ترك برس

سلّط تقرير لشبكة الجزيرة القطرية، الضوء على تصوير ابن بطوطة، أشهر رحالة المسلمين والعالم قديما، لتركيا والعثمانيين، خلال زيارته لمنطقة الأناضول في العصور الوسطى.

التقرير الذي حمل توقيع الباحث محمد شعبان أيوب، استهل الافتتاحية بالتعريف بابن بطوطة، وهو محمد بن عبد الله الطنجي الذي عاش ومات في القرن الثامن الهجري/الرابع عشر الميلادي أشهر رحالة المسلمين والعالم في عصوره الوسيطة، لا يقارعه في مكانته ربما إلا الإيطالي ماركو بولو، وقد وصفه بعض المستشرقين الروس والغربيين بأنه "أمير الجغرافيين المسلمين"، ولا عجب في ذلك، فقد ظل الرجل طوال ثلاثين عاما يجوب الأرض من أطرافها، وعكف المئات من علماء التاريخ والجغرافيا والرحالة على دراسة رحلته التي أسماها "تحفة النُّظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار"، ووصلوا إلى استنتاج يؤكد صحة هذه الرحلة ودقة ما جاء فيها، اللهم إلا ما سمعه ابن بطوطة من الناس من روايات فأوردها ولم يقف على صحتها أو يشاهدها بنفسه.

وأضاف: وتمتاز رحلة ابن بطوطة بأنها ركَّزت على الناس في يومياتهم وحرفهم ومعايشهم والظواهر الاجتماعية والثقافية والفكرية التي كانت تغلب عليهم، وهو اهتمام يجعلنا ندين له بالفضل في الإفصاح عما سكتت عنه مصادر التاريخ الأخرى التي اهتمت بالسياسة والاقتصاد والحروب وميادين العلم والعلماء، ولم تتوقف مع طبقات العامة وهم أغلبية السكان وصناع التاريخ المنسيون، أولئك الذين بدأت بعض الدراسات التاريخية الحديثة تهتم بهم.

وفيما يلي النص الكامل لتقرير "الجزيرة نت":

ومن جملة الأقطار التي ذهب إليها ابن بطوطة في ثلاثينيات القرن الثامن الهجري آسيا الصغرى أو بلاد الروم أو "برُّ التركية" على حد وصفه، وهو وصف لافت قلَّما وصف به المؤرخون والجغرافيون العرب والمسلمون هذا الإقليم، وقد اختاره ابن بطوطة لغلبة الأتراك في الإقليم عرقا ولغة منذ قرنين سبقا مجيئه إلى هذا القُطر، وكانت الأناضول يوم نزلها ابن بطوطة إحدى عشرة دويلة أو إمارة تُسمَّى بَكَوِيَّات الأناضول (Anadolu Beylikleri)، وحكمت كل إمارة منها قِسما من هذه المنطقة، على سبيل المثال في قونية وما يجاورها ساد "بنو قَرَمان"، وفي أقصى غرب الأناضول ساد "بنو آيدِن" و"بنو صاروخان"، إلى غير ذلك من الأمثلة، وسادت تلك البَكَويَّات بعد انفراط عقد دولة سلاجقة الروم في بداية ذلك القرن، لا سيما بعد الضربة القوية التي أنزلها المغول بالسلاجقة فأخضعوهم منذ منتصف القرن السابع الهجري وحتى ثلاثينيات القرن الثامن الهجري، وقد شابهت هذه البكويَّات ملوك الطوائف في الأندلس بعد سقوط الدولة الأموية فيها.

الأخِيَّة مأوى الغرباء

نزل ابن بطوطة الأناضول قادما من بلاد الشام، واتخذها مَعبرا قبل الانتقال إلى القِرِم وبلدان مغول القبيلة الذهبية المسلمين الذين كانوا يحكمون جنوب روسيا وقتذاك، ويُحدِّثنا ابن بطوطة بأن رفيقه في هذه الرحلة كان رجلا من مدينة "توزر" التونسية اليوم اسمه الحاج "عبد الله بن أبي بكر بن الفرحان التوزري"، فيقول: "ركبنا البحر في قرقورة (سفينة) كبيرة للجُنويِّين يُسمَّى صاحبها بمرتلين، وقصدنا برَّ التركية المعروفة ببلاد الروم، وفي العاشر من ربيع الأول (732هـ/1333م) وصلنا إلى مدينة العلايا، وهي أول بلاد الروم"[1]، وهي المعروفة اليوم باسم علانية أو ألانيا التابعة لمحافظة أنطاليا التي يسميها ابن بطوطة "أضاليا".

منذ حطت قدماه في هذه البلدان قابل ابن بطوطة روابط "الأخيَّة"، وهي تنظيمات اجتماعية صوفية كان لها نفوذ في القضايا العامة وشؤون الحكم والسياسة، وهي امتداد لمؤسسة "الفُتوَّة" التي تعود إلى عهد الخلافة العباسية، وقد أُنشِئت الفُتوَّة في بادئ الأمر من عامة الناس لمواجهة قُطاع الطرق والسُّراق، ثم تطورت فيما بعد إلى مؤسسة تضامنية أخلاقية أشرف عليها مشايخ الصوفية حتى بلغت ذروتها مع الخليفة العباسي "الناصر لدين الله" الذي تبناها ونشر مبادئها في مشارق العالم الإسلامي الخاضع له، وقد تكونت الفتوة أو الأخيَّة في الأناضول من أبناء الحِرَف والصُنَّاع الذين كانوا يُسمَّون الفتيان، وزعيمهم وممثل طائفتهم يُطلَق عليه "أخي"، وكانت لهم زوايا وتكايا في طول الأناضول وعرضها، ولا تزال آثارها باقية حتى يومنا.

وقد أثنى عليهم ابن بطوطة كثيرا في رحلته، لأنهم كانوا نصرة للضعيف ومأوى للغريب ويدا واحدة أمام الأمراء والشرطة "الظالمة"، فيقول: "واحدُ الأخيَّة أخي، على لفظ الأخ إذا أضافه المتكلم إلى نفسه، وهم بجميع البلاد التركمانية الرومية (الأناضول) في كل بلد ومدينة وقرية، ولا يوجد في الدنيا مثلهم أشد احتفالا بالغرباء من الناس وأسرع إلى إطعام الطعام وقضاء الحوائج، والأخذ على أيدي الظلمة، والأخيُّ عندهم: رجل يجتمع عليه أهل صناعته وغيرهم من الشبان العزاب والمتجردين ويقدمونه على أنفسهم، وتلك هي الفُتُوَّة أيضا"

قتال لاستقبال ابن بطوطة

انتقل ابن بطوطة من علانية إلى أنطاليا التي يسميها "أضاليا"، وكانت ميناء أكبر سعة وأقدر على التجارة الدولية مع مصر والشام والبندقية وغيرها، وباعتبارها ميناء وثغرا إسلاميا وقفت أنطاليا أمام الأنشطة الصليبية المعادية من فرسان القديس يوحنا، تلك الجماعة الدينية الباقية من زمن الحروب الصليبية في شرق البحر المتوسط، والتي ارتكزت في قاعدتها القريبة من جزيرة رودِس آنذاك، ولاحظ ابن بطوطة تخطيط المدينة الساحلية تخطيطا توافق مع هذا التحدي الأمني الكبير، فقد كانت أنطاليا مُقسَّمة إلى أحياء، لكل طائفة من الناس في داخلها قسم يحيط بهم سور، فهناك قسم لتجار النصارى "في الموضع المعروف بالميناء، وعليه سور تُسَد أبوابه عليهم ليلا وعند صلاة الجمعة"، ويبدو أن هذا السور الداخلي المخصص لتجار النصارى كان "خشية غدرهم وقت انشغال المسلمين في صلاة الجمعة أو عند نومهم ليلا"، ونلحظ أن المسلمين كان لهم مدينة داخلية يحيط بها سور، وكذا لليهود، ولرجال الحكم والدولة من بني قرمان.

تنبَّه ابن بطوطة لأهمية المزروعات والثمار التي كانت تُزرَع وتُحصَد في هذه المنطقة، ومنها "المشمش العجيب المُسمَّى عندهم بقمر الدين، وفي نواته لوز حلو، وهو يُيَبَّس ويُحمَل إلى ديار مصر، وهو بها مستطرف"[3]، ومن نص ابن بطوطة هذا الذي يرجع لثمانية قرون نعرف أصل قمر الدين وتاريخ صنعته وجلبه إلى مصر، فحتى يومنا هذا يشرب المصريون قمر الدين المصنوع والمطبوخ من المشمش اليابس المجلوب من الأناضول، لا سيما في شهر رمضان المبارك.

ترك ابن بطوطة أنطاليا واتجه إلى الشمال، فدخل بلدة "سَبرْتا" كما يسميها، وهي مدينة إسبرطة البيزنطية القديمة والشهيرة، والمحافظة التركية اليوم في غرب البلاد، وهي "بلدة حسنة العمارة والأسواق، كثيرة البساتين والأنهار" على حد وصفه، ثم انتقل إلى مدينة "أكريدُور"، وهي مدينة "أغيردير" التي تبعد عن إسبرطة مسافة 30 كيلومترا، وتقع على بحيرتها الشهيرة، وكانت وقتذاك مُستقَرا لإمارة "بني حميد"، وقد استقبله أميرها "أبو إسحاق بن دُندار" معظم شهر رمضان في هذه المدينة الجميلة، ويجب أن نُنبِّه إلى أن صفة ابن بطوطة في هذه الأسفار والرحلات لم تكن أنه رحالة سيَّاح فقط، بل رجل علم وفقيه وقاضٍ مالكي على درجة كبيرة من العلم والنباهة في الوقت نفسه، وتلك صفة سهَّلت لابن بطوطة كثيرا من أسفاره في بلاد مغول القِبجاق والهند وجزر الملديف وغيرها، وقد ترقَّى بينهم بسببها، وعُومِل معاملة لائقة به، وهو ما حدث في الأناضول أيضا، فنرى سلطان إمارة بني حميد يُجلِسه بجواره، حيث قال ابن بطوطة: "ويجلس الفقيه مصلح الدين إلى جانبه، وأجلسُ إلى جانب الفقيه، ويلينا أرباب دولته، وأمراء حضرته".

ثم انتقل ابن بطوطة إلى مدينة "لاذق" التي تُسمَّى اليوم "دَنيزلي"، وكانت مدينة كبيرة واسعة أثنى عليها، فهي عنده "من أبدع المدن وأضخمها، وفيها سبعة من المساجد لإقامة الجمعة، ولها البساتين الرائقة"، وقد لفت انتباهه أن قسما كبيرا من سكان المدينة كان من "الروم"، وهم البيزنطيون أو اليونان الأقدمون، "وأكثر الصناع بها نساء الروم، وبها من الروم كثير تحت الذمة، وعليهم وظائف للسلطان من الجزية وسواها"، وبسبب انتشار اليونان انتشر بيع الجواري الروميات، ما أدى لانتشار الفساد الأخلاقي في هذه المنطقة بسبب عمل الجواري في البغاء، فهم "يشترون الجواري الروميات الحسان ويتركونهن للفساد" على حد وصفه.

كان ابن بطوطة وصحبه ينزلون في كل مدينة عند الأخيَّة الفتيان الصوفية في زواياهم، وحدث ذات مرة أن تعاركت طائفتان من الأخيَّة في مدينة لاذق لاستقبال ابن بطوطة، وكاد العراك يصل إلى استخدام الأسلحة ووقوع الدماء، يقول: "وعند دخولنا في هذه المدينة مررنا بسوق لها، فنزل إلينا رجال من حوانيتهم وأخذوا بأعِنَّة خيلنا، ونازعهم في ذلك رجال آخرون، وطال بينهم النزاع حتى سلَّ بعضهم السكاكين، ونحن لا نعلم ما يقولون، فخفنا منهم"، لأن ابن بطوطة لم يكن يعلم اللغة التركية، ثم ظهر في المشهد رجل تركي كان قد سافر إلى الحج، ونال بعض المعرفة، وتعلم العربية، أخبره أن الفئتين تتعاركان على شرف استقباله "فعجبنا من كرم نفوسهم، ثم وقع بينهم الصلح على المقارعة".

ثم استقبل الأمير "إينانج" من "بني جرميان" ابن بطوطة، وصحبه في أخريات شهر رمضان في هذه المدينة، وهذه الأسرة التي كانت تحكم "كوتاهية" و"لاذق" وغيرها، كانت واحدة من أخطر إمارات التركمان في غربي الأناضول، فخشيها جيرانها من بني حميد وصاروخان وأيدن وغيرهم، فكانوا يفطرون مع هذا الأمير ويكرمهم، وظل ابن بطوطة هنالك حتى أهلَّ عليهم هلال العيد وخرجوا لصلاة العيد في إحدى الساحات العامة، وقد دوَّن ابن بطوطة ملاحظة مهمة تتعلق بالفتيان الأخيَّة، وارتباطهم بأهل الحرف والصناعات، فكل أصحاب حرفة وصنعة كانوا يمثلون طريقة صوفية في نظام الأخيَّات لهم أعلام ونظام داخلي خاص بهم، ولهم رئيس كما رأينا، يقول عن ذلك: "في عيد الفطر خرجنا إلى المصلى وخرج السلطان في عساكره والفتيان الأخيَّة، كلهم بالأسلحة، ولأهل كل صناعة الأعلام والبوقات والطبول والأنفار، وبعضهم يفاخر بعضا ويباهيه في حسن الهيئة وكمال الشِّكة".

ابن بطوطة من قونية إلى عاصمة العثمانيين الأولى

ترك ابن بطوطة لاذق واتجه إلى أهم وأعظم مدن بلاد الروم أو الأناضول، وهي قونية، عاصمة السلاجقة، ومركز الصوفية الكبير، ومرقد الشيخ جلال الدين الرومي أشهر صوفيتهم على الإطلاق منذ ذلك الوقت وحتى الآن، وقد أُعجِب ابن بطوطة بهذه المدينة من حيث التنظيم وسعة الشوارع والأسواق، ونزل أيضا في زوايا الفتيان الأخيَّة، ثم تحدث طويلا عن الصوفي الشاعر جلال الدين الرومي الفارسي الأصل، وأنه كان مدرسا وفقيها في بادئ أمره، ثم ارتحل عنهم وغاب عدة سنين، ثم عاد لا ينطق إلا بالشعر الفارسي المغلق، وأصبح طلبة العلم مولعين به، ودوَّنوا عنه كل ما أنشده من الأشعار حتى جمعوا عنه "مثنوي" ديوانه الأشهر.

من قونية اتجه ابن بطوطة إلى مدن وسط الأناضول الأخرى مثل "آق سراي" و"لارندة" و"نيدة" و"قيصرية" و"سيواس"، وفي قيصرية كما في إزنيق لاحظ ابن بطوطة دور النساء التركيات، ومشاركتهن في الحكم، وخروجهن إلى الأسواق دون نقاب، وإحسانهن إلى العلماء والفقهاء والأخيَّة الصوفية وغيرهم، وقد أنزلْنه منزلة تليق به، وأهدين إليه الأفراس والفرش والطعام والفواكه، ثم زدنه مالا يعينه على رحلته، وسنرى أيضا منزلة الأخيَّة الكبيرة والنافذة في قيصرية، حيث ناب كبير الأخيَّة عن السلطان عند غيابه، كما يقول ابن بطوطة: "ومن عوائد هذه البلاد أنه ما كان منها ليس به سلطان فالأخيُّ هو الحاكم به، وهو يركب الوارد ويكسوه ويُحسِن إليه على قدره، وترتيبه في أمره ونهيه وركوبه ترتيب الملوك".

ترك ابن بطوطة قيصرية، واتجه صوب سيواس حيث التقى بأميرها "علاء الدين أرتنا" حاكم سيواس وقيصري ومناطق وسط الأناضول، وأكثر الأتراك قوة ونفوذا يومذاك، وكان الرجل مدينا حتى ذلك التاريخ بالطاعة لمغول الدولة الإيلخانية في العراق وإيران قُبَيل سقوطها بأربعة أعوام، ولكنه في الوقت عينه كان عاشقا للثقافة والحضارة الإسلامية العربية التي مثَّلها المماليك حينئذ، ولهذا تعلم العربية، وكان دائم البِشر والترحيب بعلماء الإسلام من الناطقين بالعربية، لا سيما مَن جالوا في بلدان العالم الإسلامي وخَبَروا شؤونه الداخلية مثل ابن بطوطة الذي يقول: "واستقبلنا الأمير إلى دهليز داره فسلَّم علينا ورحَّب، وكان فصيح اللسان بالعربية، وسألني عن (منطقة) العراقين وأصفهان وشيراز وكرمان وعن السلطان أتابك وبلاد الشام ومصر وسلاطين التركمان"، وهي أسئلة ذكية من رجل أدرك أن القوة السياسية للعالم الإسلامي ارتبطت بصراع المماليك والمغول.

ترك ابن بطوطة سيواس كي يزور "أماسية"، ثم اتجه إلى "أرزنجان" و"أرضروم" قبل أن يعلن العودة من أقصى شرق الأناضول إلى أقصى غربه بمدينة "بُرجي" شرقي "إزمير"، ويُعلِّق محقق الرحلة الدكتور "عبد الهادي التازي" قائلا إن بطوطة ربما استعاد في هذا الموضع ذاكرته التي خانته، ونحن نعلم أنه أملى هذه الرحلة بعد سنوات طويلة حين عاد إلى بلده المغرب الأقصى، وكالعادة نزل في زوايا الأخيَّة، واستقبله الفقهاء والأمراء بالتقدير والاحترام، ولقي من الإكرام والإحسان والهدايا العظيمة والأموال ما أفاض بذكره، لا سيما في عاصمة إمارة "أيدِن"، بل أورد ابن بطوطة منزلة الفقهاء العالية بين الأتراك أنفسهم، فتكلم مثلا عن مجلس الأمير ومنزلة الفقيه قائلا: "قعد الفقيه في صدر المجلس وأنا عن يساره، وقعد السلطان عن يمين الفقيه، وذلك لعزة الفقهاء عند الترك".

زار ابن بطوطة مدنا أخرى في غرب الأناضول مثل "إزمير" التي كانت قد خُرِّبت بسبب هجوم صليبي من البيزنطيين والبنادقة تعرَّضت له قبل زيارته بعدة سنوات، ولكن بعد ذلك حُقَّ لنا أن نتساءل عن العثمانيين، ألم يرهم ابن بطوطة أو يسمع عنهم وقد كانوا إمارة قوية تشق طريقها نحو القوة والسيطرة على كل هذه البكويَّات التركمانية المستقلة ثم بقية المنطقة العربية؟

نعم، لقد نزل ابن بطوطة في عاصمة العثمانيين الكبيرة والأولى في ذلك الوقت بورصة، أو كما يسميها "بُرصى" في زمن السلطان "أورخان بن عثمان" السلطان الثاني ابن السلطان المُؤسِّس، ولقبه كما يقول "اختيار الدين"، وقد أثنى ابن بطوطة على السلطان أورخان وعاصمته بورصة، وما فيها من جوامع وزوايا، كما لاحظ أنه أكثر ملوك الأتراك اهتماما بالغزو وحفظا للحدود ومجاهدة للبيزنطيين ودحرا هم مثل والده عثمان، فيقول: "وهذا السلطان أكبر ملوك التركمان، وأكثرهم مالا وبلادا وعسكرا، له من الحصون ما يقارب مئة حصن، وهو في أكثر أوقاته لا يزال يطوف عليها ويقيم بكل حصن منها أياما لإصلاح شؤونه وتفقُّد حاله، ويقال إنه لم يقُم قط شهرا كاملا ببلد، ويقاتل الكفار ويحاصرهم، ووالده هو الذي استفتح مدينة بُرصى من أيدي الروم وقبره بمسجدها، وكان مسجدها كنيسة للنصارى".

يصف ابن بطوطة كيف أصر عثمان على استعادة مدينة "إزنيق" الواقعة على بحر مرمرة من الروم البيزنطيين طوال عشرين عاما، ولكنه تُوفِّي قبل أن يتم هذا الفتح، ثم استطاع ابنه السلطان أورخان في عام 712هـ/1312م أن يحقق حلم أبيه، ومن اللافت أن سلاجقة الروم جعلوا هذه المدينة في السابق العاصمة الأولى لهم بُعَيد فتح الأناضول كاملا، قبل أن يهجم عليهم الصليبيون وينتزعوها منهم يوم تحالفوا مع البيزنطيين، ما ألجأهم إلى اتخاذ قونية عاصمة لهم، وقد انتقل ابن بطوطة فيما بعد إلى مناطق "صقاريا" و"قسطموني"، ثم "صينوب" فزار مدنها وقُراها، واستقبله فقهاؤها وأخيَّتها، ومن صينوب ركب ابن بطوطة سفينة في البحر الأسود متوجها شمالا إلى القِرِم التي استولى عليها مغول القبيلة الذهبية المسلمون، وتلك رحلة أخرى من رحلات ابن بطوطة سنقف معها ومع أهميتها التاريخية والجغرافية والثقافية في وقت لاحق.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!