توران قشلاقجي - القدس العربي

لا تزال طبيعة العلاقات التي أقامتها الدولة العثمانية مع العالم العربي في أواخر عهدها واحدة من المجالات البكر بالنسبة إلى الباحثين. فقد تأسست العلاقات التركية – العربية إبان غزو نابليون لمصر عام 1798 وشهدت تدهورا متسارعا إثر الإطاحة بالسلطان عبد الحميد وإنزاله من العرش.

ونعلم جميعا ما حدث في الحرب العالمية الأولى وما بعدها إلى حد كبير. يمكن ملاحظة التأثير الكبير للشخصيات العربية داخل السياسة العثمانية في العلاقات بين الدولة والعالم العربي في عهد عبد الحميد الثاني. ومن بين تلك الشخصيات، السوريان أبو الهدى وعزّت باشا، والشيخ ظافر الليبي، والسيد عمر التونسي، ومحمود زكي المصري، وكان أكثرها لفتا للانتباه، الشيخ أبو الهدى الذي يقال إنه كان زعيما لطريقة سورية، حيث جاء إلى إسطنبول عام 1876 واشتهر خلال فترة قصيرة جدا وارتقى بسرعة من منصب إلى آخر في القصر العثماني.

تشير المصادر التاريخية إلى أن أبو الهدى جاء إلى إسطنبول بدعم من بعض المسؤولين، لكي يحصل على منصب نقيب الأشراف في حلب، لكنه فشل في تحقيق ذلك، على الرغم من محاولاته المكثفة لدى شيخ الإسلام، التي استمرت لشهور. وبعد فترة من الزمن قرر أبو الهدى أن يفتح محلا ليكسب قوت يومه في شارع نور عثمانية، وبدأ يعمل في مجال «النفث». وساعدته حنكته على جذب عدد كبير من الزبائن في فترة وجيزة، وكان يزعم أنه شيخ الطريقة الرفاعية. وعُرف في إسطنبول باسم «الشيخ العربي» فلم يترك شيئا إلا ومارسه بدءا من القراءة على المرضى، وحتى التكهن، وكتابة الحجاب، والسحر، والمصالحة بين المتخاصمين وما شابه. وهذا الأمر حقق له عائدات مالية كبيرة، وجعله يلبس ويرتدي كل ما هو جميل وحسن، ثم بدأ يصرف على والده أيضا. وكانت النساء أكثر من يصدّق ما يقوله أبو الهدى، وبعد اتساع شهرته أصبحت الفتيات الشابات والنساء الكبيرات في السن داخل قصر السلطان يقمن بزيارته عبر طرق سرية.

ومع مرور الزمن، نجح أبو الهدى في إيجاد طريقة للقاء السلطان عبد الحميد، وتمكن من إقناعه خلال فترة قصيرة، ثم انتشرت شهرته في أرجاء إسطنبول والعالم العربي. وبدأ الجميع يرغبون في مقابلة الشيخ الجديد للسلطان، والظهور بمظهر جيد أمامه، بغية تحقيق المصالح.. حتى الشخصيات الكبيرة، مثل النواب والولاة وقادة السناجق ورجال الدين والموظفين، بدأوا يتنافسون لإرضائه.

خرج أبو الهدى عن طوره، بتوصيات ومدائح تلقاها من الراغبين بتحقيق المنافع بعد أن التموا حوله من حلب وبغداد والقاهرة وبيروت وجدة والقدس والبصرة، وبدأ يتدخل في كل شاردة وواردة والأمور التي لا تعنيه وأصبح يضغط على مؤسسات الدولة ليعين فيها رجاله. وطال تأثير أبو الهدى مؤسسات مهمة جدا مثل المشيخة الإسلامية، ووزارات الداخلية والخارجية والتعليم والأوقاف، والجمارك والبلديات. وساهم في تعيين عدد كبير من رجاله على رأس المتصرفيات والقائمقاميات والمحاكم ومديريات الأوقاف وغيرها من الأماكن المهمة. ومنح العديد من أتباعه العرب، خاصة المنحدرين من حلب ومصر، مناصب وأوسمة رفيعة، ثم أحضر شقيقه الصغير عبد الرزاق إلى إسطنبول، وجعله من أعضاء مجلس التعليم الكبير. وقام أيضا بتعيين أبنائه في مناصب رفيعة. ومنح الكثير من الأراضي والمهام الرفيعة إلى أفراد أسرته وأقاربه في حلب ودمشق.

واستخدم أبو الهدى رجاله وأتباعه في مؤسسات الدولة كجواسيس لجمع المعلومات، ولذلك قدم شكوى إلى السلطان عبد الحميد، فيها الكثير من الأكاذيب والخداع ضد عدد كبير من الشخصيات الشهيرة في إسطنبول والعالم الإسلامي، أمثال خير الدين باشا التونسي، وجمال الدين الأفغاني، ومحمود الألوسي، وجمال الدين القاسمي، وعبد الرحمن الكواكبي. وكان يحرض عبد الحميد بشكل متكرر عبر معلومات كاذبة على الشيخ ظافر أفندي، زعيم الطريقة الشاذلية في ليبيا، الذي عاش في إسطنبول، وكان السلطان يحبه ويقبل يده كل يوم جمعة. وزعم أبو الهدى في هذا الصدد أن «العثمانيين الجدد» يجتمعون داخل مقام الشيخ ظافر، حتى أنه وضع قنبلة في مقر الشيخ ظافر ومنع السلطان عبد الحميد من زيارته.

خلاصة الكلام؛ يقول محمود نديم بك، آخر ولاة الدولة العثمانية في اليمن، في مذكراته المسماة «حياة في شبه الجزيرة العربية» إن أبو الهدى كان على رأس الشخصيات التي حرّضت العرب على الدولة العثمانية، وإنه كان يعمل لصالح البريطانيين. وعندما قدّم محمود نديم بك، معلومات إلى السلطان عبد الحميد، عن أبو الهدى، بعد سنوات طويلة، ردّ عليه السلطان قائلا: «آآه يا ولدي آآه.. إنه ليس أبو الهدى بل أبو الضلال.. أبو الضلال.. هذا رجل شنيع بلا شك».

عن الكاتب

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس