محمد زاهد جول – القدس العربي

منذ أن قام الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بزيارة المملكة العربية السعودية في بداية هذا الشهر حتى بدأت التحليلات السياسية تتوالى في الحديث عن محاور وتحالفات قادمة في المنطقة، بعضها يرتبط بالتغيير الحاصل في السعودية بعد تولي الملك سلمان للحكم حديثاً، وما يمكن ان يغيره في سياسة المملكة بعد رحيل الملك السابق عبدالله بن عبدالعزيز، وبالأخص ان الملك سلمان اتخذ عشرات القرارات السياسية الداخلية فور تسلمه مقاليد البلاد، ويتوقع البعض أن يتخذ قرارات مهمة في السياسة الخارجية أيضاً.
وبعضها تتحدث عن التحديات الخطيرة التي فجرتها إيران في المنطقة بعد هيمنة الحوثيين على العاصمة اليمنية صنعاء، وارتفاع النبرة الإيرانية في التدخل في الشؤون العربية في عدد من الدول العربية، بل وإعلان بعض المسؤوليين الايرانيين عن هيمنتهم على أربع عواصم عربية هي بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء، وهؤلاء المسؤوليين الايرانيين يعتبرون ذلك انتصارات للسياسة الايرانية الخارجية، إضافة إلى ان ذلك التمدد الإيراني يتم بالتوافق مع أمريكا واسرائيل، وكأن أمريكا واسرائيل تتعاون مع الدولة الأقوى في المنطقة، وتتخلى عن حلفاء السابق الضعفاء، الذين يركنون على أمريكا وحدها لتحميهم مقابل أن يحافظوا لها على مصالحها وسريان النفط نحو الغرب.
من هنا جاء السؤال المحوري في هذه المرحلة، هل هناك تغييرات في سياسات الشرق الأوسط، وما هو دور تركيا فيه، بعد ان مرت بمرحلة ظن البعض بان تركيا خسرت عدداً من مواقعها ومعاركها في الشرق الأوسط، منها بحسب زعم البعض خسارة تركيا لدولة الاخوان المسلمين في مصر، وخسارة مراهناتها على سقوط نظام بشار الأسد، واختلافاتها مع دول الخليج العربي وبالأخص مع السعودية والامارات العربية المتحدة، التي وقفت ضد ثورات الربيع العربي اولاً، وساندت الانقلاب السيسي في مصر، ودعمته مالياً وسياسياً بالرغم من كل الانتهاكات القانونية التي ارتكبها السيسي مع الشعب المصري، بينما كانت الحكومة التركية تندد بكل هذه الانتهاكات في كل المحافل الدولية والمناسبات الداخلية.
ولكن قبل الاجابة على هذا السؤال لا بد من التفريق بين العلاقات الاستراتيجية بين الدول، وبين الخلافات التكتيكية، لأن الاتفاق الاستراتيجي ليس بالضرورة ان تتطابق فيه كل الرؤى التكتيكية بين الدول، وعند النظر إلى العلاقات التركية والسعودية فإن العلاقة الاستراتيجية بينهما في العقود الأخيرة أكثر ثباتاً من مراحل الاختلافات التكتيكية، على عدد من القضايا التي لا يزيد عمرها عن ثلاث سنوات، ولا شك ان نقاط الاختلاف بين تركيا والسعودية أثبتت لكلا الطرفين أن مواقفهما لم تكن صائبة مائة بالمئة لأحدهما دون الآخر، وإنما هناك تقاسم في الصواب والخطأ كان لكلا الدولتين حظوظا منها، فضلاً عن أن هناك اختلاف في النظرة إلى طبيعة المشكلة نفسها، فتركيا لم ولن تدافع عن الاخوان المسلمين لأنهم اخوان مسلمين، وإنما دافعت الحكومة التركية عن نظام سياسي ورئيس جمهورية تم انتخابه ديمقراطية وعن طريق الشعب المصري، فسواء وافقت تركيا أو السعودية على هذا النظام ام لم توافق فالأمر متروك للشعب المصري، والحكومة التركية لا ولن تظهر في يوم من الأيام بأن تعترف أو تتعاون مع أي انقلاب عسكري في العالم، سواء كان الانقلاب العسكري في دولة عربية أو اسلامية أو في أمريكا اللاتينية، فالفكـــــرة التي تختلف عليـــها الحكومة التركية في المسألة المصرية هي رفض الانقلاب بغض النظر عن جهة الانقلاب، فلو كان الانقلاب من الاخوان المسلمين لما كان موقف تركيا مغايراً، ولو ترشح السيسي في انتخابات رئاسية منافسا لمرســي أو غيره، وفاز في الانتخابات الرئاسية فما كان للحكومة الــتركية أن تعترض عليها، أي ان القضية التي تدافع عنها تركيا غير القضية التي تعترض عليها السعودية، فالسعـــودية تعترض على أشــخاص من الاخوان، بينما تركيا تدافع عن مناهج حكم ديمقراطية بغض النظر عن أشخاص الرؤساء.
لذلك فإن نقطة الخلاف في هذه القضية قابلة للتفاهم مع السعودية وإن لم يتم التفاهم فيها مع الانقلابيين في مصر، وعليه فالعلاقات الاستراتيجية التركية السعودية لا تعني الاتفاق على كل شيء، هذا ما ينبغي أن ينطبق على العلاقات السعودية التركية، والحكومة والرئاسة التركية ترحب بالتغيير الذي يسعى له الملك سلمان لأنه سيعيد العلاقات الاستراتيجية التركية السعودية الى مسارها الطبيعي، ومع ذلك فلا ينبغي فهم عودة العلاقات الاستراتيجية بين البلدين أنه لن يكون هناك نقاط خلاف في الحاضر والمستقبل بينهما، ولكنها في مجال اختلاف السبل للوصول الى نفس الأهداف.
إن تركيا لا تسعى لأن تكون عودة العلاقات التركية السعودية إلى مسارها الطبيعي على حساب مصر، لأن تركيا تعلم أن السعودية لا تستطيع في الظروف الراهنة الابتعاد عن مصر ولا تركها تبتعد عن السعودية، لأن البديل ان تذهب مصر إلى تعاون أكبر مع روسيا وإيران، وهذا ليس في صالح الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط والوطن العربي.
إن الدولتين التركية والسعودية أمام تحديات مشتركة منها التصدي للنفوذ الإيراني ومواجهة التنظيمات الارهابية، وكلاهما يتغذيان من بعضهما، وكلاهما أكثر خطورة من التهديد الذي يمكن أن يشكله الاخوان المسلمون، وهذه نقطة خلاف بين الملك سلمان عن الملك عبدالله الذي كان يبالغ في خطورة الاخوان المسلمين، بينما يرى الملك سلمان أن الخطورة محصورة في القيادة العليا المقربة من المرشد، وليس أفراد الاخوان المسلمين بحسب تصريحات بعض المحللين السياسيين.
لا شك أن السعودية بحاجة إلى أن تراجع بعض سياستها في السنوات الأربعة الماضية، وبالأخص في درجة التساهل مع وجود الاضطرابات في الدول العربية، ليس في سوريا ولبنان والعراق واليمن فقط، وانما في مصر أيضاً، فالسعودية تدرك ان هناك أزمة في مصر، وأن السيسي لم يستطع حل مشاكل مصر، والسعودية لا تستطيع الابتعاد كلياً عن تركيا، حتى لو لم يتم تسوية العلاقات التركية المصرية، وأن العلاقات التركية المصرية لا ينبغي ان تنعكس سلباً على التوازن الإقليمي وبالأخص في منطقة الشرق الأوسط وتوازناتها المختلة حالياً، فالسعودية تريد أن تضمن موقف مصر في أي اتفاق يمكن ان تتوصل إليه السعودية مع تركيا، بانه ليس ضد مصر اولاً، وان لا تنظر مصر إليه على انه ضدها، بل تريد السعودية ايضاً أن تكون مصر مع أي اتفاق مع تركيا تعمل السعودية على تحقيقه الآن.
السعودية وتركيا تتفقان في امور مهمة وهي وقف تداعيات الأوضاع الأمنية والسياسية في العالم العربي، والزيارة التي قام بها أردوغان سبقها لقاءات كثيرة أمنية وسياسية حول القضايا المهمة في المنطقة مثل العراق وسوريا، فالسعودية وتركيا لهما اهتمامات كبيرة في العراق، وتحديداً في الموصل التي يتم تحريرها من داعش، ولكن لا لتقع بأيدي ميليشيات الحشد الشعب الشيعي ولا بيد الحرس الثوري الايراني، فالموصل ذو أهمية كبيرة لتركيا والسعودية، ولا بد أن يتفقا على موقف موحد منها.
وكذلك الحال في اليمن، وقد جرى التباحث حول اليمن في لقاء أردوغان مع سلمان، وليبيا كذلك جرح عربي نازف، وهناك من يتهم تركيا بانها تدعم عسكريا أحد الأطراف، بينما هي تعلن انها مع الموقف الدولي الداعي للمصالحة السياسية وعن طريق الحوار والمفاوضات السياسية، وهذا الموقف لا شك ان السعودية تدعمه، بينما الدول التي ضد هذا الموقف هي الدول التي فشلت في دفع مجلس الأمن ليتبنى دعوتها المتسرعة لمنحها تصريحا لشن غارات جوية على ليبيا كما فعل اول مرة بحجة الارهاب ومحاربة داعش، ولكن مجلس الأمن يرفض هذه الدعاوى، لأنه أكثر حكمة في معالجة المشاكل الوطنية بالطرق السلمية، وان الحل العسكري لا يمكن أن يأتي بالحل إطلاقاً.
وعلى صعيد سوريا فقد كانت تركيا وقطر أقرب إلى موقف الاخوان في سوريا، بينما كانت السعودية والامارات لهما رؤية مخالفة من الاخوان المسلمين، وكانا يدعمان فصائل أخرى، ولكن تركيا حريصة جدا على دفع علاقاتها مع السعودية إلى الأمام، وبالأخص ان تركيا والسعودية يتفقان على نهاية عصر الأسد، وان لا مكان له في مستقبل سوريا، ولذلك فإن تركيا سوف تضحي ببعض مواقفها من أجل التقارب مع السياسة السعودية، حتى يتم حل عدد من الأزمات الكبرى في المنطقة منها الأزمة السورية، ولكن ذلك ليس بالضرورة أن يكون على حساب المواقف المبدئية من الانقلاب في مصر، لأن تركيا تريد تقديم أي شيء ممكن من اجل التقارب مع السعودية في هذا الوقت، ولكن ليس بالضرورة أن يكون من اجل إرضاء مصر، وبالأخص في موقفها من ليبيا، وطريقة معالجتها العسكرية للأزمة الليبية، فتركيا لن توافق على تدخل عسكري لمصر في ليبيا، وفي الموضوع المصري لا بد ان تقدم الحكومة المصرية على معالجات أوضاعها الداخلية.
إن المشهد العسكري في سوريا والعراق واليمن يأتي في صدارة الجهد الذي تبحثه السعودية مع تركيا، والتعاون التركي والسعودي مهم جداً في ترتيب أوضاع المعارضة السورية والتدريبات التي سوف تتم للمعارضة السورية المعتدلة في تركيا والسعودية، وهذه سوف تساعد على تصور ممكن للحل في سوريا، فالطرق السياسية مغلقة لأكثر من سبب منها إعطاء أمريكا الأولوية لمحاربة داعش، ومنها الموقف الروسي الذي عارض كل الجهود الدولية الجادة التي كان يمكن ان تحمي الشعب السوري من خلال المجتمع الدولي، وتدافع الأحداث في الموصل يذهب في اتجاه لا توافق عليه السعودية ولا تركيا، فتركيا لا تريد أن يكون تحرير الموصل مذابح ومجازر لأهل السنة فيها، وهو ما أخذ يظهر بعد.
تحرير أجزاء من تكريت، حيث قامت ميليشيات الحشد الشيعية وجنود ايرانيون بحرق منازل أهل السنة في منطقة البوعجيل والعلم في تكريت، فكيف سيكون الحال في الموصل، لذلك فإن تركيا غيرت موقفها من محاربة داعش في العراق تحديداً بعد أن جاءها طلب من العشائر السنية لحمايتها في العراق، حتى لا تبقى العراق مرتعاً للمليشيات الشيعية، لذلك ينبغي ان ينظر إلى العلاقات التركية السعودية على انها عودة طبيعية للعلاقات الاستراتيجية بين الدولتين، وأنها ليست ضد احد، ولا لصناعة أحلاف جديدة، وإنما هي توزان قوى ومصالح لصالح الجميع.

عن الكاتب

محمد زاهد جول

كاتب وباحث تركي مهتم بالسياسة التركية والعربية والحركات الإسلامية


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس