ترك برس

سلط تقرير للأكاديمي والمترجم التركي محمد حقي صوتشين، الضوء على أبرز محطات الشعر التركي من "الديوان" وحتى عصر الانترنت، وذلك بالتوازي مع التحولات السياسية والفكرية والاجتماعية.

الكاتب ذكر في مقال له على موقع "المجلة"، أن "الأدب التركي القديم نشأ وتطوّر تحت تأثير قوي بالأدب الفارسي الذي نشأ بدوره تحت تأثير قوي بالأدب العربي شكلا ومضمونا. ومثلما كانت اللاتينية هي اللغة الثقافية المشتركة في أوروبا في العصور الوسطى، كانت اللغة العربية تلعب الدور نفسه في العالم الإسلامي. وكان للفرس الأسبقية في اعتناق الإسلام والتفاعل مع الشعر العربي مقارنة بالأتراك الذين استخدموا اللغة الفارسية، في البداية، في إنتاج الأدب المكتوب، واللغة العربية في العلوم الدينية والعلمية."

وأضاف أنه مع ضعف حكم الخليفة العباسي في بغداد وشبه استقلال عدد كبير من حُكام الولايات التابعة للدولة العثمانية، بدأت اللغة الفارسية وثقافتها تنتعش في الأطراف الشرقية من الإمبراطورية الإسلامية. وبعد توقُّف دام ثلاثمئة عام من اعتناق الفرس الإسلام، بدأ نشر الأعمال الأولى باللغة الفارسية. وتُعتبر ملحمة "الشاهنامه" للفردوسي نقطة تحوّل لولادة أدب فارسي إسلامي جديد يستلهم الأدب العربي شكلا ومضمونا، ويضيف خصائص متميّزة جديدة لهذا الموروث.

وفيما يلي النص الكامل للمقال:

وقد أنتج هذا الأدب شعراء كبارا ألهموا الآداب الإسلامية الأخرى، بما فيها الأدب التركي، حتى نهاية القرن الخامس عشر، أمثال الشعراء: أنْوَري، عَطّار، نِظامي، سَعدي، حافِظ، عُمَر الخيّام، جلال الدين الرومي، جامي، وغيرهم كثيرون."

"شعر الديوان"

وفي حين كانت شرائح المجتمع التركي تتعامل مع الشعر الشعبي شفويا من خلال الوزن المَقْطَعي الذي يقوم على عدد المقاطع المتساوية مع الحفاظ على أشكال مختلفة من القافية، فإن تأثير الشعر الفارسي بصورة مباشرة والشعر العربي بصورة غير مباشرة، خلق نوعا جديدا في الشعر التركي، سمّي بـ"شعر الديوان" الذي استخدم لغة هجينة مكوَّنة من التركية والعربية والفارسية، تتسم بكونها لغة نخبوية يفهمها خواصّ الناس من المثقفين آنذاك.

كانت اللغة التركية، في البداية، لا تناسب كثيرا البحور العروضية، لكن حُلّت المشكلة تدريجيا من خلال تحويل صوائت قصيرة في اللغة التركية إلى صوائت طويلة، وإدخال عدد كبير من المفردات والتراكيب اللغوية من اللغتين الفارسية والعربية، وهكذا جرى تكوين لغة تركية "رفيعة" لإنتاج الأدب المكتوب. لم يقتصر شعر "الديوان" على الاستمتاع بالمفردات الفارسية والعربية فحسب، بل وصل الأمر إلى استخدام جماليات الأسلوب والتخييل لهذين الأدبين، فأصبح العديد من "شعراء الديوان" قادرين على كتابة الشعر بثلاث لغات أي التركية والفارسية والعربية، منهم الشاعر فُضولي البغدادي، والشاعر نابي، والشاعر نَفْعي.

استمر الشعر التركي الكلاسيكي الذي سمّي بـ"شعر الديوان" على هذا المنوال حتى نهاية القرن التاسع عشر، إلى جانب الشعر الشعبي والشعر الصوفي، بعدما استقلّ عن الشعر الفارسي وكوّن عالما شعريا متميزا. كما جرت محاولات لتجديد الشعر العروضي التركي لكنها لم تؤدِّ إلى تغيير جذري في الشعر التركي، وكان من الضروري الانتظار حتى القرن العشرين لحدوث مثل هذا التغيير.

مع حلول القرن العشرين، دخل الشعر الديواني فترة محاسبة مع العروض. ثمة أسباب كثيرة تكمن وراء هذه المحاسبة، بينها الحداثة التي شملت جميع مجالات الحياة، وتطوّر أدب تركي جديد تحت تأثير الأدب الغربي، فضلا عن التغيير الذي مرّت به اللغة التركية بعد انهيار الدولة العثمانية المتعدّدة اللغات والثقافات والأعراق، وتأسيس نظام جمهوري ذي طابع قومي من شأنه أن يمنح هوية لغوية قومية للغة التركية. هكذا بدأت محاولات تبديل مفردات فارسية وعربية في التركية العثمانية بمفردات تركية "خالصة". كما شجّعت المؤسسات الثقافية للدولة الجديدة العودةَ إلى الوزن المقطعي الذي كان يُستخدم في الشعر الشعبي الشفوي منذ قرون، بدلا من البحور العروضية التي انتقلت من العربية إلى الفارسية، ومنها إلى التركية العثمانية، علما أن قصيدة الوزن المقطعي تتكوّن من أبيات أو رباعيات ذات أشطر متساوية المقاطع مع الحفاظ على قافية الأشطر كاملة أو جزئيا.

الكلاسيكية الجديدة

ظهر الوزن المقطعي في المقدمة مع محاولات تنقية اللغة التركية خلال العقدين الأوّلَيْن  من عمر الجمهورية، مع ذلك لم ينعدم العَروض من الشعر التركي بين عشية وضحاها، فكلّما "نقّيت" اللغة التركية زادت صعوبة استخدام العروض في نظم الشعر باللغة التركية، لأن الشعراء العثمانيين كانوا مضطرّين إلى استخدام لغة تركية هجينة تبنّت حصيلة لغوية كبيرة من العربية والفارسية، إلا أن هناك أيضا شعراء كتبوا قصائد "حديثة" دون الابتعاد عن العروض، في مقدمهم الشاعران يحيى كمال وأحمد هاشم، اللذان يشبّه دورهما بالدور الذي لعبه شعراء مدرسة الإحياء والبعث في الشعر العربي، لذلك سميتُهم بـ"الكلاسيكيين الجدد".

لقد تقفّى يحيى كمال دائما آثار موسيقى القصيدة العروضية لكنه استخدم العروض بمحتوى "حداثي". وهناك اتجاهان طاغيان في شعره، أولهما تجربة شعرية تتميّز بحساسية فردية، وثانيهما ثيمات تاريخية وتقليدية تهيمن على القصيدة، فيُحتفى بالماضي بصورة ملحوظة. أما أحمد هاشم فهو عربيّ وُلد في بغداد، كتب شعرا تركيا لم ينفصل البتة عن موسيقى العروض، لكنه نجح في البقاء داخل دائرة "الحداثة الشعرية" إلى حد بعيد. تلاحَظ في شعره آثار الشك والقلق، بقدر ما هو مليء بالصفو والنقاء بحسب مفهوم الشاعر الفرنسي بول فاليري.

مع حركة "الكلاسيكية الجديدة" الآنفة الذكر، التزم الشعراء التقليد الشعري العثماني، وتمكنوا من خلق قصيدة "حديثة" ذات طابع كلاسيكي من خلال مفاهيم مثل الرمزية والشعر الصافي والموسيقى في الشعر، سبق أن كانت موضع نقاش في الشعر الغربي، وكانت الحركة نتاج تطور ثقافة المدينة لدى النخبة العثمانية من خلال نمو الفنون الجميلة كالموسيقى والمسرح والرسم، ومن الطبيعي أن تكون لها انعكاسات على الأدب والشعر التركيين.

ثلاثة اتجاهات

وقد ظهرت ثلاثة اتجاهات سياسية متعارضة في الفترة الأخيرة من عمر الدولة العثمانية، بعدما ضعفت تدريجيا من حيث القوة السياسية والعسكرية، وهي: الاتجاه الغربي، واتجاه الأمة الإسلامية، والاتجاه القومي التركي. بينما دافع الشاعر توفيق فِكْرَت بحماسة عن الاتجاه الغربي في مجال الشعر، فقد دافع الشاعر محمد عاكف أرصوي، مؤلف النشيد الوطني لتركيا الحديثة، عن إحياء الدولة العثمانية بصفتها دولة للأمة الإسلامية، أما الشاعر محمد أمين يُورْداكُول فدافع عن القومية التركية في الشعر والأدب. واستمر هذا النقاش بصورة مكثفة حتى الأربعينات، إلا أن الحركة التي برزت خطوة بخطوة بين هذه الاتجاهات كانت القومية التركية كفكرة أيديولوجية. وأدّت الهزائم في حروب البلقان وطرابلس الغرب إلى تضييق الحدود العثمانية، وقلبِ بنية الدولة المتعددة الثقافات رأسا على عقب، مما عزّز بقوةٍ ظهورَ القومية التركية وفكرة الدولة القومية، وخاصّة بعد الهزيمة التي منيت بها الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى.

مع تطوّر الأيديولوجية التركية، صار من الضروري التخلّي عن العروض الذي اعتُبر وزنا "غير تركيّ" لحساب الوزن المقطعي الذي اعتُبر شكلا شعريا قوميا، مما يعني الابتعاد عن الموسيقى والإيقاع اللذين اكتسبتهما القصيدة الكلاسيكية التركية عبر العصور. فشهدت القصيدة التركية بهذا الابتعاد خسارة موسيقية، إلا أن العودة إلى الوزن المقطعي كانت "ابتكارا" سياسيا من النظام الثقافي الرسمي، مع ذلك لم يُعِرْ شعراء مهمون في تلك الفترة، مثل يحيى كمال وأحمد هاشم ومحمد عاكف أرصوي، اهتماما بهذا "الابتكار".

لم يستبعد الشاعر يحيى كمال توسّعَ الشعر الحديث في فرنسا، إلا أنه رأى أيضا أنه من الضروري أن تظهر نزعة محلية فريدة في الشعر التركي، فشدّد على الصوت والموسيقى في الشعر دون التضحية بالمعنى. وعلى الرغم من أن يحيى كمال وأحمد هاشم يمثلان اتجاهين مختلفين في الشعر التركي الكلاسيكي (الجديد)، إلا أنهما أصبحا مصدر إلهام لشعراء من الأجيال اللاحقة.

وعلى الرغم من الترويج الرسمي للوزن المقطعي في الشعر، فإن هذا الوزن لم يتمكن من إنتاج شعراء مهمين عاشوا بقصائدهم حتى اليوم، باستثناء بعض الأسماء التي عاشت إلى يومنا مثل أحمد مُحِبّ دراناس، وجاهد صدقي طرانجي، ونجيب فاضل كيساكوريك الذين ابتكروا قصيدة فريدة باستخدام الوزن المقطعي في الأربعينات.

بعد الألفية

إن العقد الأول من القرن الحادي والعشرين هو الفترة التي فرضت فيها أيديولوجيا الاستهلاك هيمنتها. في الوقت الذي وجّهت فيها التطورات التكنولوجية سكان المدن، قديمهم وجديدهم، الذين سعوا إلى أن يصبحوا أفرادا في رحاب الإنتاج الجديد، فقد ظهرت الإنترنت كشبكة تواصل تشمل العالم كله، فغيّرت أنماط التواصل في العلاقات الإنسانية، مؤدّية إلى ظهور نماذج جديدة من الوحدة والعزلة والغربة. وقد أخذ الشعر أيضا نصيبه من هذا التغيير.

هناك نقطة أخرى تجذب انتباهنا في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين وهي ظهور شاعرات متميزات، فَتَحْنَ قصائدهنّ بحرّية على الاستعارة، وعلى المحور الأنثوي لمشكلة الوجود، والاعتراض على اللغة الذكورية، والبحث عن هويتهنّ من خلال الشعر. بالتوازي مع ذلك، أصبح التهكّم والسخرية أحد العناصر المحددة لدى العديد من شاعرات هذه الفترة. ومن بين الشاعرات البارزات أليف صوفيا، ألتشين سيفغي، صوتشين، غونجة أوزمان، بيتول دوندر، هلال كاراهان، خيرية أونال، زينب أركان، دويجو كانكايتسين، وديدام غولتشين أرديم. أما من شعراء جيل الألفية ممن حاولوا إنشاء صوتهم المتميز في شعرهم، نذكر محمد أرتة، غوكشينور شلبي أوغلو، فخري غوللو أوغلو، إرسون شيبلاك، سيّدخان كومورجو، أفة دويان وغيرهم كثيرون. ويُعتبر الشاعران سليم تيمو ولال لاليش اللذان يكتبان باللغتين التركية والكردية على حد سواء، من أبرز الأسماء الحديثة التي جلبت الدالّات الكردية وقضاياها السياسية إلى الشعر.

تركز الثيمات التي يستخدمها شعراء هذه الفترة في قصائدهم في الغالب على العالم الداخلي للفرد، وبيئته القريبة، والحنين إلى اللحظات الجميلة في ثقافات محلية غابرة، والتذمّر من انعدامها في الوقت الحاضر، وتفسّخ العلاقات بين الأفراد، ورحلة الإنسان في حياته اليومية. بالإضافة إلى هذه الثيمات هناك أصوات شعرية تفكّك الصدمات والحالات الوجودية للإنسان، مع تعرية الأقنعة الظالمة على المستويين المحلي والعالمي. وعلى هذا المنوال، يستمر الشعر التركي اليوم في التطور بصورة ديناميكية من خلال مجلات شبابية غير محترفة ومجلات إلكترونية بجانب المجلات المطبوعة المحترفة.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!