ترك برس

يشير العديد من الصحف والكتب الفكرية التاريخية إلى أن اجتماع العلماء المتخصصين في المجالات المختلفة، تحت سقف واحد،  لتبادل الأفكار والآراء، هو أسلوب تقليدي انتهجه العلماء العثمانيون، منذ فتح إسطنبول عام 1453 وحتى تسعينات القرن الماضي، واليوم وإن كان نادرا ً إلا أن الكثير من جمعيات الفكر في تركيا ماتزال ترعى مثل هذه الأنشطة.

ولتوضيح الماضي الفكري لإسطنبول وعلمائها بشكل تفصيلي، يسطر المؤرخ التركي المعروف "سامي إييجا" بقلمه الميمون مقال توضيحي بعنوان "إسطنبول؛ ماضي العلماء والمفكرين"، نُشر عبر صحيفة "درين تاريخ" "التاريخ العميق"، في عددها الثامن والعشرين الصادر في أغسطس 2014، حيث يشرع إييجا في مقاله مشيرا ً إلى أن الماضي الفكري لإسطنبول كان لامعا وعريقا، وكان يشمل جميع علماء الدولة العثمانية من عرب وأتراك وروم وأكرد، حيث كان هؤلاء العلماء يجتمعون على شكل مجموعات في أماكن ومناسبات مختلفة، ويخوضون في تناول الحديث المعمق الشامل للعديد من المواضيع في المجالات المختلفة.

ويبيّن إييجا أن هذا الأسلوب تولد عنه بعد فترة من الزمن افتتاح جمعيات فكرية لمناقشة عدة قضايا أدبية وعلمية، موضحا ً أنه عاصر السنوات الأخيرة للدولة العثمانية وبدايات تأسيس الجمهورية التركية، وهذا ما ممكنه من المشاركة في العديد من الجلسات الفكرية في عهد الدولتين العثمانية والتركية.

ويوضح إييجا أن المفكرين الذين كانوا ينضمون إلى هذه الجلسات كانوا مفكرين وعلماء على شهرة كبيرة، وكانوا ينضمون إلى الجمعيات لتنمية وتطوير أفكارهم من خلال أسلوبي المناقشة والمناظرة مع المفكرين الآخرين، وكان يشارك في هذه الجلسات الكثير من المستمعين، الذين يسجلون ملاحظتهم ويقومون بتوجيه أسئلتهم بشكل مباشر إلى المفكرين.

ووفق ما يورده إييحا في مقاله، أنه لم يكن هنالك دعوات رسمية لاجتماعات، بل كان يحضر المفكرون والعلماء إليها عن طريق التواصل الشخصي فيما بينهم، والمستمعون أيضا ً كانوا ينضمون برفقة المفكرين أو عن طريق الاستعلام عن ذلك من أصدقائهم والمقربين إلى المفكرين، وعلى هذا الشكل كانت تعقد الاجتماعات تلك.

ويُرجع إييجا السبب في اجتماع المفكرين على هذا الشكل إلى انعدام التواصل التكنولوجي آنذاك، حيث أن التقدم التكنولوجي الذي شهدته وسائل الإعلام قضى بشكل تام على هذا الماضي الجميل، إذ أضحى المفكرون يجتمعون على شاشات التلفاز ويتبادلون الآراء والأفكار من خلالها، وهذا ما شغل وقتهم وقضى على عادة اجتماعهم في الجمعيات الفكرية.

وحسب إييجا، فإن الاجتماعات الفكرية لماضي إسطنبول التليد ظلت مستمرة حتى مطلع تسعينات القرن الماضي، حيث ظهر تطور ملحوظ في تنوع وسائل الإعلام التركية التي تحول الكثير منها إلى وسائل إعلام خاصة، وبذلك أُُفسح المجال بشكل أكبر للمفكرين والعلماء للخروج عبر وسائل الإعلام ومناقشة القضايا المختلفة.

ويؤكّد إييجا أن وسائل الإعلام قضت نوعا  ما على نمط الاجتماعات الفكرية، ولكن لا يمكن التغاضي عن فضلها الكبير في إيصال الأفكار والمعلومات إلى كتلة بشرية ضخمة كانت محرومة من هذه الأفكار في السابق، مبينا  أنه في السابق كانت تقتصر الاجتماعات على منطقة إسطنبول وكانت تشمل كتلة بشرية صغيرة، ولكن اليوم غدت تشمل تركيا بأكملها، بل وحتى العالم باسره.

ويشير إييجا إلى أن  الدولة العثمانية كانت تخصص راتبا لكل مفكر وعالم، وكانت تقدم ميزانية معينة لجمعيات الفكر، على الرغم من الضائقة المالية التي كانت تعاني منها في سنواتها الأخيرة، ولم يبتخل في دعمها لهذه الجمعيات إطلاقا، وذلك على نقيض ما تشيعه الدول الغربية من أن الدولة العثمانية لم تهتم بالعلماء والمفكرين.

ويشدد إييجا على ضرورة اهتمام الدول جميعها، حول العالم التي تطمح إلى التتقدم، بثروتها البشرية التي تتألف من المفكرين والعلماء والمثقفين والتقنيين والحرفيين وغيرهم، موضحا ً أن اليابان وألمانيا وغيرهما من الدول التي تم القضاء عليها عن بكرة أبيها خلال الحرب العالمية الأولى، عادت إلى الحياة ومن ثم احتلت المراتب الأولى في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية من خلال الاهتمام بالإنسان وعقله وفكره، لأنها علمت أن الإنسان هو السلاح الأقوى أمام الأسلحة جميعها.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!