د. سمير صالحة - أساس ميديا

كان واضحاً منذ 24 شباط المنصرم أنّ ساحة المواجهة الجديدة بين روسيا والغرب، بعد اندلاع المعارك على جبهات أوكرانيا، ستكون منطقة البلقان حيث تتقاطع الجغرافيا والتركيبات العرقية ومواجهات الهيمنة على الأرض منذ عقدين داخل مثلّث شرق أوروبا والقرم والبلقان.

هو المنطق نفسه الذي سمعناه من الكرملين عند تبرير الحرب ضدّ أوكرانيا: "الدفاع عن أبناء جلدتنا"، ونحن نسمعه اليوم في بلغراد لتبرير التصعيد الصربي ضدّ بريشتينا، بينما تتمسّك موسكو بأنّ سبب كلّ هذا التوتّر هو السياسة الغربية المصرّة على اقتحام الحديقة الخلفيّة التاريخية لروسيا في القرم والبلقان وأوروبا الشرقية.

لا خلاف على أنّ جذور الصراع في البلقان تعود إلى الحروب الأهليّة التي شهدتها المنطقة في أعقاب انهيار الاتحاد السوفياتي في أواخر الثمانينيّات، والتي شهدت تدخّل حلف الناتو لوقف التطهير العرقي من جانب الصرب بحقّ المسلمين من الألبان والبوسنيّين في البوسنة والهرسك، والتي كانت أبرزها وأكثرها دمويّة مذبحة سربرنيتشا. انفصلت كوسوفو، التي يمثّل الألبان المسلمون أغلبية سكّانها، عن صربيا عام 1999، وأعلنت الاستقلال عام 2008. وفي نيسان 2013، وقّعت صربيا وكوسوفو اتفاقية تطبيع العلاقات بين البلدين، التي وصفها الاتحاد الأوروبي والمجتمع الدولي وقتها بـ"التاريخية"، لكنّ بلغراد ما زالت تعتبر بريشتينا جزءاً من أراضيها، وتدعم الأقليّة الصربية في كوسوفو.

عاد الهدوء مجدّداً إلى منطقة الحدود بين صربيا وكوسوفو بعد توتّر كاد يتسبّب بانفجار أمنيّ واسع بين البلدين بعدما أرجأت السلطات في كوسوفو لمدّة شهر موعد تنفيذ قراراتها الجديدة بإلزام الأقليّة الصربية داخل أراضيها باعتماد لوحات السيارات والأوراق الثبوتية التي تصدرها هي وليس صربيا في تنقّلاتها. لكنّ الأوضاع عرضة للانفجار في كلّ لحظة ما دامت الأقلّية الصربية متمسّكة بارتباطها العضوي مع الدولة الأمّ ورافضة لسلطة كوسوفو عليها. الوضع الحالي في شمال كوسوفو دقيق وحرج، بعدما أدّى التوتّر والتصعيد خلال فترة زمنية قصيرة إلى إغلاق مئات المتظاهرين الصرب في شمال كوسوفو الطرق المؤدّية إلى معبرَيْ يارينجي وبرنجاك الحدوديَّين في منطقة يشكّل الصرب أغلبيّة فيها. وردّت شرطة كوسوفو بإطلاق النار في الهواء وتشغيل صفّارات الإنذار لساعات وإعلان الاستنفار تحسّباً لمواجهة قد تفجّر الوضع الداخلي وعلى الحدود بين البلدين.

توتر روسي - أميركي

أُعيدت السيوف إلى أغمادها نتيجة جهود أمميّة تركية أوروبية روسية من أجل التهدئة. لكنّ الكثير من المؤشّرات تقول إنّها هدنة مؤقّتة حيث تعلن قيادات الأطلسي أنّها مستعدّة لدخول كوسوفو إذا ما تعرّض الاستقرار في المنطقة للخطر، خصوصاً أنّ الرئيسة الكوسوفيّة فيوزا عثماني تؤكّد أنّ روسيا تبذل جهوداً حثيثة من أجل تقويض انضمام بلادها إلى المؤسّسات الغربية من أجل زعزعة استقرار غرب البلقان بكامله. وهو ما دفع موسكو إلى تحميل بريشتينا مسؤولية زيادة التوتّر بسبب "القواعد التمييزية التي لا أساس لها"، والتي تفرضها سلطات كوسوفو على الصرب في الشمال. السبب الحقيقي، كما يرى البعض، هو زيارة وفد كوسوفي رفيع لواشنطن أخيراً طالبت خلالها رئيسة كوسوفو فيوزا عثماني نظيرها الأميركي جو بايدن بدعم جهود انضمام بلادها إلى حلف شمال الأطلسي والمجموعة الأوروبية، باعتبار أنّ هذا الانضمام فرصة استراتيجية لمواجهة التهديد الروسي. لكنّ هناك أسباباً كثيرة ذات طابع سياسي أمنيّ عرقي تنتظر تحت الرماد في بقعة جغرافية العيشُ المشترك فيها صعب بين أقلّيّات دائمة التناحر.

أزمة الأقلّية الصربية، التي لا يتجاوز عددها 50 ألفاً في شمال كوسوفو في دولة يصل عدد سكّانها إلى حوالي مليونين، تركها الجميع من دون حلّ، هو ما أضاف سبباً آخر إلى ملفّات التوتّر بين البلدين اللذين لا تسوية لشرذمة إقليمية ودولية حول أزمتهما منذ العام 2008 وقرار إعلان الدولة في كوسوفو.

تعترف عشرات الدول بكوسوفو دولة مستقلّة، لكنّ الذهنية في صربيا ما تزال ترى فيها مقاطعة تابعة لها تتمتّع بحكم ذاتي. اعتبرت موسكو ما يجري منذ 15 عاماً حلقةً من حلقات استهداف أميركا لنفوذها ومصالحها في البلقان، فردّت عليها بعمليّات ضدّ جورجيا وإعلان استقلال أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية في آذار 2008.

تعود روسيا اليوم أقوى ممّا كانت عليه قبل 34 عاماً في مواجهة الغرب على الرغم من أنّ هذه العودة لم تُعِد إليها تاريخ الاتحاد السوفياتي القديم بثقله ووزنه. يجلس الكرملين مجدّداً فوق لعبة التوازنات الإقليمية والدولية الاقتصادية والسياسية والعسكرية في أكثر من بقعة جغرافية كانت محسوبة عليه قبل 3 عقود. ثبّت نفوذه مرّة أخرى في جورجيا وقره باغ وكازاخستان وأوزبكستان في مواجهة الغرب. وعطّل رغبة أنقرة في إحياء العالم التركي ما إن أطلّت برأسها قبل عامين في آسيا الوسطى. وعاد للعب أوراق قديمة بينها العرق والقوميّة والدين في مواجهة أميركا والحلف الأطلسي والاتحاد الأوروبي وهو يلوّح بالسلاح النووي في وجه المعترضين. كان آخر إنجازاته إقناع الشريك الصيني بتسخين جبهة تايوان فيما شرع يُحرِّك الأحجار على رقعة جبهة البلقان بين صربيا وكوسوفو.

من يصعّد في البلقان؟

أثناء البحث عن إجابات لأسئلة تتعلّق بأيّ اتجاه ستتمدّد الحرب الروسية الأوكرانية، كانت الأعين مشدودة نحو الدول الإسكندنافية وأوروبا الشرقية، لكنّ المفاجأة تأتي من البلقان كساحة مواجهة روسية غربية جديدة. فلمصلحة مَن التصعيدُ في البلقان؟

ربّما تساعدنا التطوّرات والخطوات السياسية والأمنيّة على رقعة شطرنج المنطقة في الإجابة:

- تسعى روسيا إلى تخفيف الضغط عليها في جبهات أوكرانيا والقرم عبر تحريك جبهات البلقان.

- يعني تفجير الوضع في البلقان، شئنا أم أبينا، تحريك الوضع في أوروبا الشرقية بكاملها.

- صربيا هي اللاعب الأقوى بيد روسيا لإشعال جبهة البلقان. وصربيا تحتاج إلى روسيا للبقاء في قلب المشهد هناك.

- يهمّ الغرب أيضاً تشتيت القوّة الروسية وإقحامها في أكثر من جبهة توتّر عسكري وسياسي واقتصادي. والبلقان قد يكون ساحة خصبة للتصعيد مع موسكو.

- يساهم تفجير الوضع في البلقان أيضاً في صبّ الزيت فوق توتير العلاقات الروسية التركية بعد نجاح الطرفين في تحييد الكثير من الملفّات الخلافية الإقليمية أو تحويلها إلى فرصة للتقارب والتعاون كما حدث في أزمة قره باغ قبل 3 أعوام، وكما يحدث اليوم في ملف الأزمة الأوكرانية والدور الحيادي الإيجابي التركي الذي يساهم في نقل الحبوب الأوكرانية والروسية إلى خارج دائرة الصراع.

- يُعرِّض تحريك جبهة البلقان مصالح تركيا هناك للخطر، لكنّه يعرِّض التقارب التركي الروسي للتراجع، وهذا ما تريده واشنطن، وبمقدورها أن تحقّقه ما إن تشتعل جبهة صربيا – كوسوفو.

- تقول قناعة أخرى إنّ ساعة الصفر لنشوء التوتّر بين بلغراد وبريشتينا بدأت في أعقاب اللقاءات الأميركية الكوسوفية الرفيعة المستوى في 26 تموز المنصرم، التي واكبها تفاهم على تسريع طلب عضوية كوسوفو في حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي. لكنّ المسألة تتطلّب تجاوز عقبة بعض العواصم الأوروبية المتحفّظة على هذه الخطة الأميركية في مواجهة النفوذ الروسي.

روسيا تلاعب الجميع

ما يدور في القرم اليوم هو الذي ذكّرنا بحكاية تفكّك يوغوسلافيا عام 1991، وهو الذي يُعيد إلى الواجهة لحظات عام 1988 السوفياتية، ويُنعش من جديد ذاكرة البلقان المثقلة بمجازر البوسنة عام 1992 وكوسوفو عام 1998 على خط بلغراد – بريشتينا.

تستفيد موسكو حتى النهاية من قدرتها على حكّ القشرة التي تشكّلت فوق جرح البلقان عند الضرورة ومتى تشاء، وهذا ما تذكّر به اليوم من خلال الشريك الصربي. خسرت روسيا يوغوسلافيا الاتحادية قبل نحو 30 عاماً عندما خسرت اتّحاد جمهوريّاتها التي كانت توصلها إلى عمق الشرق الأوروبي وجنوب القرم وشمال البلقان، وتركت يوغوسلافيا تواجه اليوم قدرين: تفكّك الدولة الاتحادية التي كانت تقبع فوق ثروات قومية وعرقية ودينية، وخسارة الغطاء السوفياتي الذي كان يوفّر لها الرعاية والحصانة عند اللزوم في مواجهة الداخل والخارج. فهل تنجح روسيا في تخفيف الضغط على جبهة القرم عبر تفجير جبهة البلقان؟ وهل يكون بمقدورها مواجهة الغرب على الجبهتين معاً حتى لو قرّرت واشنطن تأجيل إشعال جبهة أوروبا الشرقية وشمال إسكندنافيا؟

عن الكاتب

د. سمير صالحة

البرفسور الدكتور سمير صالحة هو أكاديمي تركي والعميد المؤسس لكلية القانون في جامعة غازي عنتاب وأستاذ مادتي القانون الدولي العام والعلاقات الدولية في جامعة كوجالي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس