د. علي محمد الصلابي - خاص ترك برس

لم يقتصر دور القائد صلاح الدين الأيوبي (رحمه الله) على توحيد العالم الإسلامي، وتحريره من الاحتلال الصليبي، والتلخص من المشروع الباطني، وتعزيز المذهب السني، وبناء جيل النصر والتمكين، وإنما أكمل المشروع الإسلامي السُّني بإعادة إحياء الخلافة العباسية، والإشراف الأمني والمالي على خدمة الحرمين الشريفين، وحماية قوافل الحج من العالم الإسلامي إلى الحجاز، وقد سار كثير من خلفائه الأيوبيين على إثره في التمكين، وبناء الدولة، وتثبيت النفوذ السني.

أولاً: إحياء الأيوبيين لدولة الخلافة العباسية

استطاعت الدولة الأيوبية في نهاية القرن السادس الهجري، ومطلع القرن السابع الهجري إحياء النفوذ السياسي لدولة الخلافة العباسية في أغلب أرجاء بلاد المشرق الإسلامي، فبعد قضاء الأيوبيين على الخلافة الفاطمية بمصر سنة 567هـ/1171م قد نجحوا في سنة 569هـ/1173م في فتح بلاد اليمن،  وكانت تعدُّ من أقدم، وأقوى معاقل الدعوة الفاطمية،  واستطاعوا القضاء على الدَّاعي الفاطمي بها عبد النبي بن مهدي،  وخطبوا لبني العباس على منابر اليمن؛ ومن اليمن مدُّوا نفوذهم إلى الحرمين الشريفين،  وخطبوا على منابرهما لخليفة بغداد، الذي اكتمل له بهذا الأمر مظاهر نفوذه الرُّوحي في العالم الإسلامي؛ لكونه أصبح حامي حمى الحرمين الشريفين،  وقد حرص الأيوبيون عند فتحهم لليمن على إدخال كتب الدَّعوة السنية مع جيوشهم، والعمل على نشرها في بلاد اليمن، وذلك للقضاء على كتب الدَّعوة الشيعية هناك، مثل كتب المعتزلة، والزيدية، والفاطميين؛ التي كانت قد اجتلبت إلى بلاد اليمن من بلاد الدَّيلم في عهد أئمَّة اليمن الزيدية، وإبَّان النفوذ الفاطمي على بلاد اليمن، ومن ناحيةٍ أخرى: حاول الأيوبيون ضمَّ المغرب الإسلامي،  وانتزاعه من الموحدين لصالح العباسيين،  ولقد حرص صلاح الدين على احترام الخلفاء العباسيين،  وكان منهجه امتداداً لمنهج نور الدين؛ وكان هذا الاحترام نابعاً من إيمانه بوجوب الطاعة للخلفاء العباسيين.

وكان من العوامل التي ساعدت الأيوبيين على حركة الإحياء السني متعددةٌ، منها: لم يكن المذهب الشيعي الإسماعيلي راسخ القدم،  وكان للمصريِّين تجاهه موقفان،  الأول: موقف الإعجاب بأصحاب هذا المذهب نتيجة ما بذلوه من جهود في الدَّعوة إلى مذهبهم،  كان من بينها: الإكثار في الاحتفالات،  والدَّعوات،  والولائم،  والسَّخاء في منح الهدايا،  والأعطيات،  ومظاهر الترف،  والبذخ؛ التي كانت تحيط بهم في شتَّى مناشط الحياة،  ومظاهر الأبهة،  والعظمة؛ التي كانوا يحرصون دائماً على الظهور بها، والموقف الثاني: موقف مَنْ قبل دعوتهم،  وانخراط في سلكها. ومعظم هؤلاء دخلوا في الدَّعوة إما طمعاً في المال، أو الجاه والمنصب، وإما خوفاً من التنكيل، والعقاب، وكلا الفريقين لم يعتنق المذهب عن عقيدةٍ، وإيمان (تاريخ مصر الإسلامية زمن سلاطين بني أيوب، أحمد فؤاد سيد، ص183).

أصبحت السلطنة الأيوبية هي حامية الدعوة العباسية، والعاملة على نشر دعوتها في جميع ديار الإسلام، سواءٌ في ممتلكات الدولة الفاطمية في نفوذ دولة الموحِّدين بالمغرب، وفوق ذلك في البلاد الإسلامية بالشام التي يتمُّ استردادها من الصليبيين، ولا ريب أنَّ تفرُّد سلاطين بني أيوب بالنهوض بأعباء الدَّعوة العباسية، وحماية الخليفة العباسي، وإلزام ملوك الأطراف إظهار الطاعة، والتبعية له قد أمدَّ السلطنة الأيوبية بسندٍ شرعيٍّ، جعلها تتصدَّر الزعامة السياسية للعالم الإسلامي.

ثانياً: حماية سلاطين بني أيوب لطريق الحجِّ وخدمة الحرمين الشريفين

إن تاريخ الأسرة الأيوبية،  ونشأتها تشير إلى أن تولي مؤسِّس هذه الأسرة لإمارة لواء الحج الشامي إبَّان خدمته لنور الدين زنكي كان من أهم عوامل استقواء هذه الأسرة الطموحة،  فنعرف أن نجم الدين أيوب،  كبير البيت الأيوبي،  كان قد تولَّى إمارة الحج الشامي لنور الدين زنكي منذ سنة 551هـ/1156م،  وقد ورثه في هذا المنصب أخوه أسد الدين شيركوه؛ الذي وصف: أنه قد تقدَّم عند نور الدين زنكي،  وبعثه أمير الحاج من دمشق، وكان شيركوه في حياته قد أنفق من أمواله المبالغ الضخمة في سبيل إقامة الشعائر الدينية،  والخيرية بالحرمين هو،  وصديقه الوزير جمال الدين وزير صاحب الموصل،  وأوصى صديقه بأن يدفن في تربةٍ بجوار المسجد النبوي بالمدينة المنورة، وقد حرص ملوك بني أيوب على تحقيق هذه الأمنية، والوصية، فقاموا بنقل رفاة نجم الدين أيوب،  وأخيه شيركوه بعد دفنهما بمصر،  وأعادوا دفنهما بالمدينة،  طبقاً لوصيتهما.(مرآة الزمان، سبط ابن الجوزي، م8/ص250).

وأما عن صلاح الدين فقد ورث عن أستاذه نور الدين زنكي السلطنة العامة،  ورسالته في توحيد الجبهة الإسلامية لجهاد الصليبيين عن طريق إحياء الخلافة العباسية،  ونصرة الدَّعوة السنية،  وورث عن أستاذه أيضاً مهمَّة تأمين طريق الحج،  فأمر في سنة 572هـ بإبطال الغفارة؛ التي كانت تؤخذ بجدَّة من المسافرين عن طريق البحر الأحمر، وعوَّض صاحب مكة في كلِّ سنةٍ ثمانين الاف أردب قمح تحمل إليه في البحر،  ويحمل مثلها،  فتفرق في أهل المارستان بمكَّة،  كما أوقف على الحجَّاج،  وعلى الحرمين الأوقاف، وذلك للصرف على مؤنتهم إبَّان أداء الفريضة، كما أقطع أمير مكة الإقطاعات بصعيد مصر،  وباليمن، وأيضاً أوقف على أمير المدينة الأمير جماز، وأولاده أوقافاً بصعيد مصر، وقد شفع صلاح الدين ذلك برفع جميع المكوس،  وهي ضرائب غير شرعية،  كانت تجبى من التجَّار عن الحجَّاج،  فتسهَّل سبيل الحج بعد أن كاد أن ينقطع؛ ولم يعد في استطاعة الحجاج أداء فريضة الحج، وكلُّ هذه الأيادي البيضاء التي أسداها صلاح الدين لحجَّاج بيت الله الحرام جعلت منه حامي الحرمين الشريفين، وهو مظهر من مظاهر الزَّعامة السياسية في العالم الإسلامي كلِّه، وقد تأثر العالم الإسلامي بجهود صلاح الدين،  ولذلك عندما يذكر صلاح الدين بالدُّعاء على منابر الحرمين بعد الخليفة العباسي،  وأمير مكة،  تخفق الألسنة بالتأمين عليه من كلِّ مكان،  وإذا أحبَّ يوماً عبده؛ ألقى عليه محبَّة الناس،  وحقَّ ذلك عليهم؛ لما يبذله من جميل الاعتناء بهم، والواقع: أنَّ صلاح الدين لم يدَّخر وسعاً لاستمرار تأمين طريق الحجِّ؛ بحيث جعل هذا الأمر هِجِّيراه،  ودام على مكاتبه أمير مكة يوصيه برعاية الحجاجِّ عند وصولهم إلى الحرم المكيِّ، كما كاتب أمير برقة من قبله، يوصيه بحماية الحجَّاج المغاربة، والأندلسيين المارِّين بولايته، كما حرص على تبادل السَّفارات الودِّية مع أمير المدينة النبويَّة، وتعظيم رسوله، والاعتزاز بهداياه؛ لكونها من قبل أمير المدينة النبوية الشَّريفة.(صلاح الدين الأيوبي، علي الصلابي، ص 233).

 أدرك الصليبيون خطورة فريضة الحجِّ كركنٍ أساسي من أركان الإسلام،  يحقِّق للمسلمين الوحدة الرُّوحية،  ويوثِّق بينهم روابط اجتماعية،  وفكرية كفيلة بتعضيد شعورهم بالولاء إلى أمَّةٍ واحدة،  وكيانٍ اجتماعيٌّ واحد؛ فعمدوا أحياناً إلى مهاجمة قوافل الحجِّ والتِّجارة المصرية،  المارَّة عبر صحراء سيناء،  وفي طرق الحُجَّاج الشهيرة، ونهبها، ممَّا أدى إلى تعطيل الطريق البريِّ للحجَّاج،  الوافدين من الأندلس،  والمغرب،  ومصر،  واضطرارهم إلى سلوك طريق طويل يبدأ من الإسكندرية إلى الفسطاط،  إلى مدينة قوص بصعيد مصر ثم منها يخترق الحجاج صحراء عيذاب،  حتى يصلوا إلى ميناء عيذاب على البحر الأحمر،  ومنها يركبون السُّفن الصغيرة المعروفة بـ«الجلاب» حتى ميناء جدَّة،  وكانت هذه الرحلة طويلة شاقة،  عانى منها الحجَّاج الأمرَّيْن  وكان قطع الصليبيين لطريق الحجِّ البري عبر سيناء قد تمَّ لهم بعد استيلائهم على حصن الكرك،  ممَّا جعل استرداد هذا الحصن من أهم أهداف نور الدين زنكي، ثمَّ صلاح الدين الأيوبي حين كان نائبه بمصر قبل استقلاله بالسَّلطنة؛ لذلك عمد نور الدين إلى محاصرة الكرك حصاراً مزدوجاً من ناحية الشام،  ومن ناحية مصر في نفس الوقت،  وكاد يتمُّ له استرداده،  وحين استقرَّت السلطنة لصلاح الدين،  جعل الكرك هدفاً لأوَّل غزوةٍ من مغازيه للفرنج؛ ليصل طريق القوافل، والتجارة عبر سيناء،  بين مصر،  والشام،  ويؤمن طريق الحج المصري البري بعد انقطاعه.

دوام ملوك بني أيوب على حماية طريق الحج،  وتأمينه،  وحماية لواء الحجِّ العراقي،  الممثل لسيادة الخليفة الروحية على العالم الإسلامي،  وكان هذا عادةً ما يكون من حظِّ أيوبي اليمن،  وذلك حتى في حياة صلاح الدين،  فكان يخطب لهم بالحرمين بعد صلاح الدين سلطان مصر، ومما يؤكِّد اهتمام سلاطين بني أيوب بموسم الحج ما ذكره مؤرخو سيرة صلاح الدين من استحداثه رسوماً خاصةً باستقبال موكب الحجِّ الشامي،  وذلك خلال إقامته بدمشق،  فكان صلاح الدين يركب ركوباً عسكرياً،  مرتدياً الزيَّ العسكري الكامل،  ويخرج في احتفالٍ عام،  ويقطع به شوارع دمشق،  سالكاً طرقاً محدَّدةً. سيرة صلاح الدين، بهاء الدين بن شداد،226 ص).

ثالثاً: مضامين تربوية في توجيهات صلاح الدين

من هذه المضامين التي نلمسها في توجيهات صلاح الدين في رسائله كقائد سياسيٍّ، وزعيم إسلاميٍّ الآتي:

1 ـ التدُّين بطاعة ولي الأمر: يقول في صدد الحديث عن طاعته للخليفة العباسي: ونحن لا نتدَّين إلا بطاعة الإمام، ولا نرى ذلك إلا من أركان الإسلام. ويقول: وقد عرف ما فضلنا الله تعالى به عليهما في نصر الدولة، وقطع من كان ينازع رداءها.

2ـ تصفية الرموز البدعية من منابر الدعوة: ويقول حول تطهير المنابر من دعاة الشيعة: وتطهير المنابر من رجس الأدعياء، ولم نفعل ما فعلنا لأجل الدنيا، فلا معنى للاعتداد بما الجزاء عنه بالحسنى، فتوقع في العقبى، غير أنَّ التحدُّث بنعم الله واجب.

3 ـ النهي عن التعصُّب للمذاهب: حيث قال في رسالة إلى أخيه العادل الذي كان نائباً عنه في مصر، وقد حصل بعض الشغب من بعض الأفراد: انتهى إلينا بالديار المصرية، والحضرة العليَّة: أنَّ جماعةً من الفقهاء، قد اعتضدوا بجماعة من أرباب السيوف وبسطوا ألسنتهم بالمنكر من القول غير المعروف،  وأنشؤوا من العصبية ما أطاعوا فيه القوى البغيضة،  وأحيوا بها ما أماته الله من أصل حمية الجاهلية ولم يزل التعصب للمذاهب يملأ القلوب بالشَّحناء،  ويشحنها،  وقد نهى الله عن المجادلة لأهل الخلاف،  فكيف بأهل الوفاق إلا أن يقال أحسنها،  وما علمنا أنَّ في ذلك نية تنجد،  ولا مصلحة توجد،  وليس يسع الخَلَف ما وسع السَّلف من الأدب،  وليعلم العبد أن يكتب كتاباً إلى ربِّه،  فليكفر فيما كتب،  وإلى مَنْ كتب.

4ـ الحث على فضيلة العدل والإحسان للرَّعية: وكان يحرص على توجيه ولاته بقوله: فليعدل في الرعية الذين هم عنده ودائع، ليجاوز بهم درجة العدل إلى إحسان الضَّائع، فإذا أسند هذا الأمر إلى ولاته؛ فليكونوا تقاةً، لا يجد الهوى عليهم سبيلاً، ولا يجد الشيطان عندهم مقيلاً، وإذا حملوا ثقلاً؛ لا يجدون حمله ثقيلاً، حيث يقول: وقد فشا في هذا الزمن أخذ الرشوة، وهي محق أمر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بنبذه، ونهى عن أخذه،  وعن الرغبة في تداوله،  وهو كأخذ الربا الذي قرنت اللَّعنة بمؤكِّله واكله.

5 ـ الاهتمام بأمر القضاء: حيث يقول: وأما القضاة الذين هم للشريعة أوتاد، ولإمضاء أحكامها أجناد، ولحفظ علومها كنوز لا يتطرق إليها النفاذ، فينبغي أن يعوَّل فيهم على الواحد دون الاثنين، وأن يستعان بهم في الفصل بذي الأيدي، وفي اليقظة بذي اليدين، وأمر الحكام لا يتوَّلاه من سأله وإنما

 يتولاه من غفل عنه، وأغفله (أثر جهود صلاح الدين التربوية في تغيير واقع المجتمع المصري، محمد القيسي، ص82).

حرص صلاح الدين الأيوبي (رحمه الله) على العودة إلى الأصول المتمثلة بالقرآن الكريم، والسنة الشريفة، وحافظ على هذه الأصول من خلال الجهود، وذلك بتصفية البدع، والمخالفات الشرعية، وقام بصيانة المناهج، وعمل على وحدتها، ونشر مبدأ تكافؤ الفرص التعليمية، وربط الأمة بواقعها من خلال عقيدتها الصحيحة، فانطلقت لتحقيق الانتصارات العظيمة، والرائعة: من تحرير البيت المقدس، وغيرها من الفتوحات.


المصادر والمراجع:

1.    أثر جهود صلاح الدين التربوية في تغيير واقع المجتمع المصري، محمد القيسي، ط1، عَمان،2008م.

2.    تاريخ مصر الإسلامية زمن سلاطين بني أيوب، أحمد فؤاد سيد، ط1، مكتبة مديولي، القاهرة، 2002م.

3.    النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية، بهاء الدين بن شداد، الطبعة الأولى، دار الأوائل، دمشق، 2003م.

4.    صلاح الدين الأيوبي، علي الصلابي، ط1، دار ابن كثير، دمشق، سوريا، 2009م.

5.    مرآة الزمان في تاريخ الأعيان، سبط بن الجوزي، ط1، دار الرسالة العالمية، دمشق،2013.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس