د. وسام الكبيسي - خاص ترك برس

شاركت في اسطنبول خلال اليومين الفائتين في مؤتمر كبير في عنوانه وأهدافه وعدد المشاركين والأوراق العلمية المطروحة فيه، حيث قام على أعمال المؤتمر عدة جهات منها مركز Assam الذي يديره المستشار الأول لرئيس الجمهورية التركي، السيد عدنان تانِرفيردي، واتحاد المنظمات الأهلية في العالم الإسلامي، والاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، وجامعة أسكودار، وقدمت فيه ورقة مختصرة ضمنتها مقترحا، وجاءت تحت عنوان "دور الدولة في وضع السياسة النقدية من منظور الاقتصاد الإسلامي”.

يعد موضوع السياسة النقدية ودور الدولة في وضعها من المواضيع التي أولاها خبراء المال والاقتصاد أهمية كبيرة، حتى قبل أن يتطور مفهوم الدولة ويأخذ شكله الحديث، ولكن دراسته اليوم باتت أكثر أهمية في ظل التحديات التي يطرحها الواقع الدولي الذي يزداد تعقيدا وتشابكا وتداخلا في المجالين السياسي والاقتصادي، وأثر كل منهما على الآخر.

يزيد من تلك الأهمية هذا التفاعل الذي نراه بين اقتصادات الدول على الصعيد الاقتصادي والمالي والنقدي، وهو تفاعل وصل حد التماهي والغياب النسبي للحدود بين الدول، والتي أصبحت حدودا شفافة بنسبة كبيرة منذ عقود مع ظهور مرحلة العولمة وما رافقها من قوانين واتفاقيات دولية وإقليمية، ويظهر ذلك جليا مع الدول النامية والأقل تطورا حيث باتت المعطيات الاقتصادية من بين العوامل التي تؤثر على هيبة الدولة وتنال من سيادتها على أرضها وقرارها.

عرج البحث على متابعة التحولات التي حصلت في عالم النقد والعملات، وتحول النقد من عملة مغطاة بالذهب إلى عملة بدون غطاء عيني، مع الاكتفاء بالغطاء القانوني المعنوي، ونبه إلى أن التعامل بالعملات كان تابعا للاقتصاد الحقيقي ونابعا من طلب حقيقي للعملة، وانتقل في العقود السابقة من مرحلة صرف العملة لتلبية الحاجات الاقتصادية إلى متاجرة ومضاربة بهذه العملات بعيدا عن النشاط الاقتصادية إلى متاجرة ومضاربة بهذه العملات بعيدا عن النشاط الحقيقي، بل أصبح الاقتصاد الحقيقي تابعا ومتأثرا بهذا التعامل، ومع تنامي حجم تجارة العملات أصبحت الدول المتقدمة تجد صعوبة في التدخل في أسواق العملات الأجنبية، لأن احتياطيها لا يكفي للتأثير على معدلات الصرف، فقد كانت احتياطات الدول الصناعية من العملات الأجنبية تساوي ضعف حجم التجارة اليومية في العملات، وبحلول عام 1995 أصبحت التجارة اليومية في المعاملات تساوي ضعف احتياطات العملة الأجنبية!

بعد أن كانت غالبية تجارة العملات الأجنبية تنتج عن التجارة الدولية، أصبحت الآن على صلة ضعيفة بالتجارة الدولية والتي تشكل2% من الحركة النقدية العالمية، فلم تعد تجارة العملات وحركة رؤوس الأموال تابعة للتجارة والاستثمار الدوليين بل اكتسبت حالة خاصة، فارتفع متوسط حجم التعامل اليومي في أسواق الصرف الأجنبي من 782,308 مليار دولار يوميا عام 1983 لتصل عام 2008م إلى حوالي 2.4 تريليون دولار يوميا، وهو يتجاوز اليوم 5 ترليون دولار.

أشار البحث إلى أن الركيزة الأساسية للسياسات النقدية في الاقتصاد التقليدي هو مبدأ الفائدة، وأن هناك عدة اختلافات بين المنظور الاقتصادي الرأسمالي والمنظور الإسلامي، ويمكن أن نوجز أهمها بما يلي:

- المتغير الذي تصاغ على أساسه السياسة النقدية في اقتصاد إسلامي هو الكتلة النقدية، وسرعة دوران النقد، وليس مستوى معدلات الفائدة.

- بدلا من مبدأ الفائدة كمحرك للنقد بين أوجه الاقتصاد التقليدي، يعتمد النموذج الاقتصادي الإسلامي مبدأ معدل الربح، وهو خلافا لسعر الفائدة لا يتحدد مسبقا، والشيء الوحيد الذي يتحدد مسبقا هو معدل اقتسام الأرباح، ولا يتقلب هذا المعدل كما يتقلب معدل الفائدة، لأنه يستند إلى أعراف اجتماعية واقتصادية، وهذا يقلل التقلبات في سوق السلع والخدمات والنقد، ولا يعطي مزية للانتظار بدون التشغيل الفعلي للنقد.

- أن مبدأ الفائدة ينافي مبدأ العدل الذي نادت به الشريعة الإسلامية وجعلته ركيزة في كل التعاملات.

- أخيرا، فإن تتبع حركة النقد بالاستناد إلى مبدأ الفائدة يرينا أن المال يتوجه نحو شريحة هي الأكثر ثراء في المجتمع، وهو يكرس حالة من الطبقية الشديدة على المدى الطويل، ويجعل المال (ُدولة بين الأغنياء) فقط.

وعلى هذا فإن المنظور الاقتصادي الإسلامي يختلف في منطلقاته ومؤسساته عن المنظور الاقتصادي التقليدي، ومن الطبيعي أن تكون فيه مرتكزات يمكن استقراؤها للوصول إلى نموذج يحدد دور الدولة في منظومة رسم السياسات النقدية لا يشابه بالضرورة ما درج عليه النموذج الرأسمالي، وذلك وفق قاعدة درء المفاسد و جلب المصالح ورفع الحرج وإزالة الضرر.

تنزع النظم الحديثة إلى إيلاء دور رسم السياسات النقدية لأجهزة المصارف المركزية، وقد سعت لإعطائها استقلالية كبيرة عن سياسات الحكومات مما ولد حالة من التنازع المستمر على الصلاحيات في مجال من أهم المجلات تأثيرا على الدول والحكومات والمجتمعات، فكيف تنظر الشريعة الإسلامية إلى هذه العلاقة؟

لقد أولت الشريعة الإسلامية اهتماما كبيرا وأعطت حيزا واسعا من نصوصها ومفاهيمها لتحقيق المقاصد عبر قواعد منها قاعدة "جلب المصالح ودرء المفاسد عن الأمة، أفرادا ومجتمعات".

يقول الإمام الغزالي، إن مقصود الشرع من الخلق خمسة، وهو أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم، فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة.

ويقول ابن القيم، إن الشريعة مبناها وأساسها على الِحكَم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها. والدول الإسلامية مكلفة بحسن إدارتها للشؤون المالية، من حيث الموارد والنفقات.

وإذا كان سك النقود من أهم ما تقوم عليه السياسة النقدية للبلد، فإن ابن خلدون يراها من وظائف الخليفة، فهي وظيفة ضرورية للملك، إذ بها يتميز الخالص من المغشوش بين الناس في النقود.

ولذلك ظهرت لدينا قواعد فقهية مستخلصة من الشريعة، أوردها عدد من الفقهاء في كتبهم، منها (أن تصرف الإمام منوط بالمصلحة)، و (حيثما وجدت المصلحة فتم شرع الله)، وغيرهما، وبدون شك فإن مصلحة البلد لا تتحقق بتفرد المصرف المركزي ولا بتحكم رئيس الدولة برسم السياسات النقدية للبلد.

لا شك أن المصرف المركزي الإسلامي هو المعني أولا برسم السياسات النقدية، وعليه يقع العبء الرئيسي والمسؤولية المباشرة، ولكن هل يكفي لوحده في رسم تلك السياسات؟، قد لا يكون كافيا، لما في ذلك من خطورة متأتية من احتمالية التعسف في التفسيرات أو المبالغة في التقديرات، أو التضارب مع السياسات التي ترسمها الحكومة بحكم الاختصاص للمجالات الأخرى التي تبنى عليها الاستراتيجية العامة للدولة.

ومن جهتها، هل تستطيع الحكومة تجاوز دور جهاز المصرف المركزي، أو التغول على صلاحياته ومسؤولياته؟ وماذا لو استغلت الحكومة هذه السياسات لتصفية حسابات سياسية، أو لكسب تأييد شعبي عبر تكريس حالة اقتصادية وهمية خلال فترة حكمها دون اعتبار للعوامل الاقتصادية، أو للأزمات التي يمكن أن تتولد على المديين المتوسط والبعيد جراء هكذا سياسات؟

في دولة مستقرة، يقوم نظامها العام على أسس تفاعلية وتشاركية فإن جهاز المصرف المركزي والحكومة تحصل بينهما اتفاقات وتفاهمات ليست مكتوبة بالضرورة، وإنما تصبح تقليدا متبعا يغني الطرفين عن التصادم وتنازع الصلاحيات، ولكن حتى هذه التفاهمات لا تبدو كافية لمنع حصول التنازعات بصورة دائمة.

هذا كله يحتم البحث عن آلية تساعد على تشكيل فريق قادر على رسم السياسات وفق آليات وإجراءات تراعي الظروف الداخلية والتعقيدات والمخاطر الخارجية. وبما يحقق قاعدة جلب المصالح ودرء المفاسد التي جعلتها الشريعة الإسلامية من مقاصدها، بقدر المستطاع.

إن الإسلام الذي أمر المسلمين بالتعاون على البر والتقوى وأمرهم بالشورى في كل أمورهم، وحمل كل فرد من الأمة مسؤولية بمقدار م بالشورى في كل أمورهم، وحمل كل فرد من الأمة مسؤولية بمقدار ما يناط به أوُيندب إليه من مهام، يضاف لذلك ما فيه من مرونة تشريعية وقابلية تطبيقية ،كل ذلك يجعل الباحث يقترح نموذجا يمثل (هيئة - أو مجلس - رسم السياسات النقدية)، في زمن باتت فيه النقود والعملات بمثابة أسلحة قد تكون معنا أو ضدنا، وفي ظل حروب العملات التي غدت تشعلها الدول ذات التأثير الاقتصادي الأكبر من حولنا. ووفق النموذج المقترح لهيئة رسم السياسات من منظور الاقتصاد الإسلامي فإنه يتم الآتي:

أولا: تتشكل الهيئة وفقا للنموذج المقترح من عشرة أشخاص وفقا لاختصاصاتهم ومسمياتهم الوظيفية:

1- رئيس الجمهورية أو من يقوم مقامه (ملك، أمير، رئيس وزراء..) في أعلى السلطة التنفيذية.

2- وزير المالية.

3- رئيس جهاز البنك المركزي.

4- رئيس جهاز الرقابة الإدارية والمحاسبية.

5- خبير رسمي بأمن شبكات التواصل والأمن السيبراني المصرفي.

6- خبيران اثنان من الأكاديميين يتم اختيارهما وفق شروط مهنية محددة.

7- ثلاثة مدراء تنفيذيين يديرون مصارف ومؤسسات نقدية يتم اختيارهم بالانتخاب من قبل زملائهم.

ثانيا: يتم تشكيل الهيئة كل خمسة أو أربعة أعوام تبعا لاستحقاقات انتخاب وتشكيل الحكومة.

ثالثا: لا يتم حل الهيئة إلا بعد أن يتم انتخاب حكومة جديدة وتشكيل هيئة جديدة تتسلم المهام بدلا عنها.

رابعا: يتم اتخاذ القرارات بالتصويت الحر المباشر على فقرات السياسات العامة أو القرارات أو المقترحات المقدمة، وفي حال تساوت الأصوات يتم ترجيح الكفة التي صوت لها رئيس الحكومة.

خامسا: في حال صوت الرئيس ووزير المالية ورئيس جهاز المصرف المركزي على فقرة بالإيجاب بعد التداول والمناقشة، تصبح قرارا نافذا بغض النظر عن موقف بقية الأصوات. بغض النظر عن موقف بقية الأصوات.

سادسا: في حال صوت الرئيس ورئيس جهاز المصرف المركزي على فقرة بالإيجاب فيكفي وجود صوتي عضوين آخرين معهما ليصبح قرارا نافذا، بغض النظر عن بقية الأصوات.

بوجود هكذا مجلس موسع ومتنوع نضمن صدور قرارات تقوم على أسس علمية وعملية آمنة، تراعي السياسات النقدية والسياسات العامة، وتنهي تنازع الصلاحيات والصراع بين الحكومة وجهاز المصرف المركزي، للتركيز من قبل الجميع على تحقيق المقاصد وجلب المصالح.

عن الكاتب

د. وسام الكبيسي

(كاتب وباحث عراقي)


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس