علي محمد الصلابي - خاص ترك برس

 شهدت بلاد الشام في عصر نور الدين، نشاطاً عالمياً لم تشهد له مثيلاً من قبل إلا لماماً، وتدفق العلماء على حواضر الدولة وبخاصة حلب، ودمشق من أطراف الأرض، وقصدوا الرجل من البلاد الشاسعة ( الجزري، 1963، ص172)؛ حتى إن بلاد الشام كانت ـ كما يصفها أبو شامة ـ «خالية من العلم وأهله، وفي زمانه صارت مقرّاً للعلماء، والفقهاء، والصوفية، فالدولة التي تهيئ الأرضية الأكثر صلاحية للعطاء العلمي، وتمنح المال الأكثر للبحث والدراسة والتفرغ، وتنشىء المؤسسات اللازمة لإبداع العلماء والباحثين هي التي تستقطب العقول الكبيرة في كل زمان ومكان، ولقد أدرك نور الدين أهمية هذه الهجرة العلمية، فعمل بنفسه على توسيع نطاقها، وراح يكاتب العلماء من شتى البلاد البعيدة والقريبة، ويستقدمهم إليه، ويبالغ في إكرامهم، والإحسان إليهم، وقد استقدم على سبيل المثال:

أ ـ برهان الدين أبو الحسن علي بن محمد البلخي

 وهو من علماء الأحناف، فقد اُستُقْدِمَ من دمشق حال استكمال بناء المدرسة الحلاوية، في حلب لغرض التدريس فيها، وكان قد تفقه فيما وراء النهر، وبغداد، والحجاز، ثم قدم دمشق عام 519هـ وجلس للوعظ، وكان يتميز بصدق كلماته فلقيت قبولاً حسناً في قلوب الناس، وكان حسن الاعتقاد زاهداً في الدنيا، وُقفت عليه الأوقاف الكثيرة، وكثرت الأعطيات فلم يلتفت إليها(بن هبة الله، 1951، ج2، ص294)، وقد قام برهان الدين البلخي بدور كبير في مساعدة نور الدين في القضاء على مظاهر التشيُّع بحلب.(بن قزاغلي، 1951، ج8، ص220)

ب ـ الفقيه أبو العباس السلفي:

 فقد قام برهان الدين البلخي إثر توليه الحلاوية، باستدعاء الفقيه برهان الدين أبي العباس أحمد السلفي ـ من دمشق أيضاً ـ ليكون نائباً عنه فيها فاعتذر عن القدوم، فسَيَّر إليه برهان الدين كتاباً ثانياً يستدعيه فيه، ويشدِّد عليه في الطلب، فقدم الرجل ولم يزل نائباً عن برهان الدين في المدرسة المذكورة حتى وفاته، حيث حزن عليه برهان الدين حزناً شديداً ولم يزل ـ الأخير ـ مدرساً هناك إلى أن غادر حلب إلى دمشق بسبب خلاف وقع بينه وبين ابن الداية نائب حلب، وما لبث أن توفيَ عام 548هـ. وحلَّ محله في التدريس عبد الرحمن بن محمود بن محمد الغزنوي، حتى وفاته سنة 564هـ، ثم تعاقب عليها المدرسون القادمون من جهات شتى.(خليل، 1980، ص145)

ج ـ عالي بن إبراهيم الحنفي الغزنوي:

 تعاقب على المدرسة الحلاوية مدرسون من جهات شتى، وكان من بينهم رضي الدين محمد بن محمد السرخسي صاحب كتاب (المحيط)، وكان في لسانه لكنةٌ غير عربية، فكتب نور الدين إلى عالي بن إبراهيم الحنفي الغزنوي البلقي ـ وكان في الموصل ـ يطلب منه الوصول إلى حلب ليوليه التدريس في المدرسة المذكورة، وعُيِّن في المدرسة الحلاوية حتى وفاته عام 581هـ أو 582هـ بينما أقرَّ علاء الدين على التدريس في الحلاوية، وظلَّ هناك يمارس مهمته التدريسية حتى وفاته عام 587هـ أي: بعد ثمانية عشرة عاماً، وقد وصفه ابن شداد بأنه: «كان من ذوي التحصيل والتصانيف البديعة في أحكام الشريعة، والكتب التي سارت في الافاق ذكرها» تفقَّه في بلاد المشرق على محمد بن أحمد السمرقندي، وقرأ عليه معظم تصانيفه فزوجه شيخه بابنته فاطمة، الفقيهة العالمة، وقد برع علاء الدين في علمي الأصول والفروع، وصنَّف كتاب البدائع في شرح (التحفة) التي ألفها شيخه. وكانت زوجته فاطمة على قدر كبير من العلم والتقوى، تفقهت على يد أبيها، وحفظت مصنفه التحفة، وكانت تنقل المذهب نقلاً جيداً، وكان زوجها ربما يهمُّ بالفتوى فترده إلى الصواب، وتعرفه وجهة الخطأ، فيرجع إلى قولها، وكانت تمارس الإفتاء، وكان زوجها يحترمها، ويكرمها، وكانت الفتوى تخرج بخطها، وخط أبيها، وزوجها، وهي التي سنَّت تقديم طعام الإفطار في رمضان لفقهاء المدرسة الحلاوية في حلب.(خليل،1980، ص146)

د ـ الإمام شرف الدين بن أبي عصرون:

 عندما تمَّ استكمال المدرسة العصرونية في حلب عام 550هـ استدعى لها نور الدين من إحدى نواحي سنجار ـ غربي الموصل ـ الشيخ الإمام شرف الدين بن أبي عصرون الذي كان ـ بحق ـ من أعيان فقهاء عصره، وأراد نور الدين الإفادة من كفاءة الرجل إلى المدى الأقصى، فبنى له مدارس عدَّةً: في منبج، وحماة، وحمص، وبعلبك، ودمشق، وفوَّضه أن يولي التدريس فيها من يشاء، ولم يزل ابن أبي عصرون يتولى أمر مدرسته في حلب إدارة، وتدريساً إلى أن غادر حلب إلى دمشق سنة 570هـ.(بن هبة الله، 1951، ج2، ص294)

هـ ـ قطب الدين مسعود النيسابوري:

 وفي عام 544هـ تمَّ بناء المدرسة النفرية في حلب لتدريس المذهب الشافعي، واستدعى للتدريس فيها الفقيه المشهور: قطب الدين مسعود النيسابوري، مصنف كتاب (الهادي) في الفقه (بن هبة الله، 1951، ج2، ص294)، وكان النيسابوري قد بدأ ممارسة نشاطه العلمي في نيسابور، ومرو، وسمع الحديث على عدد من الشيوخ، وقرأ القران، والأدب على والده، والتقى بأبي نصر القشيري ودرَّس بالنظامية في نيسابور نيابة عن ابن الجويني، ثم سافر إلى بغداد حيث مارس الوعظ، والكلام في المسائل، فلقي هناك قبولاً حسناً، وغادرها إلى دمشق عام 540هـ، فدرّس في مدارسها، ووعظ في مساجدها، فأقبل الناس عليه، ومن هناك استدعي إلى حلب للتدريس في المدرسة المذكورة، وكان من العلم والدين والصلاح والورع بمكان كبير. ووصفه العماد الأصفهاني بأنه: (فقيه عصره، ونسيج وحدِه)، وقد أرسله نور الدين ثانية إلى دمشق سنة 568هـ لاستئناف نشاطه التدريسي هناك، فدرَّس في زاوية الشافعية بمدرسة الجاروخ شمالي الجامع الأموي، واجتمعت طلبة العلم عليه، ومن أجل الإفادة من فقهه قرر نور الدين بناء مدرسة كبيرة للشافعية، يتولى الرجل التدريس فيها، وقد شرع بالبناء فعلاً، لكن الأجل أدركه قبل استكمال عمارتها، وتوفي النيسابوري بعده بحوالي عشر سنين 578هـ.(خليل، 1980، 147)


مراجع البحث:

علي محمد الصلابي، الدولة الزنكية، دار المعرفة، بيروت، 2007، ص 218-220

الجزري، التاريخ الباهر في الدولة الأتابكية، تحقيق عبد القادر أحمد طليمات، دار الكتب الحديثة بالقاهرة، ومكتبة المثنى، بغداد 1382 هـ  1963 م.

كمال الدين عمر بن أحمد بن هبة الله، زبدة الحلب في تاريخ حلب، تحقيق سامي دهان، ط دمشق، 1370 هـ  1951 م.

شمس الدين أبي المظفر يوسف بن قزاغلي، مراة الزمان في تاريخ الأعيان، الطبعة الأولى، مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية بحيدر اباد الهند 1370 هـ  1951 م.

عماد الدين خليل، نور الدين محمود، الرجل التجربة، دار القلم 1400 هـ  1980 م.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس