سعيد الحاج - الجزيرة

سجلت الليرة التركية تراجعا قياسيا مؤخرا أمام العملات الأجنبية بعد قرار المصرف المركزي الاستمرار في خفض سعر الفائدة في البلاد ضمن رؤية الرئيس أردوغان.

التدهور الكبير في قيمة العملة المحلية وإن أُرجع سببه نسبيا إلى القرار الأخير للمصرف المركزي إلا أنه أثار جدلا كبيرا في تركيا وعنها، ولا سيما في ما يخص التبعات السياسية المحتملة للسياسة النقدية للرئيس التركي، وعلى وجه التحديد ما يتعلق بالانتخابات المقبلة.

رؤية أردوغان

يختلف الرئيس التركي في منهجية مواجهة التضخم في البلاد مع الكثير من الاقتصاديين والأكاديميين والسياسيين.

ويشير هؤلاء إلى أن الأداة الأنجع في مواجهة ارتفاع نسبة التضخم هي رفع سعر الفائدة لتثبيت سعر الصرف وأسعار السلع والخدمات في البلاد. في المقابل، يقول أردوغان إن ذلك من شأنه أن يؤدي للركود الاقتصادي وتباطؤ عجلة الإنتاج.

رؤية الرئيس التركي مبنية على ضرورة تخفيض سعر الفائدة المرتفع جدا في تركيا مؤخرا مقارنة بالاقتصادات المتقدمة والنامية، لتشجيع رجال الأعمال والمستثمرين على اللجوء لقروض مخفضة وبالتالي تشغيل قطاعات الإنتاج والتصدير وخفض نسبة البطالة وغيرها من المؤشرات الاقتصادية.

ويدرك أنصار هذه الرؤية في ما يبدو أن هذه النتائج الإيجابية متوقعة على المدى المتوسط، فيما سيشهد المستقبل القريب الأعراض الجانبية لخفض الفائدة، وفي مقدمة ذلك تراجع قيمة الليرة وارتفاع الأسعار وغير ذلك.

اختلاف أردوغان في ما يتعلق بسعر الفائدة ليس محصورا بالمعارضين، بل يمتد كذلك لبعض المحسوبين على الحكومة والحزب الحاكم كمحافظي المصرف المركزي الذين يعينهم الرئيس نفسه، وقد تعاقب منهم على المنصب بسبب هذا الخلاف 3 محافظين في أقل من عام واحد.

وقد أكد الرئيس التركي إصراره على هذه الرؤية في كلمة له أمام كتلة حزبه البرلمانية حين قال "لن أسير في نفس الطريق مع الرفاق الذين يدافعون عن الفائدة".

كما أنه تقصّد الإشارة في ما يبدو في كلمة لاحقة له إلى أن التراجع الكبير في قيمة الليرة من ضمن الأمور التي كانت في حساباته لدى اتخاذ قرار خفض الفائدة، حيث تحدث بثقة لافتة "نحن نعرف تماما ما الذي نفعله ولماذا نفعله وما هي المخاطر التي سنواجهها وما الذي سنحصل عليه في النهاية".

الأسباب السياسية

وفق تقارير مالية، فقد خسرت الليرة التركية 30% من قيمتها منذ بداية نوفمبر/تشرين الثاني الجاري و60% على أساس سنوي، ويبدو وفق المعطيات الحالية وخطة المصرف المركزي للاستمرار في خفض الفائدة أنها لم تصل بعد لأدنى قيمة لها.

تقدير التبعات السياسية للتطورات المالية والاقتصادية الأخيرة يدفع إلى البحث في الأسباب السياسية لواقع الاقتصاد التركي حاليا، ذلك أنه إضافة إلى الأسباب والعوامل المالية والاقتصادية الكثيرة التي ساهمت في ذلك -بما فيها الأسباب الداخلية والخارجية المستجدة وطويلة المدى- إلا أن هناك أسبابا سياسية كان لها إسهام أيضا.

ففي المقام الأول تغيرت السياسة الخارجية التركية في السنوات القليلة الأخيرة، ولم تعد أنقرة على وفاق مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وحتى حلف الناتو الذي تنتمي لعضويته، مما زاد من الضغوط الخارجية عليها.

من جهة ثانية، باتت تركيا أكثر انخراطا في القضايا والملفات الإقليمية، بما فيها النزاعات المسلحة، ولا سيما في كل من سوريا والعراق وليبيا والقوقاز، وهو انخراط له تكلفته الاقتصادية بالتأكيد.

ومن زاوية ثالثة ثمة ما يتعلق بالسياسة الداخلية أو كيفية قيادة دفة الاقتصاد، فالمشاكل البنيوية التي يشير إليها الاقتصاديون ولا تنكرها الحكومة طويلة المدى وليست وليدة اليوم، وبالتالي فثمة مسؤولية تقع على عاتق حكومات العدالة والتنمية المتعاقبة التي لم تجد لها حلا ناجعا بعد، حتى الضغوط الخارجية والتلاعب والمضاربات لا تخرج عن هذا الإطار، إذ يفترض أن تتخذ الحكومات من الإجراءات والإصلاحات ما يحصن الاقتصاد ضدها.

وأخيرا، ومما يدخل في نفس النطاق طريقة إدارة الملف المالي والعلاقة مع المصرف المركزي والخطاب المتبنى، فما سبق ذكره من خلافات في الرؤية مع المصرف المركزي، وإقالة محافظه أكثر من مرة، وتذبذب السياسات المالية بين رفع الفائدة وخفضها وبنسب كبيرة كلها أمور تتعلق بالإدارة وتلقي بظلالها على الثقة بالسياسات المالية والقدرة على توقع المستقبل، وبالتالي التشجيع على الاستثمار وخلافه.

التبعات السياسية

اختلفت التقييمات بخصوص التدهور الكبير والسريع لليرة بعد قرار تخفيض الفائدة، ولئن كان التراجع أمرا بديهيا بعد القرار إلا أن درجة التدهور والمدة الزمنية التي حصل خلالها كانتا لافتتين، مما دفع لتقييمات متباينة، بين سردية التلاعب والصرف وفق قيم غير حقيقية كما جاء في بيان المصرف المركزي، وحديث المعارضة عن الهلع وعدم الثقة بالعملة المحلية وتوجه كثير من المستثمرين والمواطنين إلى "الدولرة" بكميات كبيرة.

الارتدادات السياسية للتطورات المالية لم تتأخر، فقد عدلت أحزاب المعارضة خطابها من المطالبة بانتخابات "مبكرة" إلى الضغط باتجاه انتخابات "فورية"، محملة الرئاسة مسؤولية ما حصل بعدما وضعته في إطار سوء الإدارة والفشل الحكومي.

كما خرجت بعض المظاهرات قليلة العدد من أنصار حزب الشعب الجمهوري المعارض مطالبة باستقالة الحكومة وإجراء الانتخابات، ولذلك ستكون التطورات المالية والاقتصادية خلال الأيام القليلة المقبلة عاملا محددا في مدى استعداد المعارضة لاستخدام الشارع للضغط على الحكومة وتحالف الجمهور لتبكير الانتخابات.

يعني ما سبق أن التراجع الكبير في قيمة الليرة التركية زاد الضغوط السياسية على الحكومة رغم أنه كان أمرا متوقعا وربما مقصودا من حيث المبدأ، بعيدا عن الدرجة والزمن، كما أنه قوّى سردية المعارضة وموقفها في مواجهة الحزب الحاكم ودفعها لتطوير موقفها بخصوص الانتخابات.

دستوريا وتقنيا لا تستطيع المعارضة إجبار العدالة والتنمية على تبكير الانتخابات، فهي لا تملك الأغلبية المطلوبة في البرلمان، وما زال العدالة والتنمية يحظى بدعم كامل من حليفته الحركة القومية، لكن التطورات السلبية السريعة بخصوص الليرة تضعه في موقف الدفاع وتضعف موقفه ولو بشكل مرحلي، كما أنه يدرك أنه لا يمكنه المراهنة على ثبات موقف الحركة القومية معه في حال بقي الحال على ما هو عليه أو تراجع أكثر، إذ إن زعيمه دولت بهجلي معروف بمواقفه السياسية المتقلبة.

ووفق هذا المنظور، وبالنظر للتداعيات المحتملة تقع على الرئيس التركي وحكومته والحزب الحاكم 4 مسؤوليات أساسية في ما يتعلق بهذا الملف إذا ما شاء استمرار الدعم الشعبي له:

الأولى: تقديم سردية مفهومة للشارع حول سياق التدهور الأخير، لإقناعه بأنه كان ضمن الارتدادات السلبية المحسوبة في إطار خطة الحكومة وليس خروجا للأمور عن السيطرة.

الثانية: إقناع الشارع وكذلك الاقتصاديين والسياسيين المعارضين بصوابية الرؤية التي تنفذها الحكومة، وشرحها بشكل أكثر تفصيلا، ولا سيما ما يتعلق بالمدى الزمني المتوقع للتداعيات السلبية، وكذلك متى ينبغي توقع نجاحها وارتداداها إيجابا على المواطن.

الثالثة: العمل على إنجاح الخطة فعليا، وتأمين كل ما يلزمها من متطلبات في أقرب وقت ممكن، ليلمسها المواطن بنفسه، إذ إن الأفعال أعلى صوتا من الأقوال كما يقال.

الرابعة: تبني سياسة إنفاق حكومي ودعم أكثر سخاء، ولا سيما في ما يتعلق بالحد الأدنى للأجور ورواتب الموظفين وبعض الضرائب، وهي أمور يبدو أنها في حسبان الحكومة وضمن خطتها لعام 2022 كما أعلن على لسان أكثر من مسؤول.

في الخلاصة، كان الاقتصاد أحد أهم الأسباب التي دفعت الشعب التركي إلى الكفر بالنخبة السياسية الموجودة في البلاد في بداية الألفية واختيار العدالة والتنمية، وفي مقدمة عوامل نجاح الحزب واستمراره في حكم تركيا لـ19 عاما متصلة، وسيكون بالتأكيد على رأس المعايير التي على أساسها سيصوغ الناخب قراره في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقبلة، سواء أقيمت في موعدها في 2023 أو بُكّرت عنه.

والرؤية التي يتبناها الرئيس التركي اليوم تزيد أهمية هذا الملف وثيق الصلة بحياة المواطن العادية، خصوصا أن التطورات الأخيرة تتزامن مع معطيات سياسية أخرى، من بينها تحالف المعارضة وحدّة الاستقطاب، وكذلك تأسيس أحزاب جديدة من رحم العدالة والتنمية يمكن لها أن تخصم من رصيده الشعبي وخزانه الانتخابي بنسبة أو بأخرى.

وكل ما سبق يعني أن الانتخابات المقبلة ستكون أصعب على أردوغان وحزب العدالة والتنمية من سابقاتها، وتحتاج بالتالي لمزيد من الحذر في إدارة الملف المالي على وجه التحديد حتى لا يكون عاملا إضافيا في إضعاف الفرص في الاستحقاق القادم.

عن الكاتب

سعيد الحاج

باحث في الشأن التركي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس