سعيد الحاج - الجزيرة

لا تكاد أحاديث الانتخابات المبكرة في تركيا تتراجع حتى تعود لواجهة الأجندة الإعلامية والسياسية في البلاد، خصوصاً على ألسنة أحزاب المعارضة مؤخراً، فيما ما زال حزب العدالة والتنمية الحاكم وحليفه الحركة القومية يؤكدان أنه ليس هناك ما يفرض تبكير الانتخابات وبالتالي إجراءَها في موعدها المقرر عام 2023.

النسق والاستثناء

أتى حزب العدالة والتنمية لحكم تركيا بعد فترة من الأزمات الاقتصادية والانسداد السياسي وانهيار الحكومات الائتلافية، ولذلك كان من أهم أولوياته تحقيق الاستقرار السياسي كشرط للتنمية الاقتصادية، وهو ما كان له.

ولذلك فقد حرص الحزب على إجراء الاستحقاقات الانتخابية في موعدها، كتأكيد على فكرة الاستقرار من جهة، وتجنباً للتأثيرات السلبية لتبكير الانتخابات وحالة الغموض التي تكتنفها على اقتصاد البلاد.

ولذلك فقد أجرى الحزب الحاكم الغالبية العظمى من الانتخابات في موعدها بحيث باتت إحدى مبادئه في الحكم، بينما كان هناك استثناءات فرضتها ظروف استثنائية. ففي عام 2007، وإثر أزمة الانتخابات الرئاسية التي أدت لحالة انسداد سياسي واحتقان شديد انتقل للشارع، دعا العدالة والتنمية إلى انتخابات برلمانية مبكرة تغيرت معها تشكيلة البرلمان وأمكن تجاوز الأزمة وانتخاب رئيس الجمهورية، عبدالله غل آنذاك.

وفي 2018، وبعد إقرار الانتقال للنظام الرئاسي دعا زعيم الحركة القومية دولت بهجلي لتبكير الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المتزامنة للخروج من حالة عدم اليقين التي كانت تعيشها البلاد ولـ”قوننة” حالة النظام الرئاسي التي كانت سارية “فعلياً” بعد انتخاب اردوغان رئيساً عام 2014 والاستفتاء الشعبي على النظام الرئاسي عام 2017، على حد قوله.

بعد الانتخابات البلدية في 2019، والتي تراجع فيها العدالة والتنمية نسبياً وخسر فيها بلديتي أنقرة وإسطنبول، تبنت المعارضة التركية وفي مقدمتها أكبر أحزابها الشعب الجمهوري سردية أن شعبية الرئيس اردوغان وحزبه الحاكم في تراجع شديد فضلاً عن سياقات أخرى مثل الأزمة الاقتصادية ما يدفع لضرورة العودة لرأي الشعب وبالتالي تبكير الانتخابات.

 

عوامل وظروف

صعّبت التعديلات الدستورية التي رافقت إقرار النظام الرئاسي من إمكانية تبكير الانتخابات. إذ تحصل فقط في حال دعا لها الرئيس أو %60 من أعضاء البرلمان أي 360 نائباً، وفي كلتا الحالتين ستكون انتخابات رئاسية وبرلمانية متزامنة. وهو ما يعني خسارة نسبية للرئيس والبرلمان على حد سواء، إذ سيخصم ذلك من المدة التي يحق له فيها البقاء رئيساً، كما أن من لن يعاد انتخابهم من البرلمانيين سيخسرون مقاعدهم في المدة المتبقية كذلك.

وبالتالي، ووفق الظروف الحالية، ليس متوقعاً ولا منتظراً أن يدعو الرئيس لانتخابات مبكرة. فهو لن يريد أن يخصم من المدة التي تحق له رئيساً اليوم (حتى 2023) وفي حال أعيد انتخابه (حتى 2028)، كما أنه لا يريد إجراء الانتخابات في ظل جائحة كورونا المستجد وتبعاته السلبية على الاقتصاد وإنما يريد تأجيلها قدر الإمكان لتحسين الأوضاع الاقتصادية، لا سيما وأن بعض مؤشراتها آخذة بالتحسن مؤخراً بعد التغيرات التي طرأت على بعض المناصب المرتبطة بالملف المالي.

رغبة الرئيس بتجنب سيناريو الانتخابات المبكرة تبدو محميّة بتحالفه مع الحركة القومية الذي يشمل ما يقرب من 340 نائباً في البرلمان، بينما لا يتخطى تحالف المعارضة في حدّه الأقصى ومضافاً إليه نواب الشعوب الديمقراطية (غير المنضم للتحالف رسمياً) وبعض المستقلين 260 نائباً. ما يعني أن تبكير الانتخابات سيتطلب بالضرورة تغيراً جذرياً في البلاد في سياق ما، على صعيد وحدة العدالة والتنمية و/أو تحالفه مع الحركة القومية و/أو تطورات تساهم في تغيير الرئيس رأيه.

أيضاً، يدرك اردوغان بأن شعبية حزبه قد تراجعت نسبياً مؤخراً، وأنه لأول مرة أمام أحزاب خرجت من عباءته ويرأسها قياديون سابقون في حزبه، ما يدفعه لأولوية ترتيب بيته الداخلي قبل التوجه لأي استحقاق انتخابي، حيث سرّع من مؤتمراته الحزبية على مستوى المحافظات ومن المفترض أن يعقد الحزب مؤتمره العام قريباً.

إضافة لكل ما سبق، ما زال أمام البرلمان الحالي مهمة سن قانون جديد للأحزاب وآخر للانتخابات وما يتعلق بها مثل التحالفات والعتبة الانتخابية. ويشترط الدستور ألا تجرى الانتخابات قبل مرور عام على الأقل من أي تعديل يتعلق بها، ما يعني استبعاد إجراء الانتخابات المبكرة في 2021 كاملاً على أقرب تقدير.

 

احتمال قائم

إذن، مما سبق، ليس لدى التحالف الحاكم الرغبة ولا لدى المعارضة القدرة على الذهاب لانتخابات رئاسية وبرلمانية مبكرة، لا سيما قريباً جداً، في 2021 على سبيل المثال. بيد أن بعض السياسيين والإعلاميين الأتراك باتوا يفضّلون التمييز بين “الانتخابات المبكرة” والتي تعني قراراً وشيكاً بتبكير الانتخابات وبين “انتخابات قبل موعدها” أي تبكيرها قليلاً عن موعدها في 2023.

وهنا، تستبعد معظم التقييمات الخيار الأول، بينما يرجح بعضها الخيارَ الثاني. بمعنى أن نسبة قليلة فقط من المتابعين والمحللين يتوقعون إعلاناً قريباً عن انتخابات رئاسية وبرلمانية مبكرة، بينما نسبة لا بأس بها ترى أن ظروف البلاد قد لا تمكنها من الصمود حتى تشرين الثاني/نوفمبر 2023، موعد الانتخابات الدورية. فما هي العوامل التي قد تدفع لذلك؟

أولاً هناك الاقتصاد، إذ يمكن لأي أزمة اقتصادية إضافية وقوية أن تساهم في تبكير الانتخابات كحل لها خصوصاً أنها قد تؤدي لديناميات اجتماعية وسياسية كثيرة، أما في غياب أي أزمة جديدة وفي حال استطاعت الحكومة تحسين المؤشرات الاقتصادية فإن ذلك مستبعد إلى حد كبير.

وثانياً هناك التحالف بين العدالة والتنمية والحركة القومية الذي يبدو متماسكاً حتى اللحظة في ظل حرص ملحوظ من الجانبين على استمراره بما يؤمن لاردوغان أغلبية في البرلمان رافضة للتبكير. إلا أنه لا يمكن إنكار تاريخ بهجلي المتقلب بين المواقف السياسية، فضلاً عن مرضه وتقدمه في السن، بما يطرح احتمالية حدوث اضطراب في التحالف معه أو بعده، رغم أنه احتمال ضئيل حالياً.

وثالثاً هناك سعي دؤوب من التحالفين الرئيسين في البلاد للتأثير على بعضهما البعض بهدف الإضعاف والتشتيت. إذ يركز تحالف “الجمهور” الحاكم على علاقة الشعب الجمهوري بالشعوب الديمقراطية (المرتبط بدوره بالعمال الكردستاني) للتأثير على الحزب الجيد ذي الميول القومية، كما يسعى لجذب حزب السعادة إلى جانبه. في المقابل، يركز تحالف “الأمة” المعارض وكذلك الأحزاب المتشكلة حديثاً على دولت بهجلي والحركة القومية للتأثير على صلابة تحالفه مع اردوغان.

ورابعاً هناك الأحزاب الجديدة، تحديداً حزبا المستقبل والتقدم والديمقراطية بقيادة داود أوغلو وباباجان على التوالي، واللذان لا يشكلان حتى اللحظة تهديداً حقيقياً للعدالة والتنمية. بيد أنهما إن تمكنا من اجتذاب عدد من نواب العدالة والتنمية الحاليين – وهو احتمال ضعيف كذلك – قد يساهمان في تعديل التوازنات داخل البرلمان. من جهة أخرى، قد يذهب اردوغان بنفسه لقرار الانتخابات المبكرة لقطع الطريق على هذه الأحزاب الصغيرة إذا ما شعر بأن فرصها – وفرص المعارضة في العموم – في 2023 ستكون أفضل، في سيناريو مشابه لفكرة تبكير الانتخابات البرلمانية في 2018 في محاولة لقطع الطريق على الحزب الجيد المنشق عن الحركة القومية.

ختاماً، وبالنظر للمعطيات الحالية والمتطلبات القانونية، تبدي المعارضة التركية وخصوصاً حزب الشعب الجمهوري رغبة ملحّة في إجراء انتخابات مبكرة قريباً، استثماراً لعدة تطورات حدثت مؤخراً، إلا أنها عاجزة اليوم عن فرض ذلك. ومما يؤكد ذلك التصدعات الأخيرة في حزب الشعب الجمهوري الذي استقال من عضويته ثلاثة أعضاء في البرلمان وينتظر أن يؤسس القيادي فيه ومرشحه السابق للانتخابات الرئاسية محرّم إينجة حزباً سياسياً سيؤثر بالتأكيد على وحدته وقوته بدرجة أو بأخرى.

في المقابل، فإن تصريحات اردوغان وبهجلي، زعيما التحالف الحاكم، تؤكد المرة تلو المرة أن هذا الخيار غير مطروح حالياً وأن الانتخابات ستجرى في موعدها، بل إن الأخير حذر قبل أيام من أن “محاولة فرض الانتخابات المبكرة على تركيا تستهدف جرها إلى الفوضى”.

وعليه، فإن سيناريو تبكير الانتخابات قبل موعدها في تشرين الثاني/نوفمبر 2023 رهن بحدوث تطورات كبيرة في البلاد قد تؤدي لتغيير قناعة التحالف الحاكم وخصوصاً اردوغان، أو تؤثر على متانة التحالف القائم بين العدالة والتنمية والحركة القومية، أو على خريطة الأحزاب وتوازنات التحالفات تحت قبة البرلمان، وهو ما تغيب أي مؤشرات حقيقية على أي منها حتى اللحظة.

ولذلك، وما لم تحصل أحداث كافية لتفعيل أحد هذه المسارات الثلاثة، فإن الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في تركيا ستجرى في موعدها خريف 2023، وإذا ما حصل تبكير فإن سيكون جزئياً وهامشياً، بمعنى التبكير أشهراً ربما وليس سنيناً بالضرورة.

 

عن الكاتب

سعيد الحاج

باحث في الشأن التركي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس