د. علي محمد الصلابي - خاص ترك برس

كان العلماء والفقهاء مع صلاح الدين، ولاقى التأييد التام من جموعهم، وقد بدأ صلاح الدين فتوحاته بعد حطِّين بفتح عكَّا يوم الجمعة الثاني من جمادى الاخرة سنة583 هـ/1187م، لأنها الطريق الموصل إلى بيت المقدس من ناحية، وحتى يضمن بفتحها قطع الإمدادات التي تصل عن طريقها من أوروبا إلى الصليبيين ببيت المقدس من ناحية أخرى وقد شارك في هذا الفتح العديد من الفقهاء والعلماء، ويأتي في مقدِّمتهم القاضي الفاضل، والفقيه جمال الدين عبد اللطيف بن الشيخ أبي النَّجيب السهروردي، والفقيه ضياء الدين عيسى الهكَّاري، فبعد أن تمَّ لصلاح الدين فتح مدينة عكَّا، قام القاضي الفاضل بتحويل الكنيسة العظمى بها إلى مسجد جامع، وأمر ببناء القبلة والمنبر، ثم أقيمت به صلاة الجمعة، ويذكر ابن الأثير في هذا الصَّدد: أنها أول جمعة أقيمت بالسَّاحل الشامي بعد أن ملكه الفرنج وقد تولى آنذاك الفقيه جمال الدين عبد اللطيف بن الشيخ أبي النجيب السهروردي أمر الخطبة والإمامة، ثم أسند إليه صلاح الدين بعد ذلك مناصب الخطابة والقضاء والحسبة والوقوف في مدينة عكَّا ( دور الفقهاء والعلماء في الشرق الأدنى، آسيا نقلي، ص 144).

وأما الفقيه عيسى الهكَّاري؛ فقد كان ملازماً لصلاح الدين في غزواته وفتوحاته، ولهذا فقد خصَّص له السُّلطان بعد فتح عكَّا كلَّ ما يتعلَّق بجماعة الفرسان الدَّاوية من منازل وضياع ومواضع ورباع، فأخذها بما فيها من غلالٍ ومتاعٍ تكريماً له واعترافاً بمكانته ومشاركته في الجهاد ضدَّ الصليبيين، وتشجيعاً لاستمراره في البذل والعطاء لهذه الفريضة، فكان هذا التصرُّف من صلاح الدين بادرةً لم يسبقه إليها غيره. وكانت هذه المنحة خلاف ما وزَّعه صلاح الدين على المجاهدين من أموال الفيء، والغنيمة التي اغتنمها المسلمون من وراء هذا الفتح.

وقد أجمعت المصادر الإسلامية على اشتراك أعدادٍ كبيرةٍ من الفقهاء والعلماء مع صلاح الدين في فتح بيت المقدس (على حدِّ تعبير مؤرخيها). وقصده العلماء من مصر والشام بحيث لم يتخلَّف معروفٌ عن الحضور، وكان الشيخ أبو عمر بن قُدامة المقدسي، وأخوه الشيخ موفق الدِّين بن قدامة ممن شاركوا في هذا الفتح، وكانا من العلماء الفضلاء ذائعي الصِّيت. قال ابن كثير: وكان هو وأخوه وابن خالهم الحافظ عبد الغني، وأخوه الشيخ العماد لا ينقطعون عن غزاة يخرج فيها الملك صلاح الدين إلى بلاد الفرنج، وقد حضروا معه فتح القدس والسَّواحل، وغيرها. (البداية والنهاية، ابن كثير).  

ولم ينسَ صلاح الدين في غمرة هذه الفرحة بهذا الفتح العظيم وزيره ومستشاره القاضي الفاضل؛ الذي منعه مرضه من حضور فتح بيت المقدس، وكان مقيماً بدمشق، فأرسل إليه صلاح الدين رسالةً يبشِّره فيها بهذا الفتح، ومن خلال كلمات هذه الرسالة يتَّضح مدى ما كان يُكِنُّه صلاح الدين من حبٍّ واحترام وتقدير لهذا القاضي، متمنياً لو أنه كان بحضرته في هذا الوقت؛ حتى تتمَّ فرحتُه بما منَّ الله به عليه من نصر.

وبعد أن منَّ الله على صلاح الدين بفتح بيت المقدس في يوم الجمعة 27 رجب سنة 583 هـ/أكتوبر 1187 م، قام بتفريق الأموال التي أخذت من الصليبيين نظير افتداء أنفسهم وأرواحهم على الأمراء والعلماء والفقهاء الذي حضروا معه هذا الفتح، وبلغت نيفاً وثلاثمئة ألف دينار. ثم جلس بخيمةٍ ظاهر القدس على هيئة التواضع وهيبة الوقار بين الفقهاء وأهل العلم لتلقِّي التَّهاني بهذا الفتح العظيم.

وقد قام الشعراء من العلماء والفقهاء يهنِّئون صلاح الدين بهذا الفتح المجيد بقصائد من الشعر، يعبِّرون من خلالها عن مدى سعادتهم بهذا النَّصر المبين، وكان منهم الشاعر المشهور القاضي ابن سناء الملك. وجدير بالذكر: أنَّ القاضيين الفاضل، ومحي الدين الزِّكي كانا ضمن نخبة العلماء والفقهاء الذين تنبؤوا واستبشروا خيراً بفتح بيت المقدس على أيدي المسلمين، وكانت إرادة الله أن يفتح بيت المقدس في رجب سنة 583 هـ بعد تلك البشارة بأربع سنوات، ولعلَّ تلك البشارات التي بشرت بفتح القدس كانت دافعاً وإلهاماً لصلاح الدين أن يجتهد في فتح بيت المقدس في هذا التوقيت المبارك الذي يوافق ليلة الإسراء والمعراج  (صلاح الدين، الصلابي، ص453).

وقد قدم السَّلطان صلاح الدين القاضي محي الدين بن الزكي بخطبة الجمعة بالمسجد الأقصى تكريماً له وتشريفاً على بيت الشِّعر الذي سبق أن مدح به صلاح الدِّين عند فتحه حلب، والذي بشَّره فيه بفتح القدس في رجب، ولمكانته ومكانة أسرته العلمية، وصرامته في الحق، وفضائله العديدة في الفقه والأدب، فضلاً عن أنه كان يتمتَّع بموهبةٍ فريدةٍ وأسلوب بديعٍ في نظم الخطب، وإثارة حماس المستمعين له.

وهكذا يتضح لنا مما تقدَّم مدى عظم الدور الذي قام به الفقهاء والعلماء عند فتح بيت المقدس؛ حيث انضموا إلى صفوف المجاهدين متطوِّعين بدافع من حميَّتهم الدينية، جاؤوا من كلِّ مكانٍ ، وحملوا السِّلاح وراء صلاح الدين لتحرير القدس الشَّريف، يحدوهم الأمل في النَّصر أو الشهادة، وكلَّل الله جهودهم بالنَّصر وبعودة القدس والمسجد الأقصى إلى المسلمين. ولم يتوقَّف دورهم بعد ذلك، وإنما كان هذا الفتح دافعاً قوياً لهم ورافعاً لروحهم المعنوية، وهذا ما أدركناه في خطبة القاضي ابن الزكي؛ الذي أخذ يحثُّ المسلمين على مواصلة طريق الجهاد؛ حتى يتم تطهير جميع البلاد الإسلامية من دنس الأعداء ، كما أدركنا ذلك أيضاً في الوعظ الذي قام به الفقيه بن نجا.

ومن الأعمال الجليلة الأخرى التي قام بها الفقهاء، والعلماء في بيت المقدس بعد فتحها ما قام به الفقيه ضياء الدين عيسى الهكَّاري من صنع شبابيك من حديدٍ للصَّخرة المقدَّسة لصيانتها من أيِّ عبثٍ بعد أن أزال عنها السُّلطان صلاح الدين ما أقامه الصَّليبيون من منكرات وصور وصلبان حولها (سابق، دور الفقهاء في الجهاد، ص153).


المراجع:

دور الفقهاء والعلماء في الجهاد ضد الصليبيين خلال الحركة الصليبية، د. اسيا سليمان نقلي، مكتبة العبيكان 2002 م.
صلاح الدين الأيوبي، على الصلابي، دار ابن كثير، بيروت، ط1 2009
البداية والنهاية للحافظ عماد الدين أبي الفداء إسماعيل بن كثير القرشي، دار هجر، الطبعة الأولى 1419 هـ 1998 م.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس