وسيم بكراكي - خاص ترك برس

مع النمو المتسارع الذي يشهده عالمنا اليوم، سواءً في المجال السياحي أو الاقتصادي والتكنولوجي، ومع تغير الحياة لتصبح محورية بشكل كبير جعل من هذا العالم الكبير قرية صغيرة واحدة، بدأت الدول تتسابق فيما بينها لتطوير نفسها بشكل يتناسب مع هذه التطورات المتسارعة والمتلاحقة. فمن تمكن من ركوب هذه الموجة المتسارعة أصبح مركزاً محورياً يتسابق العالم للنيل من مكتسباته والانتفاع من خدماته وتقنياته. ومن جهة أخرى، أصبح أبناء الدول الباقية مجرد أفراد يمثلون سوق الشراء والتلقي لخدمات ومنتجات هذه الدول. وهو ما أدى إلى ظهور العديد من القطاعات الجديدة كان من أبرزها قطاع السياحة الطبية العالمية.

وكتعريف عام للسياحة الطبية يمكن القول بأنها الرحلات التي يقوم بها المرضى بهدف تشخيص المرض والعلاج.  ولكن اختصار هذا القطاع بهذه الجملة الصغيرة هو فعلاً إجحاف بحق مستحق ومعطي العلاج على حد سواء. حيث أن المريض الذي لا يتمكن من الحصول على العلاج المناسب في بلده، أو الذي لا تسعفه قدرته المادية على تحمل نفقات العلاج المرتفعة جداً في بلده، أو الذي لا يتمكن من الحصول على العلاج المناسب بسبب افتقار بلده للتكنولوجيا الحديثة والعلوم المتطورة والخبرات الكافية، أو ربما من هو بحاجة إلى انتظار مدة طويلة للحصول على هذا العلاج في بلده، كل هذه الأسباب مجتمعة أو كل منها على حدة دفعت الكثير من الناس للتحول نحو فكرة السياحة الطبية في بلاد أخرى تؤمن لهم ما افتقدوه في بلادهم الأم. وهناك طبعاً من يسعى لهذه السياحة الطبية لأهداف أكثر رفاهية وأكثر تميزاً وجودة من تلك التي لا يمكنه أن يجدها في بلاده.

وبالنظر إلى قطاع السياحة الطبية في تركيا، فإن هذا البلد تمكن في السنوات الأخيرة وربما منذ بداية العام 1990م، من السير في خطوات متسارعة نحو العالمية في المجال الطبي بشكل جعل من تركيا بلداً ينافس في خدماته الطبية والسياحية ما تقدمه أهم الدول الأوروبية والغربية. ففي بداية العام 1990م، بدأ القطاع الخاص بحملة استثمارات ضخمة في القطاع السياحي الخاص، وأنشئت المستشفيات الخاصة واحدة تلو الأخرى تتنافس فيما بينها بالجودة والخدمات والتقنيات المتطورة بشكل وصلت فيه إلى مرحلة تخطت فيها السباق الداخلي إلى غيره من السباقات العالمية في هذا السياق. وكان لضخ الاستثمارات الكبيرة شأن كبير في ظهور مستشفيات متميزة في مختلف النواحي، بدءاً من طاقمها الأخصائي المتميز، وصولاً إلى أجهزتها ذات المواصفات الأوروبية والعالمية الحديثة، إلى أبنيتها وغرفها التي تنافس في راحتها أفضل الفنادق وأكثرها نجومية.

لقد تطورت المستشفيات الخاصة في المدن الكبرى في تركيا إلى حد وصل فيه صافي أرباحها حتى نهايات العام 2013م إلى 3 مليار دولار. وهو ما حمل مستثمري هذا القطاع إلى التوجه نحو سوق جديدة تمثلت بالانفتاح على العالم المحوري لتنتقل بخدماتها الطبية إلى المرضى من مختلف أنحاء العالم. وقد ساعد الموقع الجغرافي المتميز لتركيا بشكل يتوسط القارات الكبرى الثلاث: آسيا وأوروبا وأفريقيا في جذب الانتباه إلى هذا البلد بشكل متواز في الواقع مع ما شهدته تركيا من تغييرات سياسية جذرية سهلت عبور معظم جنسيات العالم إلى تركيا دون الحصول على تأشيرة الفيزا أو غيرها من المعوقات الأخرى.

وإضافة لكل ما تقدم من استثمارات مالية وتكنولوجية، تمكنت تركيا من أن تصبح الدولة المحورية التي يتحدث العالم بأسره عن نجاحاتها وتميزها العلمي. ولربما خير دليل على ذلك هو عمليات زرع الأعضاء التي أصبحت تركيا فيه من الدول التي تقوم بتصدير هذه التقنيات والخبرات إلى مختلف أنحاء العالم. فلقد كانت تركيا هي الدولة التي تمكنت في العام 1969م من تحقيق أول عملية زرع للأعضاء بشكل ناجح. وهو ما أسس فيها لبنى تحتية أدت إلى تطور هذه الجراحة بشكل كبير وملحوظ.

بل إن تركيا قد أصبحت دولة يشار إليها عالمياً كمركز مرجع في عمليات نقل الكلى والكبد. كما أصبحت مركزاً يجتذب إليه المرضى ممن ينتظرون عملية نقل للأعضاء من كل من دول البلقان والجمهوريات التركية بشكل خاص، وأمريكا وأوروبا والشرق الأوسط بشكل عام. كما أن تركيا لم تكتب هذا الصيت الكبير في هذا القطاع لمجرد نجاحاتها فيه فحسب، بل لقد أصبحت مركزاً عالمياً يقصده الأطباء من مختلف أنحاء العالم، وبخاصة من أوروبا وأميركا لتعلم هذه الجراحات وتقنياتها عن كثب.

وهكذا، ومع التقاء الاستثمارات الطبية الضخمة بالطاقم الطبي المتميز والموقع الجغرافي المتميز بالرؤية السياسية المنفتحة، تميز سوق السياحة الطبية في تركيا متفرعاً إلى فروع رئيسية ثلاثة وهي: السياحة الطبية العامة، سياحة المسنين والمعوقين، وسياحة المياه المعدنية أو ما يسمى  SPA & Wellness.

إن تركيا، هي الدولة السياحية بامتياز في يومنا الحاضر. فخلال الربع الأخير من عام 2013 تجاوزت أعداد الأجانب القادمين إلى تركيا لأسباب طبية الـ 58 ألف شخص وهو ما شكل زيادة تقارب الضعف مقارنة مع 33 ألف خلال الربع الثالث من العام الماضي.  وتواصل هذا الارتفاع خلال الربع الأول من العام 2014 لتبلغ أعداد الوافدين بهدف السياحة الطبية 72 ألفا ولتتجاوز الـ 90 ألف في الربع الثاني أي ما يشكل نحو ألف مريض يوميًا. كما بلغ إجمالي إنفاق القادمين إلى تركيا للعلاج خلال العام 2014 حوالي 541 مليون دولار وبلغ هذا الرقم خلال النصف الأول من العام 2014 قرابة 328 مليون دولار.

ومن خلال ما تمتعت به من خبرة على مدى سنين طويلة، تحاول تركيا اليوم من خلال القطاع السياحي الطبي أن تتعلم من أخطاء الماضي التي وقع فيها القطاع السياحي العام، كافتقاره لعامل اللغة، ووسائل التواصل المباشر مع السائح والضيف. فلم تكن الأجيال السابقة تتقن غير لغتها الخاصة بينما نجد اليوم أطباء هذه المراكز يتمتعون بمعظمهم بلغة أجنبية أخرى واحدة على الأقل كالإنكليزية والعربية والألمانية. وما عجز عنه الطبيب من تواصل مباشر، حصل عليه المريض من خلال المتمرجمين المتخصصين الذين يؤدون هذا الأمر بإخلاص ودقة تمنع معها الخطأ في تعريف الحالة وبالتالي الخطأ في التشخيص والعلاج. كما أن معظم المؤسسات الطبية الخاصة في تركيا عملت مع انطلاقة السياحة الطبية فيها إلى التمييز ما بين المصطلح البارد "المريض الأجنبي" إلى المصطلح الأكثر تحبباً بعبارة "السياحة الطبية". فبرودة المصطلحات هذه تؤدي إلى فتور بين المريض الزائر والطاقم الطبي المعالج، بينما تهدف هذه المؤسسات الطبية إلى إشعار المريض وكأنه في داره بين أهله وناسه تماماً كما تقتضيه الروح التركية التي تتميز بحسن الضيافة والمحبة ومد يد العون والمساعدة.

وتنقسم السياحة الطبية عادة إلى شكلين مختلفين هما:

- منظم عندما تهتم وكالة أسفار متخصصة بالسياحة الطبية بتنظيم جميع الخدمات للمريض الذي يريد التمتع بخدمات طبية مع خدمات سياحية.

- غير منظم عندما يهتم المريض بالتنظيم بنفسه ويتجه مباشرةً لمقدمي الخدمات الطبية المحليين (أطباء،مصحات...).

وبالحديث عن أسس السياحة الطبية يمكننا أن نذكر هذه النقاط التالية:

- تأمين التواصل الصحيح والمباشر مع المريض وأهله وإزالة العوائق الثقافية التي تقف عائقاً أمام المريض وفرص علاجه بشكل سليم.

- العمل من خلال أطباء وطواقم طبية تتابع كافة التطورات العلمية والتقنية الحديثة.

- استخدام آخر ما توصل إليه العلم من أجهزة طبية وسريرية.

- تأمين أفضل وسائل الراحة للمريض خلال فترة إقامته عبر غرف طبية مجهزة بشكل حضاري وحديث لا يقل جودة عن أفخم الفنادق وأكثرها شهرة وجودة بشكل يؤمن للمريض إحساساً بكونه يعيش في بيته بين أهله وعشيرته.

- تأمين أفضل فرص العلاج بأفضل الأسعار وأنسبها للمريض بعيداً عن المغالاة التي تودي إلى تحويل هذه المهنة الشريفة إلى قطاع تجاري لا يهدف سوى الربح والتجارة. علماً أن أسعار العلاج في تركيا هي أوفر من تلك التي تقدمها الدول الأوروبية بنسبة تتراوح ما بين 40% إلى 70% دون أي فرق في جودة هذه الخدمة ومواصفاتها التي تعتمد بشكل واضح وصريح المعايير العالمية والأوروبية الحديثة.

إضافة إلى هذه الأساسيات في العمل، وفي سبيل تقديم خدمة متواصلة متكاملة، تسعى المؤسسات الطبية إلى تأمين الخدمات التالية أيضاً:

- المساعدة في تأمين تذاكر السفر وأماكن الإقامة لذوي المرضى ومرافقيه بأفضل شكل ممكن بشكل يتناب مع إقامة المريض في المستشفى.

- استقبال المريض وذويه في المطار وتأمين وصوله إلى المستشفى والفندق ومن ثم توديعه أيضاً في المطار في طريق عودته إلى بلده بعد العلاج.

- تأمين خط هاتف خليوي للمريض خلال فترة العلاج عند طلبه .

- تأمين مترجم مرافق للمريض وذويه خلال فترة العلاج لمنع حالات سوء التفاهم التي قد ينتج عنها خلل في التشخيص والعلاج.

- إعطاء المريض كافة الإيضاحات اللازمة في الأمور المتعلقة بمرضه وخطة العلاج ومرحلة ما بعده.

- متابعة المرض بعد العلاج خلال فترة الشفاء ومن ثم ترتيب مواعيد مراجعته للطبيب المختص.

- متابعة المريض عبر كشوفات الجودة لمعرفة نسبة الراحة التي تمتع بها المريض خلال زيارته لمعرفة مواطن الضعف وتصويبها بشكل دائم.

وأخيراً، يبقى الهدف من السياحة الطبية في تركيا  هو إشعار المريض بأنه في وطنه ومنزله عبر تأمين كافة وسائل الراحة وبناء الثقة التي تشكل العامل الأساسي في مرحلة العلاج والشفاء واعتبار المريض بأنه فرد من أفراد المجتمع التركي بشكل يؤمن له أفضل وسائل العلاج بأنسب الأسعار وأفضل التقنيات.

عن الكاتب

د. وسيم بكراكي

كاتب لبناني


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس