ترك برس

نال المسلسل التلفزيوني التركي الشهير "القرن العظيم"، الذي يعرفه العرب باسم "حريم السلطان"، نصيبه الكبير من الانتقادات لتشويهه التاريخ وسرده الأحداث بطريقة مزيفة للحقائق، على رغم صحة هذه الانتقادات في أغلبها، يبقى الاسم الذي يحمله المسلسل معبّرًا بشكل حقيقي عن تلك الفترة الزمنية متمثلة بالقرن السادس عشر للميلاد.

ذلك الزمن المثير الذي جمع في طيات أحداثه أسماء حفرت مكانتها في التاريخ بعمق كبير. إننا نتحدث هنا عن زمن سليمان القانوني، سليم الأول، كارلوس الخامس، ليوناردو دافنشي، بيري ريس، والأخوان بربروسا، كولومبوس، ماجلان، كورتيز ماكيافيللي، وفيليب الثاني. ولو تابعنا سرد الأسماء فلن ننتهي في وقت قريب.

واستعرض الكاتب والباحث حسان جركس، في مقال مطول نُشر عبر موقع "إضاءات"، تحت عنوان "لوحة السفراء: ملاحم المسلمين وأوروبا في القرن العظيم"، "أوضاع القارة الأوربية التي كانت حصونها الشرقية تتهاوى تحت سنابك الخيل العثمانية بقيادة السلطان سليمان القانوني، وملخص الصراع في غرب القارة بين القوى المختلفة، والدور العثماني الكبير في نجدة فرنسا والتعاون معها ضد عدو مشترك.

1. الدولة العثمانية

الدولة العثمانية التي أسسها عثمان بن أرطغرل كان قد مر على تأسيسها ما يزيد عن القرنين من الزمان. تلك الإمارة الصغيرة التي بدأت في الأناضول ثم توسعت نحو البر الأوربي في القرن 14 أصبحت بعد فتح السلطان محمد الفاتح للقسطنطينية قوة أوربية كبيرة. وأصبحت بعد دخول السلطان سليم الأول للبلاد العربية عام 1516، ومن بعده ابنه سليمان القانوني إلى إيالات المغرب في الربع الأول من القرن السادس عشر، قوة عالمية مهيمنة تقاتل برا وبحرا على أكثر من جبهة أوربية وأسيوية، وتبسط سلطانها على أراض في ثلاث قارات.

في هذه النقطة بالتحديد من الزمن كان نسق الأعداء الأول للعثمانيين يتمثل بجمهورية البندقية والدويلات الإيطالية، الصفويون شرقا، والعدو الأهم والأكبر آل هابسبورغ أسياد نصف القارة الأوربية.

2. آل هابسبورغ

كانت غرناطة آخر مدن المسلمين في الأندلس قد سقطت عام 1492 للميلاد، وبسقوط المدينة، انتهى الوجود الإسلامي في شبه الجزيرة الإيبرية، والتحمت مملكتا قشتالة وأراغون تحت حكم واحد بقيادة الملكين الكاثوليكيين فيرناندو وإيزابيلا. نفس الملكين قدما الرعاية الكاملة لكريستوف كولومبوس وموّلا أول حملاته الاستكشافية والتي آتت أكلها باكتشاف العالم الجديد وبدء عهد الإمبراطورية الإسبانية. غدت السفن الأوربية لا تهدأ عبر المحيط الأطلسي ناقلة ذهب الأمريكيتين نحو أوروبا، دافعة عجلة عصر النهضة أكثر فأكثر ومرسخة تمدد القوة الإسبانية وتسيدها لشؤون غرب القارة الأوربية.

بوفاة إيزابيلا انتقل الحكم لابنتها خوانا المجنونة والتي كانت متزوجة من فيليب الوسيم من آل هابسبورغ، وهو ابن الإمبراطور الروماني المقدس ماكسيميليان والذي كان يحكم الأراضي الألمانية والنمسا. بعد فاة فيليب، تصدر للحكم مُنحّيا والدته، كارلوس الخامس، والذي أصبح إمبراطورا رومانيا مقدسا إضافة لكونه ملك إسبانيا، وغدت إسبانيا وممالك جنوب إيطاليا وصقلية وهولندا والعديد من الإمارات والدوقيات في الداخل الأوربي تابعة له. إضافة لحكم أخيه الشقيق فيرديناند بالنمسا والأراضي الألمانية بالتوازي. بهذه الصورة بالضبط غدا آل هابسبورغ أسياد الغرب الأوربي والخصم الأول للعثمانيين، برًا من خلال الحملات المتوالية للسلطان الشاب سليمان القانوني، والذي تولى الخلافة عام 1520 ولم يتوقف عن التقدم في البر الأوربي إلا بعد أن وصل أبواب فيينا عاصمة الهابسبورغ الأوربية الداخلية، وبحرًا عبر الصراع الكبير بين الأساطيل العثمانية بقيادة رياس البحر أمثال بربروسا وقلج علي باشا ودرغوث، والأوربية الإسبانية على وجه الخصوص بقيادة أسماء لامعة كأندريا دوريا.

3. القوى الصاعدة وتحالفاتها

في خضم الصراع الكبير بين القوتين الأعظم، العثمانية-الإسبانية، كانت الدول الصاعدة آنذاك هي فرنسا وإنكلترا. كانت فرنسا هي العدو اللدود لآل هابسبورغ، وتحديدا ملكها فرانسيس الأول، نظير كارلوس الخامس وعدوه الشخصي. كانت الحروب بين فرنسا وإسبانيا مستعرة منذ أيام الملكين الكاثوليكيين بالصراع على المناطق الحدودية الفاصلة. وبعد أن غدت إسبانيا جزءا من إمبراطورية أوربية تحكمها عائلة واحدة من آل هابسبورغ، وجد الفرنسيون أنفسهم محاصرين من الجهتين وتحت ضغط كبير وتهديد وجودي بالانسحاق أمام القوة الكبيرة للهابسبورغ.

أما إنكلترا فقد كانت تحت قيادة ملكها الشهير هنري الثامن، والذي شهد عهده الانقلاب الأهم في تاريخها، وهو انفصالها عن الكنيسة الكاثوليكية واقتراب انتقالها للمذهب البروتستانتي، والذي جعلها في عداء دامٍ مع آل هابسبورغ وإسبانيا الكاثوليكية على وجه الخصوص.

المذهب البروتستانتي، كان أحد القوى الفاعلة في المشهد كله. هذا المذهب الذي أتى به مارتن لوثر، وهو راهب ألماني انشق عن تعاليم الكنيسة الكاثوليكية وقاد حملة كبيرة لإصلاحها وفجر مذهبه صراعات دينية طويلة في أوربا راح ضحيتها الملايين، وذلك بعد أن شن الكاثوليك بقيادة آل هابسبورغ حروبا دموية لسحق هذا المذهب الجديد دون جدوى.

لوحة السفراء

في عمل فني فريد ومتقن، يحمل اسم السفراء، يصور الرسام الألماني هانز هولباين الأصغر رجلين فرنسيين واقفين، في العشرينات من العمر، وهما جان دو دنتيفيه السفير الفرنسي إلى إنكلترا. وإلى يمينه جورج دوسلف وهو دبلوماسي فرنسي اخر.

تحمل اللوحة في طياتها الكثير من العناصر والأدوات، والتي تحمل كل منها دلالة خاصة قدمها هولباين ببراعة. تصور اللوحة سفارة فرنسية إلى ملك إنكلترا هنري الثامن في وقت حرج من تاريخ فرنسا. فقد كانت فرنسا محاطة بال الهابسبورغ من شرقها وجنوبها. هذا الخطر المحدق بفرنسا صوره هولباين باستخدام جمجمة تمثل الموت، مرسومة في أسفل اللوحة بطريقة الإيهام البصري. إذ لا يمكن رؤية الجمجمة بشكل صحيح إلا بالنظر إلى اللوحة من جانبها وليس من الأمام. ومن جهة أخرى صور هولباين الأمل بالنجاة برسم رمز للمسيح في الزاوية اليسرى أعلى اللوحة، وبين من خلال بقية عناصر اللوحة أن مهمة السفراء هي إنقاذ فرنسا من الموت إلى الأمل والنصر عبر استخدام الدين والسياسة حيث يوجد على الرف الأعلى كرة سماوية تمثل الدين، بينما يوجد على الرف الأسفل كرة أرضية تحمل خارطة أوربا وتمثل السياسة الواقعية، تتخللها الكثير من الصعوبات والمطبات ممثلة بكون الكرة مقلوبة من الأعلى للأسفل، وبوجود مجموعة من المزامير ينقص أحد أجزائها، ووجود عود قطع أحد أوتاره، بالإضافة لوجود كتاب رياضي مفتوح على فصل (القسمة).

كل هذه الصعوبات والمخاطر هي ما يتوجب على السفراء دفعه عن فرنسا باستخدام ثلاث أوراق سياسية مهمة تصورها باقي العناصر.

الورقة الأولى هي البروتستانت ومارتن لوثر، ممثلين في اللوحة بنوتة موسيقية لأحد الاناشيد الكنسية التي وضعها لوثر. البروتستانت الذين انتشروا في الأراضي الألمانية كانوا ورقة رابحة لفرنسا في زعزعة عدوها، الإمبراطورية الرومانية المقدسة التابع لال هابسبورغ. وذلك بسبب الحروب التي اندلعت بين الكاثوليك والبروتستانت.

الورقة الثانية هي التحالف مع إنكلترا وملكها هنري الثامن ودعم قراره باانفصال عن زوجته الكاثوليكية كاثرين من أراغون، وهي ابنة الملكين الكاثوليكيين الشهيرين إيزابيلا وفيرديناند بالمناسبة، ووزواجه من آن بولين. هذا الإنفصال والزواج كان يعني ابتعاده عن ال هابسبورغ أعداء فرنسا واصطفافه ضدهم من خلال زوجته الجديدة التي كانت تميل للبروتستانتية ومعاداته لمرجعية البابا الكاثوليكي في روما. رمّز هولباين لكل ذلك من خلال الأرضية التي يقف عليها السفراء وهي أرضية دير ويستمينستر في لندن.

الورقة الثالثة والأهم كانت المسلمين والدولة العثمانية. رمز هولباين هذه الورقة باستخدام السجاد الشرقي الذي يجلل الطاولة التي يستند عليها السفراء.

الدولة العثمانية في وقت رسم اللوحة كانت في ذروة مجدها وتوسعها الأوربي. كان السلطان سليمان القانوني قد مضى على حكمه 11 عاماً استطاع فيها بسط سلطانه على كل البلقان والجزء الأكبر من المجر ولم يتوقف جيشه إلا عند أسوار فيينا التي حاصرها عام 1529 ومنعته الثلوج وحلول الشتاء من افتتاحها. كان من المحرم والمستهجن في الأوساط الأوربية أن يتم التحالف مع مسلم ضد نصراني كما هو الحال بالنسبة لتحالف المسلمين مع النصارى ضد بعضهم. لكن أوربا ومع بدء عصر النهضة بدأت تثبت أفكار ماكيافيللي الذي كان أيضاً أحد وجوه هذا القرن العظيم وحاضراً في نفس وقت رسم اللوحة بكتابه الأمير ومبدأه الشهير ( الغاية تبرر الوسيلة ) الذي نشره قبل عام واحد من رسم هذه اللوحة. حيث لم يجد ملك فرنسا فرنسيس الأول حرجاً في الاستنجاد بالسلطان سليمان القانوني بعد هزيمته أمام عدوه من ال الهابسبورغ، كارلوس الخامس، وذلك في عدة سفارات شهيرة عقدت تحالفاً عثمانياً-فرنسياً تجسد في عمليات حربية مشتركة واسعة ضد العدو المشترك متثملاً بالإسبان والإمبراطورية الرومانية المقدسة. ومن خلال هذا التحالف جرت معارك كبيرة في البحر المتوسط وشمال إفريقيا ووصل المد العثماني وسطوته لحد إخلاء مدينة طولون الفرنسية ومينائها للأسطول العثماني بقيادة خير الدين بربروسا.

بهذا التلخيص الشامل، قدم هولباين مهمة السفراء في الانتقال بفرنسا من أمواج الخطر المتلاطمة إلى بر الأمان. وقدم لنا تحفة فنية تشرح قرناً كاملاً بسطور بسيطة، وتصف موازين القوى واصطفافها في ذلك الزمن المميز.

لوحة السفراء بريشة هانز هولباين الأصغر

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!