د. سعيد الحاج - TRT العربية

ام 1964، ولمنع تنفيذ خطة للحكومة التركية بالتدخل في قبرص لحماية القبارصة الأتراك، أرسل الرئيس الأمريكي في حينها ليندون جونسون خطاباً (رسالة) حاداً إلى رئيس الوزراء التركي في ذلك الوقت عصمت إينونو، حذره فيه من هذا التدخل مهدداً بترك تركيا وحيدة – دون دعم حلف الناتو – إذا ما هاجمها الاتحاد السوفياتي. ورداً على تدخل القوات التركية في الجزيرة عام 1974 من خلال “عملية السلام في قبرص”، فرضت الولايات المتحدة حظراً على بيع وتصدير السلاح لها استمر حتى عام 1978.

حصل كل ذلك خلال فترة الحرب الباردة التي كانت العلاقات بين أنقرة وواشنطن تسير فيها على ما يرام وكانت السياسة الخارجية التركية منضبطة تماماً بسقف حلف شمال الأطلسي. ما يجعل العقوبات الأمريكية الحالية ضد تركيا أكثر منطقية، في ظل الملفات الخلافية الكثيرة بين الطرفين، والاستقلالية التي تسعى لها تركيا في سياستها الخارجية عن واشنطن، والطريقة التي يدير بها ترمب وفريقه سياسة بلادهم الخارجية.

قبل ساعات من كتابة هذه السطور، أعلن البيت الأبيض عن فرض عقوبات على وزيري العدل والداخلية التركيين، عبد الحميد غل وسليمان صويلو، بسبب عدم إطلاق أنقرة سراح القس الأمريكي أندرو برونسون. حيث كانت السلطات التركية قد أوقفته عام 2016 بتهمة التواصل والتعاون مع الكيان الموازي المتهم بالوقوف خلف المحاولة الانقلابية الفاشلة وتقول إن بحوزتها أدلة دامغة كثيرة على ذلك.

اللافت في الأمر أن التصعيد الأمريكي أتى مؤخراً فقط بعد سنتين من احتجازه، وفي سياق تحسن في العلاقات بين أنقرة وواشنطن تمثل في توافقات حول منبج في سوريا وتسليم أولى طائرات F35 لتركيا وتعيين سفير أمريكي جديد في أنقرة. بل إن العقوبات الأمريكية أتت بعد تطور إيجابي – نسبياً – في ملف القس نفسه، حيث كانت السلطات القضائية التركية قد أخرجته من السجن للحبس المنزلي قبل أيام.

يعني ذلك أن قضية القس ليست سوى ذريعة للتصعيد وليست سببه الحقيقي المباشر. الأسباب الحقيقية تبدو أقرب للملفات الخلافية السابقية بين الشريكين الاستراتيجيين، خصوصاً تقارب أنقرة مع موسكو (بما في ذلك شراء منظومة S400) ومعارضتها العقوبات الأمريكية على إيران، فضلاً عن الخلافات في عدد من الملفات الإقليمية في مقدمتها سوريا والقضية الفلسطينية، حيث كانت أنقرة قد قادت الحراك الدولي في مواجهة قرار ترمب نقل السفارة الأمريكية إلى القدس. بكلمات أخرى، تبدو واشنطن غير راضية عن السياسة الخارجية التركية مؤخراً وخصوصاً نزوعها نحو الاستقلالية والندية، وما زالت تحاول التعامل معها وفق منطق الحرب الباردة وتسعينات القرن المنصرم، متجاهلة التغيرات الكبيرة التي حصلت في تركيا في السنوات الـ 16 الأخيرة.

في الأصل، فإن العقوبات التي ستطال الوزيرين ستكون رمزية ومعنوية أكثر منها مادية، فالوزيران لا يملكان غالباً أرصدة في المصارف الأمريكية ومنعهما من دخول الولايات المتحدة ليس شيئاً كارثياً، وبالتالي فـ”فكرة” العقوبات نفسها هي المطلوبة أمريكياً فيما يبدو أكثر من “أثرها”.

ولكن، ومن جهة أخرى، قد تكون هذه العقوبات مجرد بداية لسلسلة قرارات لاحقة تطال شخصيات أو مؤسسات أخرى فضلاً عن شمولها جوانب اقتصادية وعسكرية مثل منع حصول تركيا على قروض من المؤسسات المالية الدولية ورفض بيع السلاح لها أو تسليمها طائرات F35. خصوصاً وأن الكثيرين يذهبون إلى أن أحد أهم أسباب هذا التصعيد هو حرص ترمب ونائبه مايك بنس على أصوات الإنجيليين في انتخابات الكونغرس النصفية في تشرين الثاني/نوفمبر المقبل، ما قد يغري ترمب بخطوات تصعيدية إضافية، وهو ما يبدو أنه دفع اردوغان للتحذير من “العقلية الإنجيلية الصهيونية” المسيطرة في الولايات المتحدة.

قد لا يكون مفاجئاً أيضاً تراجع ترمب عن مسار التصعيد بشكل غير مفهوم، إذ عودنا مؤخراً على قرارات مضطربة وغير متناسقة، وعلى التصعيد الشديد قبل فتح مسارٍ ما للتفاوض كما فعل مع كوريا الشمالية وإيران مؤخراً، لكن ذلك يبدو احتمالاً ضعيفاً في ظل الظروف الحالية وما سبق شرحه من عوامل على الأقل على المدى القريب.

إذن، هل سترد أنقرة؟ وكيف؟

تحتاج تركيا للرد أو لعدم الخضوع بالحد الأدنى، ومن يدرك السياسة التركية الحالية يعرف ذلك جيداً، وليس مستبعداً أن تكون القرارات الأمريكية الأخيرة تتقصد في توقيتها وأسلوبها استفزاز موقف تركي تصعيدي مقابل. التصريحات التركية الأولية أتت على لسان وزير الخارجية تشاووش أوغلو الذي قال بأن “العقوبات الأمريكية لن تبقى دون رد تركي مماثل”. فما هي هذه الردود المتوقعة؟

أولاً، لا شك أن التصريحات التركية ستشهد تصعيداً واشتباكاً سياسياً مع واشنطن، سيتضح سقفه خلال ساعات.

ثانياً، قد تعمد تركيا لفرض عقوبات مماثلة على الولايات المتحدة، خصوصاً وأن الأخيرة تماطل منذ سنوات في التعاون معها في ملف فتح الله كولن.

ثالثاً، الأرجح أن تمتنع تركيا حالياً عن أي خطوات إيجابية في ملف القس برونسون وبعض الملفات الأخرى، حتى لا تظهر وكأنها استسلمت أو خضعت للضغوط والتهديدات الأمريكية.

رابعاً، قد ينتج عن الأزمة الحالية بين أنقرة وواشنطن، خصوصاً إذا ما أضيف لها فصول لاحقة واستمرت في التفاقم، مزيد من تقارب الأولى مع موسكو وربما طهران، كعامل توازن وضمانة في مواجهة التهديدات الأمريكية.

لكن، ورغم كل ما سبق، تظل تركيا حريصة على عدم وصول العلاقات مع الولايات المتحدة لقطيعة كاملة أو أزمة  مستفحلة، ليس فقط بسبب التباين الكبير في موازين القوى ولا فقط خوفاً من تداعيات ذلك السلبية على الاقتصاد تحديداً، ولكن أيضاً لأن تركيا تدرك أنها لا تستطيع الوثوق تماماً بروسيا وأن تقاربها معها كثيراً واضطراراً وعلى خلفية الأزمة مع الولايات المتحدة سيتيح لها – أي لروسيا – استثمار الموقف وفرض رؤيتها في سوريا أو في مجال العلاقات الثنائية ما قد يضعف الموقف التركي أمامها، وهو ما لا تريده أنقرة بالتأكيد.

ما الذي تريده أنقرة إذن؟ ستتضح الأمور أكثر خلال الساعات والأيام القادمة، لكن الأرجح أن تسعى تركيا – بعد ردة الفعل الأولية – إلى تهدئة متبادلة ثم حوار مع واشنطن ينبني عليهما تسوية جزئية أو شاملة لعدد من الملفات الخلافية من بينها ملف القس بطبيعة الحال. فتركيا ليست بوارد مواجهة مفتوحة مع الولايات المتحدة ولا تريد خسارتها، كما أن الأخيرة تدرك أن مزيداً من الضغوط والتهديدات لن تدفع أنقرة إلا إلى مزيد من العناد والتقارب مع موسكو، وهو الأمر الذي لا تريده تركيا ولا الولايات المتحدة. وعليه، فيمكن توقع تهدئة بشكل او بآخر بين الطرفين مع الوقت – إلا إن قرر ترمب تجاوز كل الخطوط – تعيد العلاقات إلى سابق عهدها وحالتها الوسطية بين الشراكة والخصومة وتتابع حالات المد والجزر فيها.

عن الكاتب

سعيد الحاج

باحث في الشأن التركي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس