سليمان سيفي أوغون - يني شفق

أتذكر في بعض الأحيان، بحرقة، الخطابات السائدة في تسعينيات القرن الماضي. انهار الجدار. لقد تفككت الكتلة السوفيتية. لقد رُفعت الضغوط الثقيلة للاشتراكية الرسمية عن ملايين الناس. حينها كانت هناك رغبة كاملة للتحرر. وكما قال الفيلسوف الألماني هيجل، وصل التاريخ إلى هدفه. بل كان هناك من قال أن نهاية التاريخ بدأت. كان هذا أيضًا انتصارًا للرأسمالية. لقد هُزمت الاشتراكية وانتصر خصمها الرأسمالية.

بعد فترة، رأينا أن رياح التحرير هذه بدأت تهب في مناطق جغرافية تصف نفسها بالرأسمالية. كان الهدف الجديد هو ما يسمى ببنية الدولة الاجتماعية في الغرب. بعد إنهاء دولة اشتراكية، يجب أيضًا القضاء على الدولة الاجتماعية ومنع التدخل في الاقتصاد عن طريق السياسات العامة. لقد زعموا أن التدخلات السياسية هي التي تخنق الاقتصاد. كانت الدول الاجتماعية أقوى العوامل لتحقيق ذلك. إذا تم تحرير الاقتصادات من التدخل من قبل السياسة، ستزداد الإنتاجية والرفاهية. المحصلة، لن تحدد السياسات الاقتصاد، لكن قوانين الاقتصاد ستحدد السياسات. كانت ضرورات الاقتصاد هي المكان الذي تنتهي فيه الحريات.كان المقصود أن تُحمَل في المكان الذي بدأت فيه هذه الضروريات وتخضع لقوانين الاقتصاد الكبيرة.

لم تنته السيناريوهات عند هذا الحد. كان هناك نموذج اقتصادي جديد. كان من الواضح أن هذا النموذج يستهدف الهياكل الصناعية القائمة التي يعمل فيها ملايين العمال. كنا حينها في مرحلة ما بعد الصناعة. وقد لوثت الصناعات الثقيلة البيئة والطبيعة والإنسان. لذلك كان من الضروري التخلص منها أيضا. سيكون الناس عاطلين عن العمل، لكننا سننقذ الأسماك. لقد رأينا أن الصين كانت مستعدة بعدد سكانها الكبير، للعمل بجد لإطعام شعبها. وبدأت الصناعة الغربية في الانتقال تدريجيا إلى البلاد التي كانت ذات ضرائب وعمالة رخيصة.

لقد اُتخذ ما يعرف بـ"صدمة نيكسون" عام 1971، وحدثت أزمة النفط عام 1973، وانتصرت دبلوماسية بينغ بونغ، حيث كان كيسنجر عراب الرؤية التي تشير إلى تخفيف حدة العلاقات مع الصين. كما كانت تصفية الدول والسياسات العامة باسم الكفاءة تفاخرا. (بالفعل في سبعينيات القرن العشرين بدأت الإنتاجية في الانخفاض. لم يتمكن انهيار الاشتراكية الحقيقية ولا الممارسات الاقتصادية النيوليبرالية الحالية من علاج هذه المشكلة). لقد جلبت الرأسمالية الغربية مجتمعاتها إلى الرخاء النسبي على أساس إقامة دولة الرفاهية، ولكن هذا لم يكن متوقعا. لم تتسبب تأثير الرفاهية في زيادة الإنتاجية بل على العكس من ذلك، أصبحت الطبقات العاملة، التي استطاعت تحقيق قوة شرائية مرتفعة، مرتاحة وكسولة وقللت من إنتاجية العمل. كانت الدولة ترفع الضرائب. كما أدت زيادة التكاليف إلى تقليل كفاءة رأس المال. كان لديهم قوتان متبقيتان. أولها هي القوة المالية. حيث ارتبطت التجارة العالمية بالدولار بشكل فعلي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

الغرب، الذي فقد كفاءته، لم يعد يعمل وينتج بقدر ما كان من قبل. لن تعود النقود المطبوعة غير المحدودة إلى القطاعات الإنتاجية على أي حال، بل سيتم إلقاؤها في استثمارات عمياء ميتة تعتمد على الاستهلاك، خاصة في قطاعات الخدمات المختلفة. ستجذب الدولارات-التي كانت تكلفتها لا شيء- فائض العالم بأسره عن طريق الاقتراض لكنها خلقت قوة شرائية زائفة نتيجة الأصفار الوفيرة عليها، وستجلب مشروع الرفاهية لمجتمعهم إلى أعلى مستوياته.

لقد تعطلت التوازنات الدقيقة التي نشأت بعد الحرب العالمية الثانية والتي كانت قائمة على الزواج الثلاثي بين الدولة والأمة ورأس المال، وانهارت الهياكل التي ضمنت ذلك. كانت النيوليبرالية عبارة عن مزيج من الاقتصاد، والعرق، والهوية ، والسياسة القائمة على النوع الاجتماعي لكن مع نشوة التحرر التي وُلدت بدؤوا بالانهيار الهيكلي الكبير. كان من الممكن أن تأتي العناصر التي تعارض تمويل الاقتصاد من داخل الدول والأمم. لذلك كان لا بد من تدمير كلاهما.

وفي الفترة الممتدة بين أزمتي 2008 و2019، وحتى يومنا هذا، حاولوا تصحيح الأخطاء المرتكبة. انكسرت الموجة النيوليبرالية، المليئة بالخطابات المتبهرجة وانتهى الأمر. الغرب، الذي فقد إنتاجيته الاقتصادية أولا ثم هيمنته المالية، يلوح الآن بورقته الرابحة الأخيرة، وهي الحرب والقدرة على التسلح. إنهم لا يهتمون بحرق الأرض.

في تسعينيات القرن العشرين، تم إسكات العديد من الأصوات المروجة لليبرالية في تركيا. لا يزال هناك من يدعي أن الليبرالية لم تأخذ حقها، ولهذا السبب تحدث. لكن وضعهم لا يختلف عن خصومهم، الذين يدعون أن الاشتراكية الحقيقية هي ممارسة خاطئة، وأن هذه ليست الاشتراكية الحقيقية. لكن هل الأهم أن البعض، الذين شعروا بالحرج، بدؤوا في إطلاق الدعوات لإحياء الاقتصادات العامة التي كانوا يعتبرونها ذات يوم خطرا. بالطبع، لا يقولون ذلك علانية. يقولون ذلك بخداع مفاهيمي.

قرن تركيا الجديد رؤية مثيرة للاهتمام. تستحق تركيا والأتراك مكانا أكثر موثوقية في العالم الإنساني. لم يعد لدى رجب طيب أردوغان وحزب العدالة والتنمية أي عقبة سياسية أمامهما. لقد ألحقا هزيمة ثقيلة بالمعارضة. أعتقد أن هذا مهم جدا. فقد تم تأطير الدعاية الانتخابية للمعارضة في إطار نيوليبرالي كامل. ولو أن المعارضة فازت، لكان من المحتمل أن تقترض من المرابين الدوليين بأسعار فائدة مرتفعة وبسذاجة "لقد وجدنا أموالا نظيفة". كبلد وأمة، كنا سنشاهد فيلما شاهدناه منذ فترة طويلة وعرفنا نهايته جيدا. لقد اتخذ حزب العدالة والتنمية موقفا قوميا ضد هذا الأمر لذلك لا ننسى أنه فاز بهذا الموقف.

بصراحة، لا أتوقع تحولات هيكلية واسعة النطاق من الحكومة حتى الانتخابات المحلية المقبلة. و العمل الآن مع خبراء في مجال التمويل حتى الانتخابات واضح ومفهوم,

ولكن بعد الانتخابات المحلية، سيكون من الضروري العمل مع الاقتصاديين الحقيقيين بقدر الخبرة المالية. ويجب مراجعة قطاعاتنا تحت قيادة الدولة مرة أخرى، للشروع في استثمارات جديدة لها وزنها على التخطيط الكلي والتي ستجعل اسم تركيا يلمع بقدر تألق طائراتنا المسيّرة في الأسواق العالمية. مع ضيق الأفق الليبرالي الذي لا يزال يرى الاقتصاد على أنه تمويل، سيكون من الصعب تحقيق أهداف قرن تركيا.

عن الكاتب

سليمان سيفي أوغون

كاتب في صحيفة يني شفق


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس