أحمد البرعي - خاص ترك برس

لم ينكفئ، كما كان يتمنى البعض، الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، عقب نتائج الانتخابات التركية، ولم تنطفئ شعلة خطاباته، بل إن المتابع يكاد لا يلمس تغييراً جذريا في اللهجة وأسلوب الخطاب الذي اتصف به، إذ لا يخلو من نبرة التحدي، وإعلاء الصوت بالمضي قدماً لتحقيق رؤية تركيا الكبرى عام 2023. وإن كانت المرحلة تتطلب بعض التغيير التكتيكي في خطابه الموجه لبعض أحزاب المعارضة بمطالبتهم بوضع الأنا الشخصية والحزبية جانباً وإعلاء مصلحة تركيا والشعب التركي وتشكيل حكومة ائتلاف تقود المرحلة القادمة حسب ما أفرزته نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة. ولعل هذا ما يميز السياسة التركية، كما يحلو للبعض أن يراها، وهي أنها براجماتية عملية لا تتأثر بالعواطف والحسابات الضيقة. في حين يرى آخرون أن السياسة بالمبادئ والجهر بالشعارات الإسلامية والتمترس خلفها هو الطريق الأمثل والأفضل للوصول إلى "سياسية شرعية" نظيفة غير تلك التي تلوثها الحسابات والمقاربات القذرة في بعض الأحيان.

قبل عدة أيام شارك الرئيس التركي جمعية المصدرين الأتراك بتوزيع جوائز أفضل المصدرين الأتراك والتي فازت بها الشركة القابضة "كوتش" بأربع جوائز عن شركاتها "فورد، وأرتشيليك وتوفاش وفوبراش". المفارقة أن أصحاب هذه الشركة هم من أشد أعداء أردوغان السياسيين بل وإن جامعة "كوتش" التابعة لهذه العائلة ومجموعتها القابضة كانت قد اتهمت من قبل حكومة العدالة والتنمية بأنها أحد أهم المحرضين على أحداث "حديقة جيزي" بل وإن عمداء كلياتها ورئيسها كانوا قد صرحوا لطلاب الجامعة بأنه سيتم عقد امتحانات تعويضية عن الامتحانات الفصلية لمن يتغيب من الطلاب، بعذر أو بدون عذر، وذلك لتشجيعهم على المشاركة في مظاهرات ميدان التقسيم وأحداث "جيزي". فكيف وبعد كل هذا يقوم رئيس الجمهورية بتسليم جوائز الدولة لمثل هذه المجموعة؟ هل هي ميكافيلية نفعية؟ أم براجماتية سياسية؟ والغريب أيضاً أن هذه المجموعة نفسها تقبل بأن يتم تكريمها مع رجل الأعمال الإيراني، رضا زراب، والذي كان قد اتهم في قضية الفساد الحكومي التي أقيل على إثرها أربعة وزراء للعدالة والتنمية.

وقد يستغرب البعض أيضاً، بل ويستهجن موقف أردوغان من المعارضة التركية إذ كان يكثر من قوله "لو أعطيتم أحزاب المعارضة التركية عندنا 3 خراف يرعوها، سيضيعونها ويعودون بخفي حنين"، وقوله أيضاً "إن عندنا في تركيا معارضة أسأل الله أن لا يبتلي بها أحداً"، ولكن وبعد نتائج الانتخابات الأخيرة يجد حزب العدالة والتنمية نفسه مرغماً على التحالف مع أحد أحزاب المعارضة هذه لتشكيل حكومة ائتلاف وهو ما يبدو مرجحاً، حتى اللحظة، على الانتخابات المبكرة أو انتخابات الإعادة، كما يسميها أردوغان. وهذا ما ينسحب أيضاً على أحزاب المعارضة التي لم تبق لها فرصة للتراجع فكانت تعلن ليل نهار اتهامها للعدالة والتنمية بالفساد والمحسوبية وخلق الاستقطابات الاجتماعية والسياسية التي صدعت النسيج الاجتماعي التركي. فكيف لها الآن أن تقنع قواعدها الحزبية بضرورة تشكيل حكومة ائتلافية مع الحزب الذي طالما اتهمته بالفساد؟! ولكنها البراجماتية السياسية يا عزيزي.

ولا تقتصر البراجماتية التركية على الداخل التركي والتعامل مع الملفات المحلية المختلفة بل إنها أيضاً واضحة في السياسة الخارجية، فالناظر إلى ملف العلاقات الاقتصادية التركية يرى بأن حجم التجارة البينية التركية الإسرائيلية في العام الماضي قد بلغ 5.44 مليار دولار وهو ما يسجل ارتفاعًا بنسبة 11.5% عن العام 2013، والغريب أن الصادرات الإسرائيلية لتركيا قد بلغت 2.75 مليار دولار. تلك هي إسرائيل التي ينادي أردوغان وحكومته بالعداء لها وبأن العلاقات بين تركيا وإسرائيل لن تعود إلى سابق عهدها ولن يكون لتركيا سفير في إسرائيل حتى يتحقق الشرط التركي الثالث برفع الحصار عن غزة ودفع التعويضات لعائلات الشهداء العشرة الذي ارتقوا في أحداث سفينة مرمرة. ويذكر أن إسرائيل قد قدمت اعتذاراً رسمياً لتركيا يعد الأول من نوعه في تاريخ دولة الكيان. والسؤال هو، لماذا لا تقطع العلاقات الاقتصادية مع دولة الكيان؟ ولماذا لا تعلو أصوات المنادين بمقاطعة البضائع الإسرائيلية؟ وهل تركيا بحاجة لبضعة المليارات هذه من العلاقات الاقتصادية مع دولة الكيان؟

كثيراً ما اتهمت المعارضة أردوغان وحزبه بالنفاق السياسي، فمن جهة ينادي جهاراً بالعداء لإسرائيل ومن جهة أخرى فإن حجم التجارة البينية معها يتضاعف. بل إن البعض وخاصة حزب الشعوب الديمقراطي الكردي، اتهمه بأنه يزود الطائرات الإسرائيلية بوقودها الذي تحلق به لتقصف الأراضي الفلسطينية وتقتل الأطفال الفلسطينين. وعادة ما يكون رد أردوغان بأن الدول وخاصة دولة كبيرة كتركيا لا تحكم بالعواطف والمشاعر. ولكن على الصعيد الآخر، ما الفائدة المرجوة من قطع هذه العلاقات؟ ألا يمكن أن يقدم الدعم للقضية الفلسطينية بطرق أخرى؟ ألم تقف تركيا دائماً أمام دول العالم مدافعة عن حق الشعب الفلسطيني؟ ألم تقدم كافة أنواع المساعدات في التعليم والصحة والبنية التحتية لقطاع غزة والضفة الغربية؟ صحيح أن التبادل التجاري مع دولة العدو لم يكن السبب في رقي وتقدم تركيا اقتصادياً، ولكن قيادة الدول وإدراة البلاد لها مقارباتها وحساباتها التي لا تخضع لمنطق المثالية التامة ونظريات الفضيلة البحتة.

وإلا فكيف تفسر حجم التبادل التجاري الذي يقدر بالمليارات بين الصين والولايات المتحدة أو بين روسيا والولايات المتحدة مع أن كلا منهم يشهر العداء للآخر، وكذا فإن تركيا تقف موقفاً عدائياً من السياسات الروسية والإيرانية وخاصة في المسألة السورية ومع ذلك فإن العلاقات الاقتصادية تزداد وتزدهر بين البلدين وهناك زيارات متبادلة لا تنقطع على الصعيد السياسي والاقتصادي. هذه ليست ميكافيلية "الغاية تبرر الوسيلة" بمعنى أن أردوغان يريد لتركيا أن تصبح قوة عظمى ودولة كبرى ولذا فهو يتنازل عن المبادئ من أجل تلك الغاية. هذا غير صحيح بالمطلق وإلا فقد كان للرجل أن يبيع القضية السورية ويتخلى عن المهاجرين السوريين من بلادهم والذين قد بلغ عددهم ما يقارب المليونين في تركيا وهو ما يكلف الخزانة التركية الكثير في حين أن دول الجوار الأخرى لم تقم بعشر ما قامت به تركيا. أعتقد أنه قد آن الأوان أن تتوقف المراهقة السياسية القاصرة التي لا تنظر إلى الأبعاد بمجملها والمسائل بمآلاتها.

عن الكاتب

د.أحمد البرعي

باحث ومحاضر في قسم الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة أيدن


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس