د.محمد علي الصلابي-خاص ترك برس

تولَّى السُّلطان مراد الثَّاني أمر الدَّولة بعد وفاة أبيه «محمَّد جلبي» عام (824هـ/1421م) وكان عمره لا يزيد على ثماني عشرة سنةً، وكان محبَّاً للجهاد في سبيل الله، والدَّعوة إِلى الإِسلام في ربوع أوربة.(عبد الهادي، 1994، ص 38)

كان معروفاً لدى جميع رعيَّته بالتَّقوى، والعدالة، والشَّفقة، استطاع السُّلطان مراد أن يقضي على حركات التَّمرُّد الدَّاخليَّة الَّتي قام بها عمُّه مصطفى، والَّتي كانت تُدعم من قبل أعداء الدَّولة العثمانيَّة، وكان الإمبراطور البيزنطي مانويل الثَّاني خلف الدَّسائس، والمؤامرات، والمتاعب الَّتي تعرَّض لها السُّلطان مراد، فهو الَّذي دعم عمَّ السُّلطان مراد الَّذي اسمه مصطفى بالمساعدات حتَّى استطاع أن يحاصر مدينة غاليبولي ابتغاء انتزاعها من السُّلطان، واتِّخاذها قاعدةً له، إِلا أنَّ السُّلطان مراداً قبض على عمِّه، وقدَّمه للمشنقة، ومع ذلك فقد مضى الإمبراطور مانويل الثَّاني يكيد للسُّلطان، واحتضن شقيقاً لمراد الثاني، ووضعه على رأس قوَّة استولت على مدينة نيقيا في الأناضول، وسار إِليه مراد، واستطاع أن يقضي على قوَّاته، واضطر خصمه للاستسلام، ثمَّ قتل. ومن ثمَّ صمَّم السُّلطان مراد أن يلقن الإمبراطور درساً عمليَّاً، فأسرع باحتلال سلونيك، فهاجمها، ودخلها عَنْوةً في مارس (1431م/833هـ) وأصبحت جزءاً لا يتجزَّأ من الدَّولة العثمانيَّة.

ولم يلبث السُّلطان أن واصل جهاده الدَّعويَّ، وقام بالقضاء على العوائق في كلٍّ من ألبانيا، والمجر.

واستطاع العثمانيُّون أن يفتحوا ألبانيا عام (834هـ/1431م) وركَّزوا هجومهم على الجزء الجنوبي من البلاد. أمَّا شمالي ألبانيا، فقد خاض العثمانيُّون فيه جهاداً مريراً، وتمكَّن الألبانيُّون الشَّماليُّون من القضاء على جيشين عثمانيِّين في جبال ألبانيا، كما ألحقوا الهزيمة بحملتين عثمانيَّتين متعاقبتين، كان يقودهما السُّلطان مراد بنفسه، وتكبَّد العثمانيُّون خسائر فادحةً أثناء عمليَّة الانسحاب، ووقفت الدُّول النَّصرانية خلف الألبان لدعمهم ضدَّ العثمانيِّين، وخصوصاً من حكومة البندقيَّة، الَّتي كانت تدرك خطورة الفتح العثماني لهذا الأقليم الهامِّ بشاطئيه، وموانئه البحريَّة الَّتي تربط البندقيَّة بحوض البحر المتوسط، والعالم الخارجي، وأنَّهم في استطاعتهم حجز سفن البنادقة داخل بحرٍ مغلقٍ هو بحر الأدرياتيك. وهكذا لم يشهد السُّلطان مراد الثاني استقراراً للحكم العثماني في ألبانيا.(ياغي،1996، ص 46)

وأمَّا ما يتعلَّق بجبهة المجر؛ فقد استطاع العثمانيُّون في عام (842هـ/1438م) أن يهزموا المجريِّين، ويأسروا منهم سبعين ألف جنديٍّ، وأن يستولوا على بعض المواقع، ثمَّ تقدَّم لفتح بلغراد عاصمة الصِّرب، ولكنه أخفق في محاولته، وسرعان ما تكوَّن حلف صليبيٌّ كبير باركه البابا، واستهدف هذا الحلف طرد العثمانيين من أوربة كليَّةً، وشمل الحلف البابوية، والمجر، وبولندا، والصِّرب، وبلاد الأفلاق، وجنوة، والبندقية، والإمبراطوريَّة البيزنطيَّة، ودوقية برجنديا، وانضمَّت إِلى الحلف أيضاً كتائب من الألمان، والتّشيك. وأُعطيت قيادة قوات الحلف الصَّليبيِّ إِلى قائدٍ مجريٍّ قديرٍ هو: يوحنَّا هنيادي. وقد قاد هنيادي القوَّات الصَّليبيَّة البرِّيَّة، وزحف جنوباً، واجتاز الدَّانوب، وأوقع بالعثمانيِّين هزيمتين فادحتين عام (846هـ/1442م) واضطرَّ العثمانيُّون إِلى طلب الصُّلح،(ياغي، 1996، ص46) وأبرمت معاهدة صلح لمدة عشر سنوات في «سيزجادن» وذلك في شهر يوليو عام (848هـ/1444م) تنازل فيها عن الصِّرب، واعترف «بجورج برانكوفيتش» أميراً عليها. كما تنازل السُّلطان مراد عن الأفلاق للمجر، وافتدى زوج ابنته «محمود شلبي» الَّذي كان قائداً عاماً للجيوش العثمانيَّة، بمبلغ 60 ألف دوقية. وقد حُرِّرت هذه المعاهدة باللُّغتين العثمانيَّة، والمجريَّة، وأقسم «لاديسلاسي» ملك المجر على الإِنجيل، كما أقسم السُّلطان مراد بالقرآن على أن تراعى شروط المعاهدة بذمَّةٍ، وشرفٍ.

لقد نقض النَّصارى عهودهم، وحشدوا الجيوش لمحاربة المسلمين، وحاصروا مدينة «فارنا» البلغاريَّة الواقعة على ساحل البحر الأسود، والَّتي كانت قد تحرَّرت على أيدي المسلمين. ونقض العهود هو سَمْتٌ ظاهرٌ لأعداء هذا الدِّين، ولذلك أوجب الله سبحانه وتعالى على المسلمين قتالهم، يقول سبحانه: {فَقَٰتِلُوٓاْ أَئِمَّةَ ٱلۡكُفۡرِ إِنَّهُمۡ لَآ أَيۡمَٰنَ لَهُمۡ لَعَلَّهُمۡ يَنتَهُونَ} [سورة التوبة:12].

لا عهود، ولا مواثيق يرعونها، كما هو طابعهم دائماً. إِنَّهم لا يتورَّعون عن مهاجمة أيِّ أمَّةٍ، أيِّ إِنسانٍ يلمحون فيه ضعفاً، يقتلون، ويذبحون (عبد الهادي، 1994،ص 41)وصدق الله القائل في تصويرهم: {لَا يَرۡقُبُونَ فِي مُؤۡمِنٍ إِلّٗا وَلَا ذِمَّةٗۚ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُعۡتَدُونَ ١٠} [سورة التوبة:10].

وعندما تحرَّك النَّصارى، وزحفوا نحو الدَّولة العثمانيَّة، وسمع المسلمون في أدرنة بحركة الصَّليبيِّين، وزحفهم، انتابهم الفزع، والرُّعب، وبعث رجال الدَّولة إِلى السُّلطان مراد يستعجلون قدومه لمواجهة هذا الخطر، وخرج السُّلطان المجاهد من خلوته ليقود جيوش العثمانيِّين ضدَّ الخطر الصَّليبي. واستطاع مراد أن يتَّفق مع الأسطول الجنوي لينقل أربعين ألفاً من الجيش العثمانيِّ من آسيا إِلى أوربة تحت سمع الأسطول الصَّليبي، وبصره في مقابل دينار لكلِّ جندي.

وأسرع السُّلطان مراد في السير، فوصل وارنه في نفس اليوم الَّذي وصل فيه الصَّليبيُّون، وفي اليوم التَّالي نشبت المعركة بين الجيشين النَّصرانيِّ، والإِسلاميِّ، وكانت عنيفةً حاميةً، وقد وضع السُّلطان مراد المعاهدة الَّتي نقضها أعداؤها على رأس رمح ليشهدهم، ويشهد السَّماء والأرض على الغدر، والعدوان، وليزيد حماس جنده.(الرشيدي، 1989، ص 45)

واقتتل الفريقان، ودارت بينهما معركةٌ رهيبةٌ كاد يكون فيها النَّصر للنَّصارى نتيجة حميَّتهم الدِّينيَّة، وحماسهم الزَّائد، إِلا أنَّ تلك الحميَّة، والحماس الزَّائد اصطدم بالرُّوح الجهاديَّة لدى العثمانيِّين، والتقى الملك «لاديسلاس» ناقض العهود مع السُّلطان مراد الوفي بالعهود وجهاً لوجه، واقتتلا، ودارت بينهما معركة رهيبةٌ تمكَّن السلطان المسلم من قتل الملك المجريِّ النَّصرانيِّ، فقد عاجله بضربةٍ (فهمي، 1987، ص 22) قويَّةٍ من رمحه أسقطته من على ظهر جواده، فأسرع بعض المجاهدين، وحزُّوا رأسه، ورفعوه على رمحٍ مهلِّلين مكبِّرين، وفرحين، وصاح أحد المجاهدين في العدِّو: «أيُّها الكفَّار! هذا رأس ملككم».

وكان لذلك المنظر أثرٌ شديدٌ على جموع النَّصارى، فاستحوذ عليهم الفزع، والهلع، فحمل عليهم المسلمون حملةً قويَّةً بدَّدت شملهم، وهزموهم شرَّ هزيمةٍ، وولَّى النَّصارى مدبرين، يدفع بعضهم بعضاً، ولم يطارد السُّلطان مراد عدوَّه، واكتفى بهذا الحدِّ من النَّصر، وإِنَّه لنصرٌ عظيم.(فهمي، 1987، 46)

كانت هذه المعركة في سهول قوصوه في 17 أكتوبر (852هـ/1448م) واستمرَّت المعركة ثلاثة أيام، وانتهت بفوز ساحق للعثمانيِّين. وقد أخرجت هذه المعركة بلاد المجر لعشر سنوات على الأقل من عداد الدُّول التي تستطيع النهوض بعملياتٍ حربيَّةٍ هجوميَّة ضدَّ العثمانيِّين.(ياغي، 1996، ص 47)

ولم تفارق السُّلطان مراداً زهادته في الدُّنيا، والملك، فنزل عن العرش مرَّةً أخرى لابنه محمَّد، وعاد إلى عزلته في مغنيسيا كما يعود الأسد المنتصر إِلى عرينه.

ولقد ذكر لنا التَّاريخ مجموعة من الملوك، والحكَّام الَّذين نزلوا عن عروشهم، وانقطعوا عن النَّاس، وأبهة الملك إِلى العزلة، وأنَّ بعض هؤلاء الملوك قد عادوا إِلى العرش، ولكن لم يُذكر لنا أحدٌ منهم نزل عن العرش مرَّتين غير السُّلطان مراد، فإِنَّه لم يكد يذهب إِلى معتزله بآسيا الصُّغرى حتَّى ثار الإنكشاريَّة في أدرنة، وشغبوا، وهاجوا، وماجوا، وتمرَّدوا، وطغوا، وأفسدوا، وكان السُّلطان محمَّد فتىً يافعاً حديث السِّنِّ، وخشي بعض رجال الدَّولة أن يستفحل الأمر، ويعظم الخطر، ويتفاقم الشَّرُّ، وتسوء العاقبة، فبعثوا إِلى السُّلطان مراد يستقدمونه ليتولَّى الأمر بنفسه، وجاء السُّلطان مراد، وقبض على زمام الأمر، وخضع له الإنكشاريَّة، وأرسل ابنه محمَّداً إِلى مغنيسيا حاكماً عليها بالأناضول، وبقي السُّلطان مراد الثاني على العرش العثمانيِّ إِلى آخر يومٍ في حياته، وقد قضاها في الغزو، والفتح.(فهمي، 1987، ص 23)


مراجع البحث:

علي محمد الصلابي، الدولة العثمانية، عوامل النهوض وأسباب السقوط،1424ه-2003مصص 62-65

جمال عبد الهادي وآخرون، الدَّولة العثمانيَّة، أخطاء يجب أن تصحَّح في التاريخ، دار الوفاء، الطَّبعة الأولى، 1414هـ/1994م.

إِسماعيل ياغي، الدَّولة العثمانيَّة في التاريخ الإِسلامي الحديث، مكتبة العبيكان، الطَّبعة الأولى 1416هـ/1996م.

سالم الرَّشيدي، محمَّد الفاتح، الإِرشاد، جدَّة، الطَّبعة الثَّالثة، 1989م/1410هـ.

عبد السَّلام عبد العزيز فهمي، السُّلطان محمَّد الفاتح، فاتح القسطنطينيَّة، وقاهر الرُّوم، دار القلم، دمشق، الطَّبعة الرَّابعة، 1407هـ/1987م.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس