف مثلا.

أعدت شركة "ميتروبول" التركية لاستطلاعات الرأي تقريرا مفصلا حول نتائج أحد أعمالها قبل أسابيع يقول إن نسبة كبيرة من الأتراك مع وقف قدوم اللاجئين وضرورة حل هذه المسألة بأسرع ما يكون. إذا كانت هذه التقديرات صحيحة فأمام حكومة العدالة والتنمية الكثير من الجهد الذي عليها أن تبذله لإيجاد حلول سريعة وناجعة للكثير من مضاعفات هذا الملف بالتنسيق مع الهيئات والجمعيات والمؤسسات السورية الناشطة في تركيا.

توفر مواد القانون التركي الحماية للمواطن وتعاقب كل من يحرض أو يهين أو يتطاول على رموز الدولة التركية وهذه القوانين نفسها تحمي الوافد إلى تركيا سائحا أو لاجئا أو مقيما. لكن هناك حقيقة أخرى هي مطاردة أصوات في المعارضة بمختلف الميول والتوجهات لسياسة حكومة العدالة والتنمية في موضوع اللجوء ودعواتهم اليومية للحوار مع النظام في دمشق لإنهاء الأزمة وإخراج تركيا من الأعباء المادية والسياسية التي تتحملها في الملف.

"ردة فعل المواطن التركي ينبغي أن تكون ضد الحكومة إذا لم يكن بمقدوره أكل الموز وليس ضد اللاجىء السوري" كما تردد اليوم أصوات باتت مسموعة. لا يمكن أن نتجاهل وجود العديد من الجهات التي تريد استغلال مثل هذه الفرص سياسيا وإعلاميا ضد السلطة السياسية لإضعاف موقفها في مسألة اللجوء داخل تركيا وخارجها. أصوات في حزب العدالة والتنمية تقول إن تركيا لم تعد قادرة على استضافة ولو لاجئا واحدا جديدا. الرسالة كانت للاجىء الأفغاني قبل أسابيع عندما بدأ يتنقل عبر إيران للوصول إلى الأراضي التركية، لكنه لا يمكن عزلها عن موضوع اللجوء ككل. أوروبا تريد تحويل تركيا إلى منطقة عازلة تحصنها لمنع موجات اللجوء باتجاهها. نصائح ودروس يومية في طريقة معاملة اللاجىء لا تعني اليونان مثلا. بروكسل لا تتأخر في توجيه التعليمات حول طريقة التعامل مع ملف الأزمة السورية لتقاسم المصالح والنفوذ، ونحن نختلف أمام عربة الموز.

بسكوت وراحة، دبس وطحينة، زيت وزعتر وطبعا موز وحلاوة بين أكلات سن المراهقة الأكثر شعبية. كنا نوحد ما في جيوبنا من نقود معدنية نركض لشراء بعض أصابع الموز وغرامات الحلاوة لنرصفها بعناية في رغيف "الإفرنجي" ويا جبل ما يهزك ريح. نحن لا نتناول الموز ليس بسبب سعره بل بسبب الخوف من السكري أيضا. يقول الطبيب المعالج اليوم إن أكل الموز ليس بالضرورة هو سبب مرض السكري، هناك حالات الغضب والانفعال والتوتر الدائم بين الأسباب كذلك.

بذل الأطباء في أحد المصحات العقلية جهودا كبيرة من دون نتيجة لإقناع مريض يصر على أنه توفي ويمتنع عن تناول الطعام والشراب ومغادرة الفراش. الوسيلة الأخيرة كانت أن سأله أحد الدكاترة وهل تنزف الدماء من الميت إذا ما جرح أصبعه؟ قال: لا طبعا. لكنه بدل رأيه على الفور عند وخز الإبرة وسيل الدماء قائلا: "لم أكن أعرف أن الدماء تنزف من الأموات أيضا". تشخيص المرض مهم بقدر المعالجة أيضا.

 

عن الكاتب

د. سمير صالحة

البرفسور الدكتور سمير صالحة هو أكاديمي تركي والعميد المؤسس لكلية القانون في جامعة غازي عنتاب وأستاذ مادتي القانون الدولي العام والعلاقات الدولية في جامعة كوجالي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس