د. علي حسين باكير - مجلة المجتمع

 خلال العقد الماضي، نما قطاع الصناعات الدفاعية التركي بشكل سريع متجاوزاً القطاعات الصناعية الأخرى الأكثر رسوخاً في تركيا؛ حيث ارتبط التطوّر في مسيرة هذا القطاع برغبة جامحة لدى الحكومة لتحقيق أمرين؛ الأوّل: تخفيف الاعتماد بشكل إستراتيجي على واردات السلاح من الخارج، والثاني: تعزيز استقلالية أنقرة بما يخدم طموح البلاد في ممارسة أدوار إقليمية ودولية أكبر تضعها في عين التطورات الدولية.

لا شك أن طموح تركيا في ممارسة أدوار إقليمية ودولية ليس طارئاً على النخبة السياسية والعسكرية التركية؛ بل يعود إلى حقبة الأزمة القبرصية في السبعينيات من القرن الماضي؛ حينما قامت الولايات المتّحدة الأمريكية بفرض عقوبات على حليفتها في حلف شمال الأطلسي (الناتو) تركيا، تضمّنت حظراً لبيع الأسلحة إليها بسبب رفض أنقرة الوقوف متفرّجة على المذابح التي ارتكبها الشطر الجنوبي من الجزيرة المدعوم من قبل اليونان والغرب ضد القبارصة الأتراك وذلك إبان الانقلاب العسكري الذي جرى في الجزيرة.

أدركت تركيا حينها أنّه لا يمكن الاعتماد على الغرب في تأمين مصالحها الإستراتيجية وحماية الأمن القومي للبلاد حتى ضمن التحالف الواحد، وانطلاقاً من هذا الواقع؛ قررت أنقرة آنذاك المضي قدماً في تطوير صناعة دفاعية وطنية، وبالرغم من أنّ هذا المسار استمر عقوداً، فإنه شهد قفزات كبيرة منذ مجيء حزب العدالة والتنمية إلى الحكم عام 2002م، ومنذ ذلك الحين؛ تمحورت أولويات السلطات التركيّة المتعاقبة حول: تحقيق الاكتفاء الذاتي من الناحية الدفاعية، وزيادة صادرات وعائدات صناعة الدفاع التركية، ورفع مكانة تركيا كقوة صاعدة على المستوى الدولي.

نجاح ملحوظ

أدت السياسات الحكومية الضاغطة إلى تحقيق قطاع الدفاع التركي نجاحاً ملحوظاً في فترة زمنية قصيرة نسبياً؛ حيث ارتفع صافي مبيعاته من 1.85 مليار دولار في عام 2006 إلى حوالي 8.7 مليار دولار في عام 2018م، وخلال الفترة نفسها، ارتفعت صادرات القطاع كذلك من 487 مليون دولار إلى حوالي 2.2 مليار دولار، تبع هذا الصعود تحوّلٌ في علاقة تركيا مع واردات السلاح، إذ انتقلت أنقرة من كونها ثالث أكبر مستورد للسلاح بالعالم في عام 1999م، لتحتل المرتبة 14 كأكبر مصدّر للمنتجات الدفاعية بالعالم في عام 2018م.

في العام نفسه، شهد القطاع أقوى نمو للصادرات بين جميع الصناعات التركية، حيث تجاوزت صادراته عتبة ملياري دولار لأول مرة، وحصل على العديد من صفقات الأسلحة الكبيرة مع الدول الأخرى، بما في ذلك طلبات شراء 30 طائرة هليكوبتر مقاتلة، و4 فرقاطات من قبل باكستان، وفي العام 2018م تمّ تصنيف تركيا على أنها «مصنِّع صاعد» يهدف إلى زيادة قدرات الإنتاج البحرية والجوية والبرية والإلكترونيات، بالإضافة إلى زيادة مستوى إنتاج الذخيرة.

يعكس هذا الوضع طموحات أنقرة الكبيرة في هذا المجال التي سبق لرئيس الصناعات الدفاعية التركية إسماعيل ديمير أن عبّر عنها بقوله: «الهدف الإستراتيجي لأنقرة هو جعل صناعة الدفاع التركية مستقلة بنسبة 100% بحلول عام 2053م، وزيادة قدراتها التصديرية من المنتجات الدفاعية والمعدّات العسكرية إلى 50 مليار دولار، وأن يكون لديها ما لا يقل عن 10 شركات دفاع تركية في قائمة أفضل 100 شركة بالعالم».

وفقاً لتقرير «سيبيري» للتسلّح العالمي لعام 2019م، الصادر في مارس 2020م، انخفضت واردات تركيا من الأسلحة بنسبة 48% بين عامي 2015 و2019م، مقارنة بالسنوات الخمس السابقة، وذلك رغم انخراط القوات المسلحة التركية في مزيد من العمليات العسكرية الداخلية (ضد حزب العمال الكردستاني)، والخارجية (في سورية وليبيا) أكثر من ذي قبل، التراجع في الواردات هو جزء من سياسة تسعى للحد من واردات الأسلحة وتعظيم الاعتماد على الأنظمة المحلية.

في السنوات العشر الماضية، أضافت أنقرة أنظمة دفاع محلية وأسلحة إلى مخزونها أكثر من أي وقت مضى، مما قلّل من اعتمادها على الواردات الأجنبية وزاد نسبة المحتوى المحلي في مشترياتها الدفاعية من 24% في عام 2002 إلى 68.5% في عام 2016م، ترافق ذلك مع دخول عدد أكبر من شركات الدفاع المحليّة في قائمة «سيبري» لأكبر 100 شركة منتجة للسلاح في العالم لعام 2018م، وفي عام 2019م تم إدراج 5 شركات دفاع تركية في تصنيف «ديفنس نيوز» لأفضل 100 شركة دفاعية في العالم.

وفي نهاية ذلك العام، أصدرت الرئاسة التركية للصناعات الدفاعية خطتها الإستراتيجية للفترة 2019 – 2023م، التي تهدف إلى زيادة إيرادات قطاع الدفاع التركي إلى 26.9 مليار دولار، وزيادة الصادرات إلى 10.2 مليار دولار، وتلبية 75% من الاحتياجات العسكرية للبلاد محلياً في عام 2023م، مقارنة بـ65% في عام 2018م، واستناداً لبيانات رابطة مصنّعي صناعة الدفاع والطيران التركية للعام 2019م، التي تمّ نشرها في أبريل 2020م، زادت صادرات القطاع في عام 2019م بنسبة 40.2% لتصل إلى 3.1 مليار دولار، مقارنة بـ2.2 مليار دولار في عام 2018م، كما زادت المبيعات الإجمالية بنسبة 24.2% لتصل إلى 10.9 مليار دولار، مقارنة بـ8.8 مليار دولار في عام 2018م.

في هذه المرحلة بالتحديد، سطع نجم المُسيَّرات التركيّة على المستوى المحلي والإقليمي والدولي كذلك، لاسيما مع القفزات الهائلة التي حقّقتها أنقرة في هذا المجال، المفارقة أنّ هذا التطوّر ما كان له أن يحصل لولا مقاطعة ورفض واشنطن تزويد حليفتها تركيا بالمسيَّرات المطلوبة لمحاربة حزب العمّال الكردستاني الذي صنفته تركيا إرهابياً.

لقد أثبتت المسيَّرات التركية كفاءة وفعالية عالية، وأدّى استخدامها في عقيدة عسكرية جديدة تقوم على دمج المُسيَّرات القتالية في معركة تقليدية، إلى ثورة في مفهوم المُسيَّرات الهجومية من الناحية العملية، وقد اختبرت أنقرة هذا المفهوم في 3 ميادين؛ هي شمال سورية وليبيا وإقليم ناجورونو كارباغ الأذربيجاني المحتل من قبل أرمينيا، وحقّقت إنجازات عسكرية غير مسبوقة، ودمّرت معدّات عسكريّة روسية متطورة وغيّرت معادلات ميدانية وسياسية.

تحديات

وبالرغم من الاستثمار السياسي والاقتصادي والتكنولوجي الضخم، بالإضافة إلى الإنجازات الكبيرة التي تحققت خلال وقت قصير، واجهت -ولا تزال- صناعات الدفاع المحليّة في تركيا تحدّيات كبيرة على أكثر من صعيد، لعل من أبرزها:

1- يُصاحب الارتفاع في حجم صادرات قطاع الصناعات الدفاعية المحلّي من المعدّات العسكرية، ارتفاعٌ مماثل في حجم الواردات من المواد الأوّلية المستخدمة عادة، وهو مؤشّر على الاعتماد الضار والخطير على المواد الخام الأجنبية والمعدات اللازمة للحفاظ على الزخم في عملية الإنتاج في هذا القطاع.

2- هجرة الأدمغة والكفاءات مستمر بالرغم من محاولات تحسين أوضاعهم، إذ يعاني كثير من هؤلاء من عدم توفّر بيئة مناسبة لهم، ولذلك يفضّلون الهجرة إلى الخارج، ويتم استقطابهم في الغالب من قبل شركات أمريكية أو أوروبية مقابل امتيازات كبيرة.

3- المواقف السياسية للحكومة من بعض الأزمات السياسية الخارجية يؤثّر على قدرة بعض شركات الصناعات الدفاعية المحليّة في بيع منتجاتها الدفاعية إلى دول تنظر إلى تركيا بصورة سلبيّة؛ وهو ما يؤثّر في نهاية المطاف على الحد من خيارات التسويق أو البيع لديها.

4- البحث عن أسواق جديدة يعدّ تحدّياً كبيراً خاصّة خارج الأسواق التقليدية الكبرى للسلاح التي تتّخذ في الغالب مواقف سلبية من تركيا.

5- الحاجة إلى استثمارات كبرى جديدة ومستمرة يعدّ كذلك عائقاً أمام قدرة القطاع على الاستمرار مستقبلاً، لا سيما مع التحدّيات الاقتصادية التي تواجهها تركيا، وعدم رغبتها كذلك في فتح القطاع بشكل كامل أمام دول قد تمتلك المال، ولكن مشاركتها قد يشكّل خطراً على القطاع نفسها.  

استمرار هذه التحدّيات من شأنه أن يقوّض الإنجازات التي تحقّقت أو يمنع تطوّر القطاع مستقبلاً، ولذلك يجري الآن محاولة الحد من تداعياتها على القطاع والعمل على معالجتها.

لقد مثّلت جائحة «كورونا»، التي بدأت تنتشر بتركيا في مارس 2020م، تطوّراً غير متوقع وغير مرحب به لصناعة الدفاع، لكن كان لافتاً تعامل القطاع مع الجائحة بشكل ناجح جداً، ومساهمته في الجهود الصحيّة، وكذلك قدرته على جذب مشاريع وصفقات دولية كبيرة في خضمّ الجائحة، أعطت مؤشّراً إيجابياً على مستقبل قطاع صاعد لقوّة صاعدة على الأقل خلال المرحلة القصيرة والمتوسطة.

عن الكاتب

د. علي حسين باكير

مستشار سياسي - باحث في العلاقات الدولية والشؤون الاستراتيجية


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس