محمود علوش - الجزيرة نت

في يناير/كانون الثاني من العام الماضي، استأنفت تركيا واليونان المحادثات الاستكشافية بينهما بعد توقّف 5 سنوات بهدف تهدئة التوتر بينهما في شرق البحر المتوسط. وبموجب ذلك، أوقفت تركيا أنشطتها البحرية في مناطق بحرية متنازع عليها، كما استقبل الرئيس رجب طيب أردوغان رئيس الوزراء اليوناني كيرياكوس ميتسوتاكيس في إسطنبول في مارس/آذار الماضي.

في الواقع، لم يكن قرار إعادة تفعيل المحادثات الاستكشافية نتيجة قناعة لدى أي من الطرفين بإمكانية تسوية القضايا الخلافية الكثيرة والمعقدة والمزمنة، بقدر ما عكس ظروفا أملت عليهما تخفيف حدة التوتر والانخراط في المفاوضات من جديد. تكفي نظرة سريعة على تاريخ المحادثات منذ إطلاقها في 2002 وحتى اليوم. لقد عُقدت أكثر من 60 جولة من دون أن يحدث أي تقدم يُذكر في القضايا الخلافية باستثناء أنها ساعدت في عملية إدارة الخلافات وربما هذه هي الوظيفة الأساسية لأي حوار سياسي بين بلدين يختلفان على كل شيء تقريبا، لكنهما يتفقان على شيء واحد إجمالا وهو أن كلا منهما هو جار مزعج للآخر ويُشكل تهديدا له.

القاعدة الأساسية في العلاقات التركية اليونانية أن التوتر هو الأصل والعكس هو استثناء ولا يدوم طويلاً. لقد أثبتت هذه القاعدة صحّتها عندما صبّ أردوغان مؤخراً جام غضبه على رئيس الوزراء اليوناني وقال إنه لم يعد يعترف به. كان ذلك رداً على زيارة الأخير إلى الولايات المتحدة وإلقائه خطاباً في الكونغرس حث فيه المشرعين الأميركيين عند اتخاذ قرار بشأن بيع تركيا مقاتلات إف-16 (F-16) على النظر في ما وصفها بانتهاكات تركيا للمجال الجوي اليونان. وُصفت هذه التعليقات بأنها ترقى إلى الضغط على واشنطن لعرقلة بيع تركيا هذه المقاتلات.

على مدى السنوات الماضية، كانت اليونان من بين المسائل الخلافية بين تركيا والاتحاد الأوروبي. وقد وصف أردوغان مراراً اليونان بأنها طفل مدلل للأوروبيين، وقال إن أوروبا مصابة بعمى إستراتيجي في نظرتها إلى تركيا جراء دعمها الدائم لأثينا. لكنّ اليونان لم تعد اليوم طفلا مدللا للأوروبيين فحسب، بل أصبحت قاعدة أميركية من وجهة نظر أنقرة. في ذروة التصعيد التركي اليوناني في شرق البحر المتوسط، طوّرت واشنطن وأثينا معاهدة دفاعية أتاحت للولايات المتحدة نشر قوات في قواعد عسكرية يونانية قرب الحدود التركية.

خلق النزاع التركي اليوناني فرصة نادرة للولايات المتحدة لتعزيز حضورها العسكري في اليونان على نحو أزعج الأتراك. مؤخراً، مددت أثينا معاهدة التعاون الدفاعي لخمس سنوات إضافية. وعلى الرغم من أن هذه المعاهدة قائمة بين البلدين منذ عقود طويلة، إلا أنهما قاما بتحديثها في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي في ذروة التصعيد التركي اليوناني في شرق البحر المتوسط في تلك الفترة.

كانت العلاقات التركية الأميركية في 2019 تشهد أيضا تراجعا إضافيا على خلفية شراء أنقرة منظومة إس-400 (S-400) الصاروخية من روسيا. لذلك، فُهم تحديث المعاهدة وقتها على أنه اصطفاف أميركي إلى جانب أثينا في صراعها مع أنقرة ومحاولة من واشنطن لاستثمار حاجة اليونان إلى حليف قوي لتحقيق توازن عسكري مع تركيا في المنطقة، من أجل الضغط على أنقرة ودفعها إلى التخلي عن شراكتها مع روسيا وإجبارها على التنازل عن طموحاتها البحرية في شرق المتوسط.

بالنظر إلى أن الاتفاقية توسع الوصول العسكري الأميركي إلى 3 قواعد عسكرية في البر الرئيسي لليونان إلى جانب تعزيز الوجود العسكري البحري الأميركي في جزيرة كريت، فإن ذلك قد يؤدي مع مرور الوقت إلى تكريس وضع جيوسياسي جديد في المنطقة يتعارض في جانب مع أهداف تركيا الرامية إلى ترسيم عادل للحدود البحرية مع اليونان وفي جانب آخر، يُهدد مكانة أنقرة بالنسبة للغرب كشريك إستراتيجي.

علاوة على ذلك، فإن هذه المعاهدة توفر وسيلة أخرى للولايات المتحدة لنقل القوات العسكرية إلى الحلفاء في بلغاريا ورومانيا كبديل عن مضيق البوسفور في حال حُرمت الولايات المتحدة من الوصول إلى البحر الأسود من قبل تركيا أو روسيا. هذه مسألة حساسة للغاية بالنسبة لتركيا. فمن جهة، ستضعف أهمية المضيق التركي وسيُفسح المجال أمام الناتو للعب دور أكبر في البحر الأسود، وهو ما تسعى أنقرة لتجنبه على الدوام خشية تحويل المنطقة إلى ساحة صراع بين روسيا والغرب.

تراجع العلاقات التركية الأميركية خلال السنوات الماضية، شكل دافعا قويا لواشنطن للتحول نحو جعل اليونان شريكا إستراتيجيا لها يُمكن أن يحل بدلا عن الشراكة مع تركيا فيما لو واصلت أنقرة ابتعادها عن الغرب وتقربها من موسكو، على اعتبار أن الاتفاقية الأميركية اليونانية تُتيح للجيش الأميركي الوصول إلى القاعدة العسكرية في مدينة ألكسندروبوليس الساحلية على الساحل التراقي قرب الحدود التركية، فإن ذلك يزيد من هواجس الأتراك من الوجود العسكري الأميركي قرب حدودهم.

تبدو أنقرة محقة في هذا الهاجس، لأن السياسة الأميركية تجاه اليونان تستند على قاعدة أن الوجود العسكري في هذا البلد يساعد واشنطن في الضغط على خيارات تركيا التي أضحت خلال حكم أردوغان أكثر استقلالية عن الغرب. يُمكن قراءة الإستراتيجية الأميركية في اليونان على أنها توفر لواشنطن فرصة لتقليل تداعيات النزعة الاستقلالية لتركيا على وجودها في شرق المتوسط والبحر الأسود ورفع التكاليف المترتبة على أنقرة جراء محاولتها رسم سياسة خارجية لها بمعزل عن الغرب.

رغم أن الولايات المتحدة لعبت تقليديا دور صانع السلام بين تركيا واليونان، إلا أن لديها أسبابا إستراتيجية للميل نحو أثينا. في المقابل، استفادت اليونان على نحو كبير من الخلافات التركية الغربية لتعزيز وضعها في النزاع مع تركيا. فإلى جانب تعزيز التعاون العسكري مع الولايات المتحدة، أبرمت في سبتمبر/أيلول الماضي اتفاقية مماثلة للتعاون العسكري مع فرنسا.

ونصت الاتفاقية على المساعدة المتبادلة "بكل الوسائل المناسبة" إذا وجد البلدان "بشكل مشترك أن هناك هجوما مسلحا يحصل ضد أراضي" أحدهما، وهي تستهدف ضمناً تركيا. كانت هذه الاتفاقية بمثابة مشكلة جديدة في الخلافات بين أنقرة وشركائها في حلف شمال الأطلسي وعززت الاعتقاد التركي بأن هناك أطرافاً تسعى لتشكيل تكتلات داخل الناتو ضد تركيا.

كان ظهور الخلاف التركي اليوناني الأخير في خضم معارضة تركيا لخطط توسع الناتو مؤشرا إضافيا على حقيقة أن مشكلة تركيا مع بعض حلفائها في الناتو تمتد إلى ما هو أبعد من دعم تنظيم مسلح تصنفه أنقرة إرهابيا، وترتبط بشكل رئيسي في محاولة الغرب معاقبة تركيا على مساعيها لرسم سياسة خارجية مستقلة عن الغربيين.

إن الوجود العسكري الأميركي في اليونان يُضاف إلى قائمة الخلافات التركية الأميركية ويُهدد بتأجيج التوتر بين الشركاء داخل حلف الناتو. وإذا كانت الدوافع الإستراتيجية تُملي على واشنطن تعزيز شراكتها العسكرية مع اليونان، فإنه سيتعين عليها الأخذ بعين الاعتبار هواجس تركيا من هذا الوجود إذا ما أرادت العمل على ربط خلافاتها مع أنقرة وإعادة الزخم لحلف شمال الأطلسي.

في الوقت الراهن، تسعى أنقرة إلى طرح جميع القضايا الخلافية مع الغرب بما فيها مسألة الوجود العسكري الأميركي في اليونان على الطاولة لإعادة تشكيل علاقات متوازنة مع الغرب على قاعدة جديدة تراعي هواجسها من الدور الغربي في قضايا عديدة تعنيها من ضمنها اليونان.

من غير المرجح أن يؤدي الضغط التركي على الولايات المتحدة لإعادة النظر بشأن شراكتها العسكرية مع أثينا إلى تغيير في الموقف الأميركي، لكن أردوغان يسعى من وراء هذا الضغط إلى زيادة التكاليف المترتبة على هذه الشراكة ودفع واشنطن إلى الأخذ بجدية هواجس أنقرة.

عن الكاتب

محمود علوش

صحفي لبناني


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس