ترك برس

ليس من المستغرت أن تجد كل تركي مهما صغر أو كبر، يفتخر بملحمة "جنق قلعة" ويعرف عنها ولو الشيء اليسير، إذ أن المعركة التي وقعت زمن الدولة العثمانية وغيرت مصير تركيا الحالية، شهدت أيضاً اختلاط الدم التركي بالعربي.

معركة جناق قلعة بالعربية أو "تشاناكلي" باللغة التركية أو حملة "غاليبولي" باللغات الغربية، كلها أسماء للموقعة التي حدثت في منطقة جناق قلعة، وهي مدينة تركية تسمى اليوم "تشاناكالي"، وتطل على مضيق الدردنيل الذي يربط بحر مرمرة ببحر إيجه والبحر المتوسط.

أسباب الحرب

في عام 1912؛ اندلعت حرب البلقان بين الدولة العثمانية وكل من: بلغاريا وصربيا واليونان والجبل الأسود، الذين شكلوا اتحاد البلقان بدعم من روسيا القيصرية، وكانت نتيجتها هزيمة الدولة العثمانية وخسارتها لأكثر من 80% من أراضيها في أوروبا، وتوقيع العثمانيين اتفاقية "لندن" التي أفضت إلى قيام دولة ألبانيا المستقلة.

بعد اتفاقية لندن بعام واحد اندلعت الحرب العالمية الأولى عام 1914، وكانت الدولة العثمانية أحد أطرافها، إذ اتخذت جمعية الاتحاد والترقي التي كانت في بداية حكمها للبلاد قرارها بالدخول في الحرب إلى جانب ألمانيا والنمسا والمجر، حيث شارك الأسطول العثماني بجانب الأسطول الألماني بالهجوم على المواني الروسية الواقعة على البحر الأسود في منطقة القوقاز، وذلك بهدف هزيمة الدولة الروسية التي اتجهت لعقد تحالف مع بريطانيا وفرنسا، بحسب تقرير لـ "الجزيرة نت".

وبدت كفة الحرب في أوروبا الغربية تميل لصالح الألمان ضد بريطانيا، وذلك بسبب حفر الجيش الألماني الخنادق بشكل كثيف في أماكن الاشتباكات، مما دفع بريطانيا للبحث عن مساحات اختراق أخرى غير برية تستطيع من خلالها مهاجمة الحليفين الألماني والعثماني، وذلك تزامنا مع المشكلات الداخلية في مجلس الحرب البريطاني؛ بسبب إخفاق خطة وزير الحربية البريطاني هربرت كتشنر، التي ركزت على المعركة في أوروبا الغربية، وأهملت باقي الجبهات المشتعلة مع الألمان والعثمانيين.

مع بدايات عام 1915؛ انقسمت الحكومة البريطانية إلى فريقين، أولهما يقوده وزير الذخيرة جورج لويد الذي عدّ أنه يمكن التحالف مع دول البلقان المنتصرة مؤخرا على العثمانيين، وذلك بهدف ضرب ألمانيا عن طريق حليفتها العثمانية، ورأى أن هزيمة العثمانيين تُفضي حتما إلى ترك الجيش الألماني وحيدا في الحرب.

بينما رأى الفريق الثاني بقيادة هربرت كتشنر ووزير البحرية ونستون تشرشل أنه من المحال أن يتم الهجوم على العثمانيين فقط بالقوى البريطانية البحرية لأنها غير كافية، ولا بد من معركة برية بجانب المعركة البحرية، وهذا الأمر غير ممكن لأن القوات البريطانية البرية تقاتل بكامل قوتها على جبهة أوروبا الغربية.

استمر الهجوم العثماني على جنوب القوقاز تزامنا مع ثبات عسكري ألماني في أوروبا الغربية، مما جعل الإمبراطورية الروسية تضغط على بريطانيا، لأنه لو حدث انسحاب روسي من الحرب فقد كانت الجيوش الألمانية ستتمكن من تركيز قوتها على الجبهة البريطانية والفرنسية، مما كان سيُفضي إلى انهيار للدفاعات البريطانية والفرنسية أمام الجيش الألماني.

وبناء على ذلك وافقت الحكومة البريطانية على التجهز لهجوم بحري يستهدف الأراضي العثمانية، فكان على رأس القوات المخططة للهجوم الفرقة البحرية الملكية البريطانية، ورافقتها الفرقة البريطانية 29 البرية، إضافة إلى قوات أسترالية ونيوزيلندية وصلت مصر للمشاركة في الهجوم المرتقب على مضيق الدردنيل بوابة احتلال إسطنبول.

الحرب

مع بداية شهر فبراير/شباط 1915 بدأ الفرنسيون والبريطانيون بتنفيذ خطتهم للمعركة التي اتفقوا على أن تكون على مراحل عدة: برية وبحرية، وشاركت فيها 5 غواصات بريطانية وغواصتان فرنسيتان، وعُيّن الأميرال البريطاني "ساكفيل كاردِن" قائدا للمعركة.

كانت الفرقة 19 بقيادة مصطفى كمال والفيلق الخامس بقيادة الجنرال الألماني ليمان فون ساندرز مسؤولين عن منطقة المعركة، إذ عيّن ساندرز بداية رئيسا للبعثة العسكرية الألمانية في تركيا عام 1913 ثم لاحقا مع بداية معركة جناق قلعة تولى رئاسة الفيلق الخامس.

واعتمد التكتيك العسكري العثماني على زرع الألغام البحرية بكثافة في المضيق، مما عرقل حركة القوات البحرية المهاجمة قبل وصولها إلى السفن والطرادات العثمانية المتركّزة في المضيق، إضافة لتجهيز فرق المدفعية على طرفي المضيق، مما أعطى الجيش العثماني أفضلية لمهاجمة السفن التي حاولت احتلال المضيق، إضافة لزيادة القوات البرية المدافعة، وذلك تحسبا لهزيمة القوات البحرية.

بدأت المعركة يوم 19 فبراير/شباط بهجوم عبر قنابل ألقتها السفن البريطانية والفرنسية تجاه النقاط العسكرية العثمانية المتمركزة على طرفي المضيق، ولكن لم يكن هناك رد عثماني مما جعل السفن المهاجمة تحاول دخول المضيق.

وواجهت السفن المتقدمة كثافة في الألغام المزروعة، ولكن القوات البريطانية استمرت بضرب القوات العسكرية العثمانية على الرغم من القنابل العثمانية الضخمة التي يصل وزن بعضها إلى 250 كلغ، مما جعل الخسائر كبيرة في النقاط العسكرية التي استهدفتها.

استمرت الهجمات بين الطرفين، إذ كان الهدف البريطاني هو إضعاف العثمانيين على طرفي المضيق، وذلك عبر قصفهم تزامنا مع هجوم بري، بهدف عزل القوات العثمانية البحرية المتمركزة بالمضيق وهزيمتها.

مع تحسن الأحوال الجوية في منتصف شهر مارس/آذار 1915؛ عززت القوات العثمانية من الألغام البحرية في المضيق، ومع دخول الأسطول البريطاني والفرنسي (المكون من 3 فرق بحرية: اثنتان بريطانية وواحدة فرنسية ) المضيق في 18 مارس/آذار؛ غرقت 3 بوارج من قوات الحلفاء، وأصيبت 3 أخرى نتيجة انفجار الألغام فيها والقصف الكثيف من طرفي المضيق من العثمانيين، مما اضطر القوات البحرية البريطانية والفرنسية إلى الانسحاب باتجاه مصر.

وكان يوم 18 مارس/آذار هو تاريخ نهاية المعركة البحرية التي انتصر فيها العثمانيون، ولكن المحاولات البريطانية استمرت من أجل إنزال بري. وشارك في هذه المحاولات فيلق المشاة الشرقي الفرنسي واللواء 29 الهولندي، تزامنا مع خطوط إمداد مستمرة، ولكن قدرة العثمانيين على الصمود حتى شهر أغسطس/آب 1915 أدت إلى انسحاب قوات الحلفاء من المنطقة، وإعلان إخفاق المحاولة البريطانية الفرنسية لاحتلال مضيق الدردنيل بوابة العاصمة إسطنبول حنيها.

نتائج المعركة

انتهت العمليات العسكرية بشكل كامل في سبتمبر/أيلول 1915 وأدّت إلى 300 ألف ضحية من قوات الحلفاء المهاجمة بينهم 56 ألف قتيل، و250 ألف ضحية من القوات العثمانية بينهم 45 ألف قتيل.

وكانت القوات العثمانية في المعركة خليطا من العرب والأتراك والأكراد والقوميات والشركس والأعراق الأخرى، وبلغ تعدادها أكثر من 500 ألف مقاتل.

وظهرت خلال المعركة الشخصية العسكرية لمصطفى كمال لأول مرة، فقد كان قائدا للفرقة 19 ثم رُقّي إلى رتبة عقيد بعد المعركة.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!