د. سمير صالحة - تلفزيون سوريا

يقول الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إن حملات الإصلاح التي أطلقتها حكومته منذ العام 2002 مستمرة ولن تتوقف. ويشدد على أن "مبدأ سيادة القانون من أهم السبل لتهيئة المناخ المناسب لجلب الاستثمارات ولضمان النمو الاقتصادي والاستقرار في البلاد. لكنه يعود ويذكر بأن هناك حقائق أخرى ينبغي قبولها والتعامل معها على هذا الأساس، النظام العالمي الذي اهتز بسبب الاضطرابات في العالم والمنطقة، وبات يواجه مشكلات أعمق بكثير مع انتشار فيروس كورونا، وأن هذه الصدمات أثرت على تركيا بطبيعة الحال". وأن المسألة مرتبطة أيضا بقوى تصعد ضد تركيا وتحاول إخضاعها عبر الوصاية والإرهاب والانقلابات العسكرية والأزمات السياسية والاجتماعية. هي أدركت فشلها فتوجهت نحو استهداف الاقتصاد التركي".

بعد مرور 18 عاما على وصول حزب "العدالة والتنمية" الذي يتزعمه الرئيس أردوغان للحكم دخلت تركيا في نقاشات جديدة حول خطط إصلاحات لا بد منها في الاقتصاد والقانون والمسار الديمقراطي. لكن لا أحد يعرف بعد كيف ستكون خطط التجديد والإصلاح؟ لمن ستكون الأولويات؟ هل سيطال التغيير الأسماء والبرامج أم ستتوسع الدائرة لإعطاء المعارضة بعض ما تريده في الإصلاحات السياسية الجذرية وبينها مطلب التراجع عن المضي وراء خارطة طريق النظام الرئاسي المعتمد؟

مقربون من الحزب الحاكم يرون أن المواقف الأخيرة التي أعلنها أردوغان فتحت الطريق أمام استقرار مالي واقتصادي سيواكبه حزم الإصلاحات المطروحة على الطاولة التي تهدف إلى استرداد الثقة بالمؤسسات الدستورية والاقتصادية.

المعارضة تقدم المشكلة على أنها تتعلق بمعرفة أسباب الحديث عن الإصلاحات الجديدة مرة أخرى لكن الجميع في تركيا يدرك اليوم أن الأزمات الاقتصادية والمالية باتت مرتبطة بأكثر من عامل داخلي وخارجي يتجاوز موضوع الثقة ويتطلب وضع استراتيجية تحرك متعددة الجوانب. وإن مواجهة وباء كورونا في هذه المرحلة باتت متداخلة مع محاربة أرقام التضخم والبطالة والغلاء ولا يمكن فصلها عن الاستقرار السياسي والإصلاحات القضائية والاجتماعية التي يجري الحديث عنها.

هناك تفاهمات حول ضرورة الإسراع بطرح خطط التغيير والتجديد بين الحكم والمعارضة لكن المشكلة هي أن ما تضعه قيادات العدالة والتنمية من أهداف بعيدة المدى لا يلتقي مع ما تقوله وتريده المعارضة. بولنت أرينش وجميل شيشاك من أبرز شخصيات حزب العدالة والتنمية الناشطة حتى اليوم تتطلع صوب التغيير الحقيقي لأن الاصلاحات الاقتصادية وحدها لن تكفي. الثقة بالعملة الوطنية مفتاحها الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي وليس قرارات المصرف المركزي وحده.

أقوى الانتقادات التي وجهت في الأيام الأخيرة مثلا جاءت من قبل رئيس حزب "السعادة" المعارض تمل كرم الله أوغلو الذي حدد نقطة الانطلاق من أن يلتفت الرئيس التركي إلى من هم حوله في القصر الرئاسي أولا. "إذا أراد أردوغان إجراء تعديلات في الاقتصاد، فعليه البدء بهذه التعديلات من قصره الرئاسي، ومن مؤسسات الدولة والبلديات. القصر الرئاسي ينفق يوميا 10 ملايين ليرة، فيما يقود رئيس بلدية مقاطعة تابعة للحزب الحاكم سيارة قيمتها 4 ملايين ليرة". أصوات وأقلام معارضة تذهب إلى أبعد من ذلك. حزب العدالة يكافح اليوم لمواجهة المشكلات التي سببها لنفسه عندما تراجع عن خطوات الإصلاح التي وعد بها المواطن التركي كما يردد البعض. بعض الأصوات يرى أنه لا يمكن تنفيذ الإصلاحات التي وعد بها أردوغان في ظلّ النظام الوزاري الحالي. تركيا بحاجة إلى برلمان قوي وسلطة قضائية مُستقلّة وصحافة مُستقلّة كما يقول الإعلامي المعارض مراد يتكين. هناك من يقول شيئا آخر. تعلم الحزب الحاكم من أخطائه هي أولوية استعادة الثقة. استرداد الثقة بالاقتصاد تتمثّل في إيجاد أساس جديد للعلاقات مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي كما يرى البعض أيضا.

ميزة حزب العدالة والتنمية هي قدرته على تجديد شعاراته وخططه وإعادة بناء نفسه بشكل سريع خصوصا أن المعارضة لا تملك الخطط والبرامج المقنعة بأنها جاهزة لقيادة البلاد. لكن نقطة ضعفه أيضا هي تمسك المعارضة بطرح فشل خطوات تغيير شكل النظام في تركيا قبل 3 أعوام ومطلب العودة إلى النظام البرلماني والتراجع عن الخطوات السياسية التي وسعت من صلاحية الرئيس أردوغان لقيادة حزبه وموقع الرئاسة في الوقت نفسه ومراجعة القرارات والتدابير المتخذة بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة التي كانت مكلفة على الجميع في تركيا.

المشكلة الآن هي في إيجاد نقطة التقاء تقنع التكتلات الحزبية والسياسية في الحكم والمعارضة بضرورة التفاهم والتنسيق تحت سقف البرلمان والمؤسسات لوضع برنامج إصلاحات سياسية ودستورية واجتماعية تحتاجها البلاد عاجلا وتمتص أجواء الاحتقان السياسي. عندما تتوحد الأحزاب التركية تحت سقف البرلمان في حماية مصالح تركيا الإقليمية في سوريا وليبيا وأذربيجان يمكنها حتما أن تنقل هذه الحالة إلى خلافات ومشكلات الداخل لأن الضرورة لها أحكام.

بقدر ما هناك مبالغة في التقدير والحديث المبكر عن الخروج من النفق وعودة تركيا لهدف التموضع بين الدول العشر الأقوى اقتصاديا في العالم هناك محاولة تضخيم الأمور والتحذير من الكوارث التي تقترب وتهدد بنية الاقتصاد التركي ومؤسساته. لا يكفي رفع مستوى الفائدة واسترداد الليرة لأنفاسها. جلب رؤوس الأموال والمستثمرين من الخارج يحتاج إلى أجواء ثقة وضمانات تقدم. صورة الحزب الحاكم وخطط تحركه مهمة بعد الآن. هناك مطلب النقد الذاتي الذي لم يكتمل بعد على ضوء نتائج الانتخابات المحلية التي جاءت مؤلمة للعدالة والتنمية قبل عام، وهناك رهانات القواعد الشعبية الداعمة للحزب الحاكم على رؤية الجديد في النظرية والتطبيق.

"الوصفة المؤلمة" هو عنوان المرحلة المقبلة في تركيا وهي ستنعكس على الجميع بسلبياتها وأيجابياتها. لكن الثقة بقدرات وطاقات وخبرات حزب العدالة والتنمية ما زالت قائمة حسب غالبية استطلاعات الرأي فهو الذي نجح قبل عقدين في نقل البلاد من مرحلة إلى مرحلة وإيصال تركيا إلى هذا المستوى من الثقل الاقتصادي والسياسي والاستراتيجي في الداخل والخارج.

الظروف اليوم قد تكون ملائمة لمراكز القرار في تركيا للاستعداد للمرحلة المقبلة محليا وإقليميا. مرحلة ما بعد تراجع الوباء واندحاره. المواجهة ستكون حول من الذي سيملأ الفراغ وكيف سيفعل ذلك. وتركيا تملك الخبرات والطاقات التي تستطيع الإجابة على مثل هذه الأسئلة. تركيا ما زالت الدولة الإقليمية النموذج بالنسبة للكثيرين الذين خيبت قياداتهم أمالهم وحجمت طموحاتهم وأبعدتهم عن الموقع والدور.

عن الكاتب

د. سمير صالحة

البرفسور الدكتور سمير صالحة هو أكاديمي تركي والعميد المؤسس لكلية القانون في جامعة غازي عنتاب وأستاذ مادتي القانون الدولي العام والعلاقات الدولية في جامعة كوجالي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس