عدنان عبد الرزاق - العربي الجديد

أعلن رئيس الوزراء التركي، في 31 مارس/ آذار الماضي، أن بلاده سجلت أعلى نسبة نمو بالعالم، ليبدأ منذ ذاك، تخطي الليرة التركية ولأول مرة بتاريخها، حاجز أربع ليرات للدولار، ما وضع جميع المؤشرات الاقتصادية تحت المجهر، إن لم نقل بموقع التشكيك، وفتح سلسلة من الأسئلة، حول الأسباب والتأثير والمستقبل، على مكتسبات الشعب التركي ورفاهيته وعلى استمرار المشروعات العملاقة وجذب الاستثمارات بواقع التضخم، وأيضاً على حسن سير الخطط لاستقبال مئوية تأسيس الدولة والايفاء بالوعود والأحلام المقطوعة.

واقع الحال، لم تجد التصريحات ولا حتى الوعود، مع تراجع سعر صرف الليرة التركية أمام العملات الرئيسية، أي نفع، بل تعدت حاجز أربع ليرات للدولار، منذ نحو شهر، وهو السعر الذي حذر منه كثيرون، لئلا تبدأ العملة التركية بسلسلة التهاوي، بعد المراهنات والوعود بعدم تخطيها ذلك "الخط الأحمر" والذي لم تبلغه، حتى بأصعب ليالي تركيا بالعصر الحديث ربما، وهي ليلة الانقلاب الفاشل في 15 تموز 2016 وقت هوت ولأدنى سعر حينذاك، وبلغت 3.01 بتراجع لم يزد عن 4.78%.

في حين أن اليوم، ورغم تصدير الاقتصاد التركي، لأزهى أرقام ونسب، لم يبلغها من ذي قبل، إن لحجم وقيمة الصادرات التي اقتربت من 160 مليار دولار، أو لنسبة النمو الأعلى بالعالم 7.2% أو حتى لأرقام السياح الذين اقتربوا من 40 مليونا وحجم احتياطي نقدي، عملات وذهب، تعدت 120 مليار دولار.

ما يثير غير سؤال، عن أسباب تراجع سعر صرف الليرة، أمام هذه المؤشرات الشهية التي، من المفترض اقتصادياً، أن تعيد الليرة، على الأقل لعام 2012، وقت لم يزد سعر صرف الدولار عن 1.75 ليرة.

والأهم أن نسأل، ما هي الإجراءات النقدية التي اتخذتها تركيا بصمت، للحيلولة دون مزيد من التضخم، لطالما أضرت تصريحات الساسة بسعر الصرف، وخلقت ربما مزيداً من التوجس لدى المكتنزين وكشفت لكل من يهمه الأمر، عن خلاف بين السلطة النقدية والساسة حول ضغط الساسة لتخفيض سعر الفائدة وحرص المصرف المركزي على تثبيتها أو حتى رفعها.

ربما من بديهيات الاقتصاد، أن يتم استخدام سعر الفائدة، كأداة نقدية، إلى جانب أدوات اقتصادية أخرى، للدفاع عن سعر العملة الوطنية، فيتم رفع سعر الفائدة كإجراء تقليدي، خلال تراجع سعر الصرف وارتفاع نسبة التضخم، والهدف كما هو معروف ومتداول، أن تغري نسب الفائدة أصحاب الرساميل ليودعوها بالمصارف، فيقل معروض النقد بالسوق فيتحسن السعر، أي باختصار اللعب على مبدأ العرض والطلب، وهذه وجهة نظر المصرف المركزي بتركيا.

في حين، وهذا أيضاً من بديهيات الاقتصاد، أي سعر للفائدة يزيد عن عائد المشروعات الاقتصادية، إنتاجية كانت أو خدمية، سيدفع المستثمرين ليضعوا أموالهم بخزائن المصارف ولن يضخوها بمشروعات اقتصادية، ما يعيق النمو ويرفع نسبة البطالة ويزيد من تراجع سعر الصرف وبالتالي زيادة أعباء الديون التركية التي تنوف عن 266 مليار دولار، لأنها مقومة بالعملات الأجنبية.

مع الأخذ بالاعتبار، أن نسبة الفائدة بتركيا اليوم، ورغم ارتفاعها، هي دون نسبة التضخم، ما يعني أن سعر الفائدة غير مشجع لأصحاب الرساميل، وخاصة بواقع فتح تركيا أبواباً ومجالات استثمارية، مصحوبة بإغراءات وإعفاءات، لتشجع رؤوس الأموال بالاستثمار، لتساهم مع استثمارات الدولة، برسم ملامح الحلم الاقتصادي خلال مئوية تأسيس الدولة عام 2023.

وهذا من ضمن أسباب تشبث الرئيس التركي وباقي المسؤولين، بضرورة تخفيض سعر الفائدة، لتخرج الرساميل من المصارف باتجاه الاستثمار، بدل أن تزيد الإيداعات، فضلاً على نظرة بعض الساسة الأتراك لـ"مقاصد المال الخمسة" واعتبار الفائدة ربا، وسعيهم لتوسيع الاقتصاد الإسلامي وأساليب المرابحة والمشاركة والتكافلية.

كما من الأسباب التي يراها الساسة الأتراك بضرورة تخفيض سعر الفائدة، الهروب من حالة الانكماش التي قد تصيب الاقتصاد التركي، بواقع ارتفاع الأسعار ونسبة التضخم، ما سينعكس على مستوى المعيشة والنمو الاقتصادي وبالتالي على حلم الدولة الاقتصادي، التي تحضر خلال انتخابات العام المقبل، البرلمانية والرئاسية، لوضع آخر اللمسات على مفاجآت 2023.

نهاية القول: إن كان من تباين وخلاف حول طرائق معالجة تراجع سعر صرف العملة التركية، وبعض توافق على أن الأسباب نفسية وأمنية وسياسية، بواقع انتفاء الأسباب الاقتصادية، فالأرجح أن ثمة اتفاقا على أن التضخم يمكن أن يأتي على معظم الإنجازات التي حققها الاقتصاد التركي منذ وصول حزب العدالة والتنمية للسلطة عام 2002، وبمقدمتها على صعيد معيشة المواطن التي بدأت تتأثر بفعل التضخم وارتفاع الأسعار.

كما أن تراجع سعر الصرف الذي لا يدلل على قوة أي اقتصاد، أيضاً لا يمكن الاستفادة منه بزيادة الصادرات وجذب السياح واعتباره نقطة إيجابية مطلقة، كما يسوّق بعض المسؤولين الأتراك، بديل زيادة عجز الميزان التجاري بتركيا.

إذا، السؤال المعلق اليوم، والذي يؤرق صناع القرار التركي تمكن قسمته لشقين.

الأول اقتصادي داخلي يتعلق بكيف يمكن تحسين سعر الصرف دون استفحال الصراع الداخلي بين السلطة السياسية والسلطة التنفيذية بعد عدم خلق الثقة والطمأنة، رغم التصريحات وعرض المؤشرات الاقتصادية، بل وتبديل بعض المسؤولين ممتلكاتهم من العملات العالمية لليرة التركية، وهل ما تسرّب عن وزير الاقتصاد، نهاد زيبكجي ومستشار الرئيس التركي جميل أرتيم، من أن ثمة توافقا مع المصرف المركزي و"سيفعل اللازم قريباً" سيوحد الرأي بمعالجة الليرة، أم سيأتي ضمن باب الفرض على المصرف المركزي والذي من المفترض أنه مستقل.

والشق الثاني، كيف يمكن لتركيا أن لا تكف ولا تقطع، اليد الأوروبية والأميركية، والتي لها الدور النفسي والسياسي الأهم، بتراجع سعر صرف الليرة، ابتداء من المناكفات ومن ثم اتهام مصارف وساسة أتراك بكسر الحصار الذي كان مفروضا على إيران، وصولاً لزج تركيا بصراعات المنطقة، عقوبة لها على التقارب مع روسيا وإيران.

عبر الإجابة عن هذين السؤالين، يمكن تحديد ملامح نجاح أو إعاقة الحلم التركي المنتظر، فإما أن تدخل تركيا ضمن العشرة الكبار وتستمر كنمر اقتصادي وغير اقتصادي، يحتذى من دول المنطقة، أو ربما تكون الليرة، أداة إعاقة، يستخدمها خصوم تركيا، بالداخل والخارج، ليس خلال المئوية، بل ربما عبر عام الانتخابات المقبل.

عن الكاتب

عدنان عبد الرزاق

صحافي وكاتب سوري مقيم بإسطنبول منذ 2012


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس