ياسين أقطاي-الجزيرة نت

في خطوة مفاجئة أعلن الرئيس رجب طيب أردوغان أن الوقت قد حان لوضع دستور جديد للجمهورية التركية، وهو ما خلف جدلا ونقاشا كبيرين في تركيا.

وفي الواقع بات من المعروف أن أعضاء المجلس التنفيذي لحزب العدالة والتنمية كانوا يعملون منذ فترة على إعداد حزمة إصلاحات شاملة، وهو ما خلق حالة من الترقب وفتح الباب أمام التكهنات في صفوف الرأي العام، ولكن لا أحد توقع أن يصل حجم هذه الإصلاحات إلى سن دستور برمته.

هذا التوجه من أردوغان نحو رفع سقف التوقعات من خلال الحديث عن دستور جديد يمكن ربطه بشخصيته الثورية التي تعود عليها الشعب منذ البداية.

ويكفي النظر إلى السنوات الماضية لنتذكر الفوائد التي جلبتها الإصلاحات الدستورية التي قام بها حزب العدالة والتنمية خلال مسيرته السياسية.

وبشكل عام، تشير كلمة الدستور إلى العقد الاجتماعي، ولكن على أرض الواقع نادرا ما تلتقي مجموعات من المواطنين أو عناصر المجتمع لوضع هذا الدستور بشكل مشترك، إذ إنه في الأغلب يتم فرض الدساتير على الشعوب من قبل السلطة القائمة.

ففي ظروف مماثلة تم وضع دستور 1921 الذي لم يسأل فيه الشعب عن رأيه، وهذا الدستور تم إلغاؤه في 1924 مرة أخرى دون وضعه أمام الاستفتاء الشعبي، وقد قرر حينها القادة الجمهوريون وضع ذلك الدستور الذي يلغي الخلافة والسلطنة.

بعد ذلك، قام الجنود الذين نفذوا انقلاب 1960 بوضع دستور آخر، تم هو أيضا تعويضه بعد انقلاب عسكري آخر في 1980، وهو الدستور المطبق حاليا رغم أنه شهد العديد من التغييرات، إذ إن تركيا شهدت الكثير من التغييرات التي أدخلت على الدستور الحالي منذ التصديق عليه في نسخته الأولى عام 1982.

وقد كانت مثل هذه التغييرات في طليعة خطاب كل الأحزاب السياسية، سواء كانت من اليمين أو من اليسار، ولكن لم يكن ممكنا إحداث هذا التغيير بسبب الخوف من ردة فعل العسكر.

وبفضل نجاح حزب العدالة والتنمية في تطبيع العلاقة بين المؤسسة العسكرية ومؤسسات الحكم المدني تلاشت هذه المخاوف، ولكن المشكل الجديد الذي ظهر هو استحالة تجميع الأحزاب السياسية والاتفاق على أغلبية لتمرير الدستور، وجل ما أمكن القيام به هو إصلاحات جزئية دون إمكانية وضع دستور جديد.

كما أن كنعان إيفرين وأصدقاءه -الذين خططوا للانقلاب العسكري وفرضوا الدستور على الشعب التركي- خضعوا للمحاكمة والإدانة بموجب الفصل الـ26 من الدستور المعدل، وذلك في 12 سبتمبر/أيلول 2010 الذي يصادف ذكرى الانقلاب، ليتم حينها تفكيك صفوف هؤلاء الانقلابيين وتجريدهم من كل الرتب التي حصلوا عليها بعد فعلتهم.

ويمكن القول إنه رغم تحقق العديد من التغييرات الراديكالية فإن جوهر الدستور بقي كما هو، أي كما وضعه الانقلابيون، وإضافة إلى ذلك فإن التعديلات الدستورية في 2017 مكنت من الانتقال من النظام البرلماني إلى الرئاسي.

هذا التغيير بدا للكثيرين بمثابة وضع دستور جديد، ولكن ذلك لم ينف أن دستور الانقلاب العسكري الذي يعود للعام 1982 لا يزال هو المعمول به، وهو ما يثير حفيظة الكثير من مكونات المجتمع.

واليوم، بعد أن كان الجميع ينتظر إصلاحات جزئية أطل أردوغان ليرفع سقف التوقعات ويعلن عن "دستور جديد"، وهو ما أثار اهتمام الجميع وفتح الباب أمام الجدل.

وبالطبع كانت ردة الفعل الأولى لأبرز أحزاب المعارضة هي طرح أسئلة من قبيل "كيف لحزب العدالة والتنمية الذي ظل في السلطة 19 عاما أن يتذكر الآن أنه يجب القيام بهذه التعديلات؟".

هذا السؤال يبدو مستغربا باعتبار أن الحزب قام فعلا بإصلاحات متواصلة منذ وصوله لسدة الحكم، فقد أجريت خلال هذه السنوات العديد من التعديلات في مجالات متنوعة مرتبطة ببرنامج الاندماج في الاتحاد الأوروبي، وفي 2007 تم تمهيد الطريق لانتخاب الرئيس من قبل الشعب من خلال وضع هذا المقترح للاستفتاء الشعبي وحصوله على الموافقة.

يذكر أنه قبيل ذلك التعديل كادت الانتخابات الرئاسية تتسبب بانقلاب عسكري، حيث وجه الجيش رسالة شديدة اللهجة يتهم فيها حزب العدالة والتنمية بعدم احترام قيم العلمانية، إلا أن رد قيادة الحزب الحاكم جاء على أرض الواقع من خلال فرض الإصلاحات.

وقد اعتبر المتحدث باسم العدالة والتنمية في أبريل/نيسان 2017 أن "الجيش يتدخل في السياسة، والجندي لا يفترض به أن يتمتع بالسلطة ولا الحق لإقرار من الذي يكون الرئيس".

وأمام هذه المواجهة بين حزب العدالة والتنمية والانقلابيين قال الشعب كلمته مجددا خلال الاستفتاء، وتمكن الناس من انتخاب رئيسهم، ثم شرع الحزب في الإعداد لحزمة إصلاحات جديدة ووجهت أيضا بتعطيلات من بعض القضاة وأصدقاء الانقلابيين، إلا أن الحزب تمكن مجددا من تجاوز هذه العراقيل بفضل اعتماده على الدعم الشعبي، وبفضل القيادة السياسية الشجاعة لأردوغان.

ويمكن القول إن الإصلاح الدستوري ليس فكرة خامرت حزب العدالة والتنمية اليوم، بل هي أسلوبه السياسي منذ البداية.

وتعد الهوية الإصلاحية لهذا الحزب واحدة من أهم الأفكار التي بني عليها، وهي ترتبط ببنية وديناميكية المجتمع التركي الذي يتطور باستمرار وتتطور احتياجاته للتغيير والتجديد، وبسبب هذا التطور المستمر فإن التغييرات التي تصلح لفترة قد تفقد صلاحيتها بعد سنوات.

لذلك، فإن السياسات الإصلاحية لحزب العدالة والتنمية لم تكن خطوة واحدة اتخذت في وقت واحد، بل إن الإصلاح قد يكون أحيانا منبعه المشاكل التي تظهر أثناء ممارسة السلطة، وفترة 19 عاما كافية جدا لتجربة الحكم ومعرفة ما يلزم من تغييرات وتحديثات، والشيء المهم هو القدرة على رؤية الضرورات والتفكير فيها وتشخيص مواطن الضعف والخلل في النظام السياسي أو في السلطة الحاكمة.

والآن، تتجه كل الأعين نحو هذا الدستور الجديد الذي يتحدث عنه أردوغان، وتدور التساؤلات حول حجم ومحتوى هذه الوثيقة الجديدة.

وما أكده أردوغان قبل كل شيء هو أنه سوف ينضبط للروح المثالية للدساتير، بمعنى آخر فإن هذه الوثيقة الجديدة سوف تكون عقدا اجتماعيا حقيقيا يعزز السلام الداخلي ويقوي روابط الثقة بين الشعب ويزرع شعورا بالانتماء بين المواطن والدولة، وذلك من خلال المشاركة الفعلية لكل فئات الشعب في النقاشات الدائرة لإنتاج عقد جديد يمكن لكل مواطن أن يقول عنه "هذا دستوري".

عن الكاتب

ياسين أقطاي

قيادي في حزب العدالة والتنمية التركي الحاكم


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس