سعيد الحاج - عربي 21

بعد أيام طويلة من الانتظار وطرح جميع الاحتمالات على الطاولة، أعلن الرئيس التركي السابق عبد الله غل، يوم السبت الماضي، أن فكرة ترشحه للانتخابات الرئاسية لم تعد مطروحة. وبقدر ما حسم هذا القرار نتيجة الانتخابات لصالح الرئيس الحالي أردوغان إلى حد بعيد (في ظل ضعف المرشحين المحتملين الآخرين)، بقدر ما أثار عدة أسئلة حول حقيقة موقف غل وأسباب رغبته السابقة في الترشح.

قال الرجل إن فكرة الترشح للانتخابات الرئاسية لم تأت منه بل من حزب السعادة، بطريقة لا دخل له هو شخصياً فيها، لكنه قال أيضاً إنه عدل عنها فقط لأنه "لم يحصل الإجماع الكافي خلفها". كما أنه لم يفعل مثل رئيس الوزراء السابق أحمد داودأوغلو الذي أعلن تأييده لأردوغان. فما القصة؟

ليس سراً أن هناك فارقاً واضحاً في الشخصية وأسلوب التعامل مع الأمور بين رفيقي الدرب ومؤسسي العدالة والتنمية، أردوغان وغل، حيث يفضّل الأول المواجهة والخطاب الحاد في الأزمات، بينما يُعرف الآخر بالهدوء أكثر. وقد اختلف الاثنان في الرأي والموقف حتى خلال سنوات تعاونهما كرئيسي وزراء وجمهورية على التوالي، مثلما حدث أيام أحداث "جزي بارك" في 2013 مثلاً.

وبعد خروجه من القصر الرئاسي في 2014، لم يعد غل إلى صفوف العدالة والتنمية، رغم أن اسمه كان مطروحاً في قائمة المرشحين لخلافة أردوغان في رئاسته، حيث عقد مؤتمر الحزب قبل يوم واحد فقط من انتهاء فترته الرئاسية، الأمر الذي اعتبره الكثيرون إغلاقاً لباب عودته لرئاسة الحزب بشكل قانوني إجرائي.

وعلى مدى السنوات الأربع الماضية، أبقى غل نفسه خارج حلبة السياسة وأحزابها، وبعيداً عن تجاذباتها، حتى أنه لم يشارك في مؤتمرات حزب العدالة والتنمية (الذي كان من كبار مؤسسيه) التي دعي إليها. في مرات قليلة، عبَّر الرجل عن رأيه في بعض القوانين أو السياسات التي رآها خاطئة، مثل مرسوم تبرئة المدنيين الذين شاركوا في دحض المحاولة الانقلابية، وقد جرَّت عليه هذه المواقف غضباً كثيراً من أردوغان وفي أوساط الحزب.

تقييم غل للأوضاع في تركيا، وفق ما جاء في حديثه الأخير، يشير إلى أزمات تعاني منها البلاد داخلياً وخارجياً، وحالة استقطاب وحدّة خطاب، وقد يكون هذا هو باب تفكيره في الترشح للانتخابات الرئاسية حين عُرض الأمر عليه، بمعنى أنه يرى نفسه "حلاً" لهذه المشاكل والأزمات. فلماذا تراجع عن ذلك؟

يُعرف عن غل أمران بشكل واضح، الأول ذكاؤه السياسي وخبرته، وبالتالي فهو يدرك بالتأكيد حظوظ أردوغان في الفوز بالانتخابات ومدى صعوبة منافسته، والثاني بُعده عن المخاطر والمجازفات في حياته السياسية، خصوصاً بعد تركه منصب الرئاسة. صبَّ الأمران في اتجاه واحد: أن يقبل الرجل الترشح في مواجهة أردوغان فقط إن تشكلت جبهة واسعة خلفه، وكمرشح وحيد للمعارضة إن أمكن.

أدرك طيف من المعارضة أن منافسة جدية لأردوغان ينبغي أن تمر عبر مرشح توافقي، وقد وقع الاختيار على غل لامتيازه بصفتين، الأولى أنه مرشح "قوي"، أي صاحب تاريخ سياسي وبصمة وإنجازات. فقد شغل مناصب رئيس جمهورية ورئيس وزراء ووزير خارجية، وكان قبل ذلك مرشح التيار الإصلاحي في حزب الفضيلة قبل الانشقاق عنه.. والثانية أنه "محافظ" ومن مؤسسي العدالة والتنمية، وبالتالي قادر على كسب جزء من الكتلة التصويتية لأردوغان والحزب.

تتقاسم الساحةَ السياسية التركية حالياً أربعةُ تيارات رئيسة: الإسلامي/ المحافظ، والقومي التركي، والعلماني/ اليساري، والقومي الكردي. وقد قادت محاولات توحيد المعارضة أحزاب الشعب الجمهوري (الكمالي) والسعادة (الإسلامي) والجيد (القومي)، علماً أن الأول أكبر أحزاب المعارضة ونسبة شعبيته في حدود 25 في المئة، بينما الثاني لا يتجاوز 1 في المئة، والأخير ما زال حديث التأسيس وتتفاوت توقعات استطلاعات الرأي لشعبيته. (أقل من 10 في المئة في معظمها).

يدرك غل أن الحاضنة الشعبية لحزب الشعب الجمهوري لن تصوت له في غالبيتها حتى ولو اتخذت قيادتها قراراً بذلك، فهو بالنسبة لها صورة أخرى عن أردوغان، وهو ما صرح به أكثر من قيادي في الحزب، كما أن جمهور حزب السعادة أقل من أن يحمله إلى قصر الرئاسة. وبالتالي، فقد كان الرهان الرئيس على أصوات القوميين الغاضبين من قيادة دولت بهشتلي (معظمهم انضم للحزب الجيد) وأنصار العدالة والتنمية المتحفظين في الفترة الأخيرة.

الضربة الأولى التي تلقاها الرئيس التركي السابق كان إصرار ميرال أكشنار، رئيسة الحزب الجيد، على ترشيح نفسها، وبالتالي ستنقسم أصوات القوميين بينها وبين أردوغان الذي يتحالف معه حزبا الحركة القومية والاتحاد الكبير القوميان.

وأما الضربة الثانية، فقد تلقاها الرجل من القيادات السابقة في العدالة والتنمية التي تصنّف على أنها من المتحفظين على النظام الرئاسي (كمبدأ)، أو نص التعديل الدستوري الذي أقره (المواد الـ18)، أو سياسات أردوغان بشكل عام، والذين غابوا أو غيّبوا على مدى السنوات الأخيرة من دوائر صنع القرار.

التقى غل برئيس الوزراء السابق أحمد داود أوغلو، وقيل إن اللقاء حضره أيضاً وزير الاقتصاد الأسبق علي باباجان (الذي يلقب بصانع نهضة تركيا الاقتصادية) ووزير الداخلية الأسبق بشير أطالاي ووزير العدل الأسبق سعد الله أرجين. وفي حين لم تعرف آراء الآخرين، أعلن داود أوغلو موقفه بشكل واضح إلى جانب أردوغان في الانتخابات الرئاسية، رغم أنه لم يُخفِ تحفظه أو قلقه من بعض مواد التعديل الدستوري الخاصة بالنظام الرئاسي.

أحد الأسماء المهمة أيضاً كان بولند أرينتش، رئيس البرلمان ونائب رئيس الحكومة  الأسبق، الذي التقى أردوغان قبل أيام، وأعلن أنه "عضو صالح في الحزب" وأنه "لن ينضم لأي عمل يضر بحزبه". وهكذا، يمكن القول إن غل فقد تأييد تلك الكتلة المفترضة داخل العدالة والتنمية بعد موقفي أقوى شخصيتين فيها، داود أوغلو وأرينتش. وبالتالي، لم يعد ممكناً الحديث عن تأييد واسع للرجل يمكن أن يشجعه على المضي في فكرة الترشح في مواجهة المرشح القوي، صاحب التاريخ والكاريزما والإنجازات، أردوغان.

أخيراً، رغم تراجع غل عن الترشح وموقف كل من داود أوغلو وأرينتش، إلا أن المشهد كان لافتاً ويحمل دلالات مهمة، حين تكون شخصيات مؤسِّسة في العدالة والتنمية وصاحبة إنجازات وتاريخ ومساهمات واضحة في تجربة الحزب مستعدة ولو مبدئياً للترشح ضد أردوغان أو البحث عن بديل له، وهو أمر ينبغي متابعة ارتداداته المحتملة خلال السنوات القادمة.

عن الكاتب

سعيد الحاج

باحث في الشأن التركي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس