أحمد الهواس - خاص ترك برس

عُرف الاقتصاد السوري منذ ظهور سورية كدولة حديثة باعتماده على الزراعات الاستراتيجية، والتجارة التي برع بها السوريون تاريخيًا، فضلاً عن السياحة، وكان اقتصادًا حرًا أقرب للاقتصاد الرأسمالي إلى جانب التشريعات الاجتماعية التي كانت تواكب التطور الطبيعي للمجتمع، وكان من أنجح الاقتصادات في المنطقة وآسيا، ولعل الاقتصاد السوري كان كلمة السرّ في أي نزاع يحصل في المنطقة، فقد كان إنذار غورو الشهير للحكومة العربية في دمشق في 14 تموز/ يوليو 1920 يحمل في بنوده السيطرة على الاقتصاد السوري من خلال التعامل مع العملات الورقية التي يصدرها المصرف السوري اللبناني، وكذلك تسليم مقدرات الدولة للاحتلال الفرنسي، وإبّان الحرب العالمية الثانية قامت فرنسا بربط الاقتصاد السوري باقتصادها المنهك في الحرب، وفي الثورة السورية عمد النظام إلى تدمير الدولة السورية اقتصاديًا حتى لا تشكل خطرًا على أمن الصهاينة حيث سينشغل السوريون عقودًا في إعادة البناء!

التغيير الأول الذي طرأ على الاقتصاد كان زمن الوحدة مع مصر، حيث أدخلت الافكار الاشتراكية إلى سورية ومفهوم سيطرة الدولة على الاقتصاد فضلاً عن ادخال قوانين التأميم التي غيرت الواقع الاقتصادي والمعاشي للسوريين، وتعد تلك المرحلة أولى خطوات تخريب الاقتصاد السوري.

عاد الاقتصاد السوري إلى الانتعاش بعيد الانفصال، وهو انفصال كان مرضيًا عنه من تجّار دمشق وحلب، إلاّ أن "الربيع السوري" لم يطل فقد حدث انقلاب البعثيين عام 1963 حيث أعادوا الاقتصاد الاشتراكي الموّجه، وهذا ما أدى لخروج الأموال السورية، وكانت البنوك اللبنانية والتركية وجهتها، وأدّت القوانين الاشتراكية في التأميم والتحويل الاشتراكي إلى ضرب المشروعات الأهلية، وقد كلّف ذلك الدولة خسائر كبيرة حيث باتت الموجّهة والمسؤولة عن الاقتصاد تحت عنوان بارز "الاقتصاد الاشتراكي" اقتصاد بات مشاعًا للمسؤولين والمتنفذين، وحقق الاشتراكية في النهب والبطالة المقنّعة لا سيما بعد انقلاب حافظ أسد  في 16 تشرين الثاني/ نوفمبر 1970، وهذا ما استدعى أن يعقد حافظ أسد صفقات ترضية مع تجّار دمشق ويترك لهم مساحة واسعة من الإفادة المالية مقابل دعم لا محدود له، لا سيما إبّان الصراع مع الإخوان في نهاية السبعينيات حتى 1982.

استخدم حافظ أسد أسلوب "المشاركة في الجريمة" في شراء الولاءات والصمت عن نهب المال العام، وجعل ذلك ديدن المسؤولين فأغرقهم في الفساد وهذا ما جعل الكثيرين متورطين من حيث لا يعلمون، وهذا مايجعلهم شركاء معه في الدفاع عن نظامه! أمر لم يتوقف على الموظفين الكبّار بل شمل الموظفين البسطاء، حتى أصبح الفساد أصلاً، والصواب استثناء!

بعد نهاية أحداث حماة، كانت الأمور قد استقرت تمامًا لحكم حافظ أسد، حكم شمولي بقبضة أمنية، بعد أن أصبحت ميزانية الدفاع في سورية من بعد الحروب التحريكية مع إسرائيل ورفع شعار الصمود والتصدي ومن ثم شعار التوازن الاستراتيجي تصل لـ 85% من ميزانية سورية، ومن المضحكات أن شعار التوازن الاستراتيجي الذي برز عام 1984 جاء بعد نزاع حافظ ورفعت الأسد، حيث يذكر مصطفى طلاس: أن رفعت رفض الخروج من سورية إلا بعد أن تحوّل له ميزانية ضخمة ليعتاش منها هو ومن معه خارج سورية، ولم يكن في البنك المركزي إلا الفئران بعد أن أصبح خاويًا من المال بسبب النهب، وهذا ما دعا حافظ لإرساله – أي طلاس- إلى العقيد القذافي الذي كان مزاجه رائقًا فأنقذ الاقتصاد السوري بمبلغ كبير تم دفع قسم منه لرفعت، ووضع الباقي في المصرف السوري المركزي!

بدأ بعد ذلك انهيار الليرة السورية حيث كان سعرها أمام الدولار أربع ليرات ونصف، فأصبح الدولار يساوي 45 ليرة، في أكبر كارثة اقتصادية تعرضت لها الليرة حتى ذلك الوقت، وقد عانى الشعب من ذلك أمام نقص حاد في المواد الأساسية، وقد كان ذلك عقوبة من النظام للشعب بسبب تجرؤ بعض السوريين على قولة لا! وقد غلّف ذلك بأنّه يتعرض لحصار دولي أمريكي خليجي لدعمه إيران "سياسيًا" في حربها مع العراق، وهذ غير دقيق بالمطلق، ففي هذه المرحلة شهدت فضيحة إيران غيت، فضلاً على إنهاء منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان بعد اجتياح لبنان 1982، وكل ذلك تمّ بالاتفاق مع حافظ أسد!  لكن أحد أهم أسباب الانهيار الاقتصادي – فضلاً عن النهب المنظّم - كان بسبب قطع خط النفط العراقي الذي كان يدر الكثير على الاقتصاد السوري، وقد أوقفه حافظ أسد دعماً لإيران، وكذلك توقف المساعدات العربية لجيشه في لبنان بعد أن حل مكان  ما يسمى "قوات الردع العربية في لبنان" وكان الخليجيون يدفعون مقابل ذلك، فضلاً عن دعم مالي لدول الطوق!

عمد النظام لحل أزمته من خلال غض الطرف عن التهريب من لبنان، وهذا أمر كان تحت سلطة كبار الضباط وأبناء الأسد وأقربائهم وبرز عند ذلك مصطلح الشبيحة على المهربين، تهريب أنتج القطط السمان، وأنهك الاقتصاد المنهك أصلاً، وجعل الشعب في دوامة البحث عن أساسيات الحياة!

في عام 1990 كانت انفراجة الاقتصاد السوري من خلال السماح للتجار بالاستيراد، وقد بدأ التغيير "القسري" بعد أن بدا أن انهيار الاتحاد السوفييتي ومنظومته الاقتصادية مسألة وقت، وبات في حاجة لمن يمد له يد العون، هنا ظهر المرسوم رقم عشرة أو ما يُعرف بقانون الاستثمار، وهو أول تغيير ملموس في بنية الاقتصاد الموجه ليكون إلى جانبه الخاص والمشترك، تغيير رأى فيه مراقبون أنّه كان يهدف لأمرين:

الأول: غسيل أموال للأموال المنهوبة، والتي تكون قسم كبير منها  من التهريب.

والثاني: العمل على سحب الاقتصاد من يد السنة المسيطرين عليه تقليدياً.

مرحلة شهدت ما يسمى بظهور "جامعي الأموال" كأمينو، وكلاس، ومن ثم الإيقاع بهم، وضياع أموال الناس، وهروب أموال كبيرة نحو المصارف التركية، مرحلة جعلت ثمة شخوصًا جددًا يظهرون على الساحة الاقتصادية، لا سيما آل مخلوف الذين كانت وزارة المالية تعد جزءًا من حقوقهم، وكذلك ظهر مستثمرون كـ ذو الهمة شاليش يحوز على كل مناقصات الطرق في سورية!

أمر لم يتوقف على الأسرة المتنفذة في الطائفة بل وصل إلى أسرتي خدّام وطلاس، وبرز جيل من الاقتصاديين الجدد في مشهد جديد حيث تنتج السلطة الاشتراكية مستثمرين رأسماليين من أبنائها!

كان معدل دخل المواطن السوري منذ الانهيار الاقتصادي عام 1984 حتى وفاة حافظ أسد عام 2000 لا يتجاوز ستين دولارًا شهرياً، وكل زيادة في الدخل تتبعها زيادة في المواد الرئيسة وفي الوقود، فيزداد الفقير فقرًا، والغني غنى! الملفت للنظر أن النفط كان يتفجر بكميات ضخمة في حقول المنطقة الشرقية، والنظام متوقفة بياناته على بيانات حقول الجبسة ورميلان بتسعة آلاف برميل يوميًا! أرقام هائلة كانت تقدمها شركات التنقيب عن النفط، وقد وصل معدل الإنتاج السنوي نحو أربع مئة ألف برميل يومياً، لكنها لم تدخل ميزانية الدولة بل وضعت بحسابات خاصة وسرية في بنوك سويسرا باسم أولاد حافظ أسد، وكانت الفضيحة المدوية بعد وفاة باسل أسد 1994 حيث المليارات المكدسة في البنوك، وقد استطاع رئيس الوزراء اللبناني الراحل رفيق الحريري إعادة قسم منها بتحويلها لحساب بشار!

بعد وفاة حافظ أسد، كانت خطة بشار الاقتصادية تتلخص في أمرين مهمين، أصبحا عنوان المرحلة:

* نزع الاقتصاد من يد السنة تمامًا، وجعله جزءًا من العلوية المسيطرة على البلاد، وهنا كانت العلوية الاقتصادية متمثلة بامبراطورية رامي مخلوف أو امبراطورية بشار مخلوف!

* سيطرة إيران على الاقتصاد السوري من خلال مشروعات إيرانية في سورية، والغاية منها ليس مدّ النفوذ الإيراني فحسب، بل تثبيت حكم الأقلية بحليف قوي، والعمل على تشييع السنة بعد إفقارهم.

نجح النظام في ذلك نجاحًا باهرًا، وكانت خطة النظام كلما زاد المال في يد الناس عمد إلى سحبه بطريقة ناعمة، فكان الاقتصاد الريعي "شركات الخليوي" الذي يسيطر عليه في الواجهة رامي مخلوف والمشروعات الاستثمارية الكبيرة والأخرى السياحية، والسماح باستيراد السيارات مما ولّد عند المواطن السوري رغبة عارمة باقتناء ما كان محرومًا منه طوال سنوات ولا يرى في شوارع مدنه سوى سيارات من موديل الخمسينيات والستينيات، وقد دخل النفط في الميزانية في أرقام تعلن عنها السلطة ولا أحد يعرف حقيقتها ما أدى لانتعاش ملحوظ في الاقتصاد السوري، وقد وصل معدل دخل الموظف السوري قبيل الثورة لنحو 400 دولار، زيادة ملموسة في الدخل ولكنها لم تحل مشكلة البطالة التي كانت ترتفع بشكل مخيف، وكانت إحدى الحلول للشباب الهجرة للخليج أو لبنان، وبناء مشروعات صغيرة بعد ذلك تؤمن القوت اليومي!

جاءت الثورة السورية كسياق طبيعي لتراكم المشكلات الاقتصادية فضلاً عن الاستبداد والقبضة الأمنية والتوزيع غير العادل للثروة، ولهذا فقد سارع رأس النظام لزيادة مالية للموظفين بلغت 30 بالمئة، وادعى رامي مخلوف توقفه عن العمل الاقتصادي وتحوله للعمل الخيري! وقد كان المصرف المركزي السوري يحوز على 16 مليار دولار، ولم تكن سورية مدينة إلا بديون قديمة مع روسيا زمن الاتحاد السوفياتي، تقدر بـ 12 مليار دولار.

استهلك النظام الأموال في الحرب ضد الشعب السوري، وقد بدت آثار ذلك على الاقتصاد السوري، لا سيما بعد خروج مناطق النفط عن سيطرته، وكذلك العقوبات التي طالته نتيجة الإمعان بقتل الشعب السوري، وتوقف غالبية المنافذ الحدودية عن العمل، ولحل تلك المعضلة الاقتصادية فقد دخلت إيران داعمة له في حربه ضد الشعب السوري، وقدمت ومازالت دعمًا كبيرًا لآلة القتل، وقد تم تقديم المساعدات الاقتصادية الإيرانية منذ بدء الثورة السورية للنظام الحاكم على شكل قروض حيث قدمت في 2012 قرضا بمليار دولار، ثم قدمت في العام 2013 قرضا بـ 3,6 مليار دولار، أمّا ما يقدم بالخفاء من دعم اقتصادي لآلة الحرب ضد الشعب السوري، والدعم المالي للمليشيات الطائفية فتبقى الأرقام قيد التكهنات!

كذلك قام النظام بتوقيع اتفاقات اقتصادية مع إيران وروسيا تجعل من سورية بلدًا مدينًا لعشرات السنوات، وقد طبع كميات ضخمة من العملة السورية في موسكو – بعد توقف طبع العملة السورية في النمسا بسبب العقوبات المفروضة على النظام - ما أدى لتضخم هائل فيها حيث وصل سعر الليرة مقابل الدولار من 45 ليرة قبيل الثورة إلى 540 ليرة أمام الدولار! أمر أدّى لأن يصبح راتب الموظف السوري نحو أربعين دولاراً في بلد يعاني الويلات والفاقة!

تبلغ ميزانية سورية لعام 2019 حسب الأرقام التي تعلنها الحكومة السورية نحو خمسة مليارات بعد أن كانت 17 مليار دولار في 2011، تذهب في غالبيتها للصرف على الجيش والأمن والشبيحة وهي ميزانية ضعيفة لا تكفي لمرتبات موظفي الدولة – يقدر عدد موظفي سورية حتى 2011، بمليوني موظف - لكي يعيشوا حياة لائقة، فضلاً عن قطاع التعليم المنهار وقطاع الصحة الذي تحوّل لجزء من وزارة الدفاع منذ أن دخل الجيش في مواجهة الشعب، عدا عن قطاعات كثيرة متعطلة، ويقرّ وزير مالية النظام أنّ العجز في موازنة العام 2019 قد بلغ 946 مليار ليرة، وفي مقابلة له بصحيفة الوطن التابعة للنظام يقدّم وزير المالية تفسيرا ساذجًا لذلك العجز الذي يراه دليل قوة بقوله: "صحيح أن العجز قد تفاقم بشكل كبير، لكن بالمقابل فإن هذا الأمر يدل على قوة الدولة السورية في مواجهة الأزمة وبالاستمرار في تلبية متطلبات الصمود والإنفاق وفي تقديم كافة الخدمات والدعم للسلع الأساسية، وبالتالي فإن موازنة عام 2019، جاءت لتؤكد استمرار الدولة السورية في تقديم خدماتها والاستمرار في الدعم الاجتماعي والعمل على دفع عجلة الإنتاج في جميع القطاعات، لا سيما القطاعات الصناعية والزراعية".

كل هذا لم يمنع من بروز القطط السمان من أسماء جديدة إلى جانب مخلوف وأسد، وهذا ما أدى لبروز طبقة تجّار الحروب والأزمات حيث يعيش الشعب السوري بوجبة واحدة في اليوم، وقسم كبير من الفقراء يبحثون في القمامة كي يجدوا ما يسد رمقهم – حيث يقدر أن 65% من الشعب السوري دون خط الفقر-  وهناك من يصرف الملايين في جلسات لهو وصخب!

من يراقب تطورات المشهد السوري منذ وصول حافظ أسد حتى الثورة السورية، يجد أن خطة تدمير الدولة السورية كانت قائمة، وفي شقها الاقتصادي تحديداً حيث تتحول سورية إلى مزرعة للحاكم وحاشيته ويكون الفساد منظمًا وليس عشوائياً، مع غياب فعلي لخطط التنمية، وإذا ما هدد النظام بثورة شعبية، فعلى النظام أن يسارع لتدمير الدولة السورية بحيث تكون بحاجة لعقود حتى تستطيع التعافي، ولهذا تمّ تدمير مقومات الاقتصاد السوري ويكفي النظر في التدمير الذي طال  الزراعة والسياحة وحجم الدمار في المدن لتظهر عمق الكارثة التي تعرضت لها سورية الدولة، حيث تقدر خسائر الاقتصاد السوري بنحو ترليون دولار، وخطط الإعمار تحتاج لست مئة دولار، ونحو عشرين عامًا حتى يعود الاقتصاد لمستويات 2010!

الملفت في الأمر، هو قبول الحاضنة الشعبية التي ينتمي إليها بشار الأسد – الطائفة ومعها طائفة الفساد التي صنعت منذ 1970 وهي تضم كل المنتفعين من كل المكونات- الاستمرار في التدمير، والقتال معه حتى الانتصار على الثورة، مهما كانت النتائج الكارثية، وهنا يبدو الشعب السوري يموت جوعًا، وهناك من افتدى بشار بحياته في حين لا يجد أهله ما يسد قوت يومهم، في الوقت الذي تقدر فيه أموال بشار ومخلوف  بالمليارات، حيث تُقدر ثروة رامي مخلوف بـ 27 مليار دولار، وثروة بشار الأسد حسب مجلة فوربس بـ 122 مليار دولار.

وثمة أرقام كبيرة تخصّ ضباطًا كبارًا ورجالات يحيطون برأس النظام، أموال تودع في بنوك سويسرا والإمارات وروسيا، والشعب السوري لا يجد لقمة تسدّ رمقه، ومن يموت لأجل بشار الأسد يكافئ بعنزة أو صندوق تفاح أو ساعة حائط!

عن الكاتب

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس