د. جمال نصار - خاص ترك برس

ليس هناك أدنى شك في أن السيسي وأجهزته الأمنية ضالعين في قتل المعارض المصري المفكر اليساري أمين المهدي، يرحمه الله، وهذه الجريمة سبقتها جرائم أخرى مماثلة، كما حدث مع الصحفي الحر محمد منير، يرحمه الله.

وسبق ذلك قتل المئات في السجون المصرية بالإهمال الطبي المتعمّد، منهم على سبيل المثال لا الحصر؛ الدكتور طارق الغندور (12 نوفمبر/تشرين الثاني 2014)، والدكتور فريد إسماعيل النائب المحترم (13 مايو/أيار 2015)، والقيادي بالجماعة الإسلامية محمد عصام الدين دربالة (9 أغسطس/آب 2015)، والأستاذ محمد مهدي عاكف (22 سبتمبر/أيلول 2017)، المرشد السابق لجماعة الإخوان المسلمين، والدكتور مرسي (17 يونيو/حزيران 2019)، الرئيس المدني المنتخب الوحيد في ظل حكم العسكر، والسيدة مريم سالم (22  ديسمبر/كانون الأول 2019)، والقيادي في جماعة الإخوان المسلمين الدكتور عمر عبد الغني (26 يوليو/تموز 2020)، والدكتور عصام العريان (13 أغسطس/آب 2020)، الرجل النبيل، وغيرهم العشرات ممن قضوا نحبهم داخل السجون مع سبق الإصرار والترصد، والمئات على أرض سيناء من المصريين، بحجة مواجهة الإرهاب، ولن تنتهي سلسلة وجرائم القتل المتعمّد، طالما أن هذا النظام المستبد يحكم مصر!

ماذا فعل أمين المهدي حتى يغتاله السيسي؟!

 آخر كلمات كتبها الكاتب أمين المهدي عبر حسابه على الفيس بوك، في يوم 6 سبتمبر/أيلول 2020، معترضًا على ممارسات السيسي ضد معارضيه، واصفًا إياه بـ "السفاح والخائن واللص والسافل والجبان"، وفضح النظام القمعي المصري، وما يقوم به من انتهاكات بحق مصر والمصريين، وقبل نحو أسبوعين من الإعلان عن كيان معارض جديد يحمل اسم "قادرين"، تم القبض عليه.

ففي يوم 9 سبتمبر/ أيلول قامت قوة أمنية باقتحام منزل الأستاذ أمين المهدى، واعتقاله وهو في كامل صحته وعافيته بدون إبداء أسباب، ليتم إيداعه قسم شرطة الدقي، بحجة قضايا جنائية قديمة وصلت إلى 50 قضية ملفقة، إذ ثبت أنها أحكام سقطت بحكم القانون، وتم تدويره واحتجازه في أقسام الشرطة، على الرغم من أنه رجل في منتصف السبعينيات من عمره في زمن "كوفيد 19"!

وأمضى 3 أسابيع بين أقسام شرطة بالإسكندرية والجيزة بدعوى أنه مطلوب في قضايا ذات طابع مهني غير سياسي، رغم أن ضابطًا برتبة لواء في الأمن الوطني قاد القبض عليه، وصادر الكمبيوتر الخاص به.

وفي يوم 30 سبتمبر/ أيلول وبشكل مفاجئ تقرر النيابة إخلاء سبيله، وهو في بداية حالة مرضية حسب المعلومات التي ذكرها بعض المقربين منه، وازداد المرض غموضًا وقسوة.

وفي 12 أكتوبر/ تشرين الأول صباحًا تزداد حالته سواء، ويتم نقله لإحدى المستشفيات الطبية، ليتم اكتشاف خلل في كل أجهزة الجسم بشكل غير طبيعي وغير عادى، ويتم الإعلان عن وفاته، وسط اتهامات من مقربين منه أنه تم حقنه بمادة سامه أثناء تواجده بالمعتقل.

وفي آخر مقابلة له مع موقع "عربي21"، قال "المهدي" إن "العمليات المسلحة في سيناء لغز كبير مشبوه، في ظل تعتيم كامل أكثر شبهة، خاصة أنها تحدث فقط ضد السكان المسالمين لتبرير الإبادة الجماعية والتهجير القسري لهم، وضد المجندين المساكين الفقراء وشباب الضباط بدون واسطة، وضد الممتلكات المصرية"، قائلًا: "أعتقد أنها فرق موت ومليشيات شكّلها الجيش والسيسي لتنفيذ (صفقة القرن)، وهذا لا يمنع وجود تمرد مسلح محدود".

مؤكدًا أن "أكبر جرائم عبد الفتاح السيسي أنه اختزل الدولة بالكامل سياسيًا وقانونيًا واقتصاديًا وثقافيًا واجتماعيًا في الجيش"، وأن "كل الدول التي اختُزلت في الجيوش ذهبت أدراج الرياح، وربما كانت هذه النتيجة هي هدف السيسي الاستراتيجي".

وطرح "المهدي" وثيقة مبادئ كحد أدنى للتغيير في مصر بهدف "إسقاط جمهورية الإقطاع العسكري المركزية مع المحافظة على مدنية وسلمية كل أنواع الحراك والنضال"، مطالبًا بـ "إعادة هيكلة الجيش ليصبح جيشًا صغيرًا محترفًا حديثًا وظيفته الأساسية التدريب والصيانة، ومناقشة الخطط الدفاعية عن الحدود على أن تكون قواته الضاربة وجسده المقاتل من المجندين الاحتياط، مع إبعاد المؤسسة العسكرية تمامًا عن أي مهام أو طوارئ مدنية داخلية".

كانت هذه هي جريمة أمين المهدي، التي من أجلها تم اغتياله!

من هو أمين المهدي الذي قتله السيسي؟

ولد المهدي في حي الدقي بالقاهرة سنة 1944 لأسرة تنتمي إلى الطبقة الوسطى، وخلال فترة طفولته وشبابه شهد التحولات التي شهدتها مصر تحت الحكم العسكري، وهو ما أثّر بعمق في تحليلاته للأوضاع السياسية والاجتماعية في مصر.

حصل على بكالوريوس كلية الفنون التطبيقية مجال الطباعة، وكان مديرًا لمطابع صحيفة "أخبار اليوم" حتى الاستقالة في العام 1980، ثم أسس دارًا للنشر، وهي الدار العربية للنشر عام 1985، والتي نشرتْ أول ترجمة عربية لرواية القرن العشرين: "يوليسيس".

نشط في حركات المقاومة منذ نهاية السبعينيات وحتى الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، وكان أحد منظمي زيارة وفود النخبة المصرية إلى بيروت عام 1982 لكسر الحصار على المدينة، وخلال تواجده هناك كان من أوائل من دخلوا مخيم صبرا وشتيلا عقب المذبحة المروّعة، وتمكن من توثيق المذبحة بكاميرته، وكانت الصور التي التقطها أول صور يتم تداولها في الإعلام عن المذبحة.

وله كتب عدّة، كُتب سياسيّة تُشرِّحُ الموقف العربي ضد إسرائيل والعالم، تُرجِم أحدُها للعبرية ودُرِّسَ في جامعة برينستون في ولاية نيو جيرسي الأمريكية.

ومن مؤلفاته: كتاب "الجزائر بين العسكريين والأصوليين" (1991)، و"الصراع العربي الإسرائيلي - أزمة الديمقراطية والسلام" (1997)، و"العرب ضد العالم - الأيديولوجيات الشمولية واللاهوت العربي الإسلامي" (2013)، و"الثورة المصرية بين القلعة والمعبد"، و"حضارات حوض المتوسط: جدل الساحل والداخل".

وله 42 دراسة في جريدة الحياة اللندنية من 1999 إلى 2005، وتوقفت نتيجة ضغط النظام المصري على جريدة الحياة، بجانب دراسات نشرت في العديد من الدوريات، والمواقع بالعربية والإنجليزية.

ونعاه الكاتب الصحفي عبد العظيم حمّاد رئيس التحرير الأسبق لصحيفتي الأهرام والشروق بقوله: "أمين المهدي هو بحق من عاش من أجل السلام، ومات من أجل المبادئ، اتفقتُ معه كثيرًا، واختلفت معه كثيرًا - أيضًا - لكن وفاته خسارة كبيرة ومؤكدة".

وقال عنه الصحفي جمال سلطان: "أشعر بالقهر بعد خبر وفاة اليساري النبيل أمين المهدي، اعتقلوه وهو طاعن في السن، ثلاثة أسابيع بين أيديهم كانت كافية لانهيار صحته، أخرجوه سريعًا، مات بأيام، المهدي من أنبل من عرفتهم مصر، سياسيًا وفكريًا، كان جسورًا، يسمي الفاسدين بصفاتهم الصريحة، ويقول للأعور يا أعور، في عينه".

سيل الدماء لن يجف إلا بزوال السيسي

منذ أن وصل السيسي إلى سدة الحكم في مصر، بانقلابه على الرئيس المدني المنتخب محمد مرسي، يرحمه الله، لا تجف الدماء في بر مصر، فهذا الرجل يعشق إراقة الدماء، وخصوصًا من الشباب، وبشكل أخص من التيار الذي انقلب عليه، متمثلًا في جماعة الإخوان المسلمين، التي اعتقل منهم عشرات الآلاف، وقتل الآلاف في اعتصامي رابعة والنهضة، والحرس الجمهوري، والمنصة، وفي العديد من ميادين مصر، كما قتل مئات من الشباب بدم بارد، ولفّق التهم لهم، وشيطنهم بوسائل إعلام مأجورة.

هذا الجنرال لم يترك شيئًا يضر بالمصريين في حاضرهم ومستقبلهم إلا فعله، ولا يزال، وأفقر الشعب المصري، وفرّط في مقدراته وأرضه (تيران وصنافير)، وموارده المائية (نهر النيل)، والطبيعية من الغاز في شرق المتوسط وغيره، وقلّص دور مصر على المستوى الإقليمي والدولي، وأذل المصريين في الداخل والخارج، كما أنه أهان كل مؤسسات الدولة، وجعلها خادمة له، لتحقيق أغراضه وأهوائه، وخصوصًا القوات المسلحة، التي حوّلها هي وجهاز الشرطة إلى مليشيات لمواجهة الشعب المصري، وسيّس مرفق القضاء وحوّله لأداة لقمع المعارضين، وتلفيق التهم لهم بدلًا من أن يقوم بالدور المنوط به لإنجاز العدالة، ورد المظالم إلى أهلها.

أقول على الرغم من الفشل الذي يلاحق السيسي ونظامه في كل مناحي الحياة في مصر، إلا أن ملف الانتهاكات لحقوق الإنسان في مصر يبرز كوصمة عار سوداء على جبين هذا النظام الوحشي الذي لم يترك كبيرة ولا صغيرة، إلا وارتكبها ابتداء من الانقلاب على نظام حكم ديمقراطي، إلى المجازر وجرائم القتل الجماعي، والتصفيات الجسدية بدم بارد، إلى جرائم الاختفاء القسري والزج بعشرات الآلاف من المعارضين في السجون، والمحاكمات الصورية، إلى قمع المتظاهرين، وحرية التعبير وغيرها من الحقوق التي أقرتها المواثيق الدولية.

ومن ثمَّ أتوجه بنداء لكل الحريصين على مصر في الداخل والخارج، من المعارضين، حتى المؤيدين للسيسي، وكل العلماء والمفكرين، من السياسيين والنشطاء، من الشباب والنساء، وإلى كل مصري شريف في كل مؤسسات الدولة المصرية؛ بسرعة التحرك لإزاحة هذا الطاغوت اليوم قبل الغد، لأن استمرار هذا الجنرال على كرسي الحكم في مصر لن يضر بالمصريين فحسب، ولكنه يضر بكل المنطقة العربية، ويؤدي إلى تأخرها لعشرات السنين، ويمكِّن للأعداء من كل مقدرات مصر والمنطقة، ناهيكم عن سيل الدماء التي لا تجف في مصر بحجج واهية.

وكما قال الكواكبي في كتابه طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد: "لرفع الاستبداد يجب توفر الوعي، والمقاومة، والبديل، وذلك عند شعور أفراد الأمة بآلام الاستبداد، ومقاومتهم باللين، والتدريج، وإعداد البديل".

اللهم بلّغت.. اللهم فاشهد.

عن الكاتب

د. جمال نصار

كاتب ومفكر مصري، أستاذ الفلسفة والمذاهب الفكرية المشارك في جامعة اسطنبول صباح الدين زعيم، وباحث أول سابق في مركز الجزيرة للدراسات بالدوحة.


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس