سعيد الحاج - TRT عربي

مؤخراً، نشرت جامعة قدير هاس في إسطنبول تقريرها السنوي عن انطباعات الرأي العام التركي حول السياسة الخارجية للبلاد، والذي تعدُّه بشكل دوري منذ سنوات طويلة. 

التفاصيل الفنية

أجري الاستطلاع بين 3 و 17 من نيسان/أبريل الفائت على 1000 شخص ممن هم فوق 18 من عمرهم في 26 محافظة، عن طريق طرح الأسئلة المعدة مسبقاً عبر مقابلة شخصية مرئية عبر الانترنت.

يتكون الاستطلاع من ثمانية أقسام رئيسة، هي معلومات عن السياسة الخارجية ويتكون من 9 أسئلة، والسياسة الخارجية العامة ويشمل 12 سؤالاً، والعلاقات مع الاتحاد الأوروبي وفيه 19 سؤالاً، والمسألة القبرصية واليونان ويتكون من 5 أسئلة، والعلاقات مع روسيا وفيه 4 أسئلة، والعلاقات مع الولايات المتحدة وفيه 5 أسئلة، والعلاقات مع حلف الناتو ويتضمن 5 أسئلة، وأخيراً العلاقات مع منطقة الشرق الأوسط ويشمل 21 سؤالاً.

في معظم هذه الأسئلة، يرصد أولاً رأي المشارك في الاستطلاع بخصوص سياقات عامة وأحياناً تفصيلية حول الملف المطروح، ثم تقارن الأجوبة المتحصل عليها بين أنصار الأحزاب السياسية المختلفة، وفي بعض الأسئلة المهمة تعقد مقارنة مع نتائج السنوات السابقة.

ومن البديهي أن المقال لن يستطيع تقييم كافة الأسئلة والنتائج بشكل تفصيلي، ولذلك سنكتفي برصد وتحليل بعض أهم الأسئلة ودلالات إجاباتها. 

أهم النتائج

وفق الاستطلاع يؤيد %38.1 من المشاركين السياسة الخارجية لبلادهم في العموم مقابل عدم تأييد %32 منهم.

ورأى %20 من المشاركين أن المشكلة الكبرى التي تواجهها السياسة الخارجية التركية في السنوات الأخيرة هي “مكافحة الإرهاب خارج البلاد”، مقابل %18.3 لصالح “الحرب الأهلية في سوريا” و%10.4 لصالح “وجود حزب الاتحاد الديمقراطي/وحدات حماية الشعب في سوريا”.كما تصدرت إجابتا “الإرهاب العابر للحدود” و “الحرب في سوريا” إجابات سؤال “أهم المشاكل التي ستواجهها السياسة الخارجية في العقد القادم” وبنسبتَيْ %46.6 و%46.1 على التوالي.

في سياق آخر، بلغت نسبة تأييد القواعد العسكرية في دول أخرى %36.8، بينما دعم العمليات العسكرية خارج البلاد %41.2 .

تصدرت أذربيجان قائمة “الدول الصديقة” لتركيا حيث رآها %65.2 من المشاركين كذلك، تليها جمهورية شمال قبرص التركية بنسبة %51.4، ثم أوزبكستان بنسبة %34. وكانت قطر الأولى عربياً والخامسة في هذه القائمة بنسبة %24.6 ثم السعودية في المركز 12  بنسبة %9.2.

في المقابل، رأى %70 من المشاركين الولايات المتحدة الأمريكية ضمن الدول “التي تشكل تهديداً” لتركيا ما وضعها في رأس القائمة، تليها “إسرائيل” بنسبة %66، ثم سوريا بنسبة %65.4. ثم حلت في المراكز التالية على التوالي كل من إيران واليونان وأرمينيا والعراق وروسيا وإنكلترا وفرنسا، وكلها وِفْقَ أكثر من %50 من المستطلعة آراؤهم، كما اقتربت ألمانيا والصين من هذه النسبة.

أيد %53 من المشاركين العلاقات مع الاتحاد الأوروبي، فيما بدت الثقة بحصول تركيا على عضويته أقل بكثير، حيث قال %33.4 إنها ستكسبها، بينما رأى %55.6 إن هناك محاولات لعرقلتها، ورأى %48 إن الاتحاد الأوروبي لا يريد تركيا بسبب “اختلاف الدين والهوية”، ورغم ذلك يدعم %44.9 استمرار مفاوضات الانضمام.

وبخصوص توصيف العلاقة مع روسيا، رأى %17.1 أنها شراكة استراتيجية، و%4.4 أنها تعاون وثيق، و%15.1 أنها تعاون، و %21.6 أنها “لا تعاونية ولا إشكالية”، و%18.9 أنها إشكالية، و%4.4 أنها علاقة عداء. أي أن %36.7 يرونها علاقة إيجابية مقابل  23.3يرونها سلبية و %21.6 لم يرجحوا أياً منهما.

في المقلب الآخر، وصّف %31.5 الولايات المتحدة كدولة غير موثوقة، و %28كشريك استراتيجي، و%14.9 كدولة استعمارية، و %11.4 كقوة عالمية، و%9.1 كدولة عدوة، و%4.8  كدولة صديقة وحليفة. وهكذا يكون ثمة تقييم سلبي بنسبة %55.4 مقابل %44.2 للتقييم الإيجابي لها.

بخصوص العلاقة مع حلف شمال الأطلسي، أيد %55.2 استمرار عضوية تركيا فيه، و%18.8 إنهاءَها، و%15.8 تعليقَ المشاركة في جناحه العسكري، و%10.2 لصالح وقف كافة العلاقات معه.

فيما يتعلق بالشرق الأوسط، رأى %33.9 أن سياسات بلادهم تجاهها ناجحة و%42.9  أنها غير ذلك. كما دعم %31.7 سياسات بلادهم في المسألة السورية، وقال %38.8 إنهم مع بقاء بلادهم على الحياد في القضية السورية. وفي حين أيد %7.4 “تحسين العلاقات” مع النظام، أيد %35.8 “إجراء لقاء مع الحكومة” السورية ورفضه %32.2.

 

قراءة

قبل الخوض في التفاصيل، لعله من المهم الإشارة إلى بعض النتائج التي توحي بمدى مواكبة المستطلعة آراؤهم للسياسة الخارجية، فقد بلغت نسب من “لم يسمعوا من قبل” بمصطلحات مثل S400%47.5، وباتريوت %68.8، وf35%48.8، وإدلب %27.2، والاتحاد الجمركي %78.8، والمنطقة الاقتصادية الخالصة %95.8، مع أنها كلمات مفتاحية لملفات السياسة الخارجية مؤخراً مع مختلف الدول وبخصوص القضايا الأكثر حضوراً.

ثمة زيادة ملحوظة في تأييد السياسة الخارجية لدى الشريحة المستطلعة مقارنة مع العام الفائت، حيث ارتفعت نسبة المؤيدين بنسبة %8.4  وتراجعت نسبة المعترضين بنسبة  %8.8. وقد انسحب ذلك على نسبة تأييد سياسات تركيا المعلقة بالشرق الأوسط بحيث ارتفعت النسبة بأكثر من %11 وتراجع المعارضون حوالي %9.

في الموضوع السوري، الذي رأته الشريحة المشكلة الكبرى التي تواجه تركيا، كانت نسبة التصويت الأكبر لصالح بقاء تركيا على الحياد. ولعل الفارق الكبير بين تأييد “تحسين العلاقات” مع النظام وبين “عقد لقاءات” معه تحيل إلى أن الهدف الأهم هو حماية تركيا من ارتدادات الأزمة السورية وليس الاصطفاف إلى جانب المعارضة السورية مثلاً.

هناك ثبات ملحوظ في المراتب الثلاث الأولى للدول الصديقة وكذلك الدول التي تشكل تهديداً لتركيا. في المقابل، ومع ثبات الولايات المتحدة في مقدمة المهددات، إلا أن النسبة تحسنت عن العام الفائت بشكل ملحوظ، فتراجع التقييم السلبي من %75 إلى %55.5 وارتفع التقييم الإيجابي من %24.1 إلى %44.2.

وفي الإجمال، يمكن رصد تراجع نسبي واضح للولايات المتحدة والدول الأوروبية كمصدر تهديد لتركيا، مقابل ارتفاع نسبة الدول المجاورة مثل سوريا وإيران والعراق وكذلك “دول الشرق” أي روسيا والصين.

من الملحوظات المهمة كذلك التراجع النسبي لتأييد العمليات العسكرية خارج البلاد وكذلك إقامة قواعد عسكرية في دول أخرى، وأن التمايز الحزبي بخصوصها أتى وفق المتوقع حيث كان التأييد الأكبر بين أنصار الحركة القومية والاعتراض الأكبر بين أنصار الشعوب الديمقراطي.

فيما يتعلق بالعلاقة مع الاتحاد الأوروبي، فقد تراجعت النظرة الإيجابية لها عن العام المنصرم بحوالي %8، بينما بدا التشاؤم بخصوص الانضمام للاتحاد مستقراً، وقد كان أنصار الحزب الجيد الأكثر دعماً للعلاقات مع الاتحاد يليهم أنصار الشعب الجمهوري.

نسبة دعم استمرار مفاوضات الانضمام تراجعت عن العام الفائت على صعيد أنصار كل الأحزاب الخمسة الكبيرة، كما رجح جميعهم باستثناء أنصار الشعوب الديمقراطي بأن يكون البديل عن الاتحاد الأوروبي “الاتحاد التركي”.

وفيما تراجعت نسبة النظرة الإيجابية للعلاقات مع روسيا عن العام الفائت بنسبة %17.2 وارتفعت النظرة السلبية بنسبة %12.2، تراجع التقييم السلبي للولايات المتحدة حوالي %20 وارتفع التقييم الإيجابي لها بنفس النسبة تقريباً. وعلى صعيد أنصار الأحزاب المختلفة، تقدم العدالة والتنمية خيار “دولة غير موثوقة” وتقدم الشعوب الديمقراطي خيار “شريك استراتيجي” بينما تقدم الحركة القومية خيار “دول عدو” بخصوص الولايات المتحدة.

 

بنتيجة كل ذلك، يمكن تسجيل الملحوظات الأساسية التالية:

الأولى، تقدم ملفي العلاقات مع الشرق الأوسط والاتحاد الأوروبي على سلم الأولويات، أولاً في الأسئلة من خلال عدد الأسئلة الأعلى من باقي الملفات والدول، وثانياً في الإجابات حيث تصدرتا قائمة المناطق التي ينبغي التركيز عليها مستقبلاً. ولعل ذلك ينبع من كون الأولى هي منطقة الانخراط التركي اليوم سياسياً وعسكرياً، بينما تمثل الأخرى الشريك الاقتصادي الأول والهدف المستقبلي المفترض.

الثانية،أن هناك تقارب واضح بين مختلف الأحزاب التركية حين يتعلق الأمر بالأمن القومي، باستثناء حزب الشعوب الديمقراطي، وهو أمر متوقع ومنطقي. بل ويمتد التقارب أحياناً إلى تعريف الدولة التركية وهويتها والتوقعات بشأن عضوية الاتحاد الأوروبي وغير ذلك.

الثالثة،بمجموع الحرب الأهلية والميليشيات الإرهايبة ومكافحة الإرهاب التي تشمل بالأساس سوريا والعراق،فإن نسبة تقترب من النصف ترى أن الأزمة السورية هي المشكلة الأكبر لتركيا خارجياً، وبارتفاع بسيط عن السنة السابقة. كما أن هذا الانطباع يبدو مستقراً ومستمراً، بالنظر لنتيجة سؤال مشاكل العقد القادم المتوقعة.

الرابعة، تتصدر دول من “العالم التركي” قائمة الدول الصديقة لتركيا وليس أعضاء حلف الناتو أو الجيران في الإقليم، وبشكل ثابت ومتكرر عبر السنوات، ولعله أحد تمظهرات القول التركي المأثور “لا صديق للتركي إلا التركي”.

الخامسة،أن ثمة تغيراً ملحوظاً في تقييم العلاقات مع مختلف الدول بين العامين الفائت والحالي لصالح الغرب، أي الولايات المتحدة والدول الأوروبية، على حساب دول الجوار والصين وروسيا، وخصوصاً الأخيرة.

السادسة، ولعلها الأهم، ترتبط بأسباب هذه التغيرات ومدى علاقتها بالقرار السياسي أو توجهات الدولة/الحكومة. يتضح من مقارنة نتائج السنوات الأخيرة أن الرأي العام يتأثر بالتطورات السياسية وكذلك بالخطاب الحكومي الرسمي أكثر من تأثيره فيهما، كما يتضح من مثال العلاقات مع القوى العظمى والتكتلات الدولية.

فمثلاً، كان عام توقيع اتفاقية إعادة اللاجئين بين تركيا والاتحاد الأوروبي- 2016 – الأعلى في السنوات الأخيرة على صعيد دعم عضويتها فيه. بينما كان 2017الأدنى على الإطلاق إذ كان العام الأكثر توتراً بين الطرفين، بسبب تزامن انتخابات عدد من الدول الأوروبية مع الاستفتاء الشعبي في تركيا بشكل رئيس. وبينما ارتفعت النسبة خلال السنتين الماضيتين بعد تراجع التوتر، عادت وانخفضت نسبياً مع أزمة اللاجئين الأخيرة على الحدود.

 

بشكل مشابه، واضح أن الاختلافات مع روسيا والتي أدت إلى توتر نسبي مؤخراً في إدلب ثم في ليبيا قد أقلت بظلالها على تقييم العلاقات معها ومع الولايات المتحدة، بخلاف السنوات القليلة الماضية التي كان فيها الخلاف مع الولايات المتحدة بخصوص دعهما للميليشيات الكردية يُقابَلُ بتنسيق متزايد مع روسيا في سوريا.

عن الكاتب

سعيد الحاج

باحث في الشأن التركي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس