د. علي حسين باكير - عربي 21

قال وزير خارجية تركيا أمس أنّ أنقرة تخطّط لاستضافة اجتماع في إسطنبول بشأن عملية السلام في أفغانستان باعتباره مكمّلاً لمحادثات الدوحة وأعر ب عن نيّة بلاده تعيين ممثل خاص لأفغانستان للدفع بعملية السلام قدماً إلى الأمام.

وأضاف الوزير أنّ تركيا على تواصل مع مصر على مستوى الاستخبارات والخارجية وأنّه لا يوجد ما يمنع تحسين العلاقات مع الرياض وفي حال كانت هناك خطوات إيجابية من الجانب السعودي فإنّ تركيا ستقابلها بالمثل وأنّ الأمر ذاته ينطبق على الإمارات. 

هذه التصريحات لم تأت منفصلة وإنما ضمن سياق يتبلور سيئا فشيئا مؤخراً، اذ شرع المسؤولون الأتراك الأكثر قرباً من رئيس الجمهورية كالناطق باسم رئيس الجمهورية ووزير الخارجية ووزير الدفاع الى إطلاق سلسلة من التصريحات المحمّلة بالرسائل السياسية في مختلف الإتجاهات بما في ذلك ما يخص العلاقة مع مصر والسعودية واليونان وإسرائيل وغيرها من الدول.

يترافق ذلك مع الاجتماع الثلاثي الذي جرى في الدوحة بين وزير خارجية قطر ونظرائه الروسي والتركي، والاستعدادات لعقد جولة مباحثات مباشرة بين الأتراك واليونانيين في أثينا والتحضير لمباحثات أممية تتعلق باستكشاف الحلول الممكنة للأزمة القبرصية.

هذه التصريحات تستجيب لثلاثة معطيات رئيسية أوّلها التحوّل في البيئة الدولية والذي بدأ مع فوز بايدن في الانتخابات الأمريكية نهاية العام الماضي. فوز بايدن غيّر من دون شك التصوّرات التي كانت قائمة لدى العديد من دول المنطقة بما في ذلك القوى الإقليمية حول طبيعة العلاقة مع الولايات المتّحدة الأمريكية من جهة، وكيفية مواجهة الضغوط المحتملة القادمة منها، فضلاً عن الوسائل اللازمة للتعامل مع تراجع أهمّية المنطقة في الأجندة الاستراتيجية الأمريكية. 

المعطى الإقليمي، وهو معطى مرتبط بالعامل الأول. باستثناء الملف النووي الإيراني، فإنّ منطقة الشرق الأوسط وأزماتها كالملف السوري أو اليمني او الليبي أو الأزمة شرق البحر المتوسط. الخ ليست أولويّة بالنسبة إلى هذه الإدارة. واشنطن لديها كمّ هائل من المشاكل الداخلية، وتعاني من أزمة اقتصادية وأخرى سياسية واجتماعية حيث الانقسام العميق الأفقي والعامودي في المجتمع، وفضلاً عن ذلك فهي تواجه تحدّياً استراتيجياً يتعلّق بالصعود الصيني السريع. 

في حقيقة الأمر لم يَرِد إسم سوريا على سبيل المثال في أي الوثائق المعتبرة الخاصة ببايدن لا تلك التي تمّ إعداداها قبل فوزه ولا تلك التي تمّ إعدادها بعد تشكيل إدارته، وكذلك الأمر بالنسبة إلى القضايا الأخرى. فباستثناء الرغبة في ممارسة الضغط على السعودية لإنهاء الحرب اليمينة، لا يوجد أي خطّة أو رغبة في الانخراط إلا بقدر ما قد يفيد ذلك الاتفاق المحتمل الأمريكي ـ الإيرانية. هذا يعني أنّه سيكون على القوى الإقليمية ومن بينها تركيا أن تتحمّل بشكل كبير عبئ حل هذه الأزمات وأن تأخذ على عاتقها زمام المبادرة. هذا الأمر يتطلّب حدّاً أدنى من التنسيق بين القوى الإقليمية. 

أمّا المُعطى الثالث، فهو معطى محلّي بامتياز وإن كان قد تأثّر كذلك بالمعطيات الدولية والإقليمية المستجدّة مؤخراً. مع استقالة صهر أردوغان براءة البيرق من منصبه بداية تشرين الثاني (نوفمبر) من العام الماضي، شرعت أنقرة في إعادة صياغة سياسة اقتصادية جديدة. ترافق ذلك مع طرحها ملفات كبيرة للنقاش وإعادة النظر كملف وضع دستور جديد للبلاد، وحزمة الإصلاح الاقتصادي، والمفاوضات على فصل جديد من فصول الانضمام الى الإتحاد الأوروبي. كما لوحظ محاولة أنقرة إحياء دبلوماسية الوساطات في أفغانستان وأثيوبيا وغيرها من المناطق، ما يعني محاولة التموضع بعيداً عن الاستقطابات الحادة في الملفات الشائكة إقليمياً.

هذه التحوّلات ليست مقتصرة على الجانب التركي، بل تمتد لتشمل جميع القوى الإقليمية دون إستثناء. ولذلك، فإن أنقرة تعي تماماً أنّ رسائلها الإيجابية ستُدرس هي الأخرى بعناية نظراً لأنّ المتلقي يأخذ بعين الاعتبار هو الآخر التحوّلات الثلاثة السابقة الذكر، وحاجته إلى تحقيق مصالحه في نهاية المطاف والتي غالباً ما تتقاطع مع تركيا في عدد من الملفات سواءً تعلّق الأمر بمصر أو السعودية أو إسرائيل أو إيران.  

من المهم بمكان أن نعي كذلك أنّ الانخراط في مباحثات ثنائية أو متعددة الأطراف أو تحقيق انفراج أو تراجع في حدّة التصريحات لا يعني أنّه سيحصل إتفاق سريع بالضرورة، فالمسائل معقدّة وتأخذ بعض الوقت وتحتاج إلى نيّة صادقة وإدارة سياسية ومصالح متبادلة. 

لا يعني هذا بطبيعة الحال أنّ أنقرة ستتخلّى عمّا تراه ثوابت في سياساتها، لكنّ التركيز سيكون على ما يجمع من الملفات المشتركة وعلى قاعدة الربح المتبادل خاصّة أنّ هناك مصالح حقيقية وغير مصطنعة بين تركيا ومصر وتركيا والسعودية على وجه الخصوص، ومن الممكن البناء عليها بشكل سريع حال كان هناك إرادة سياسية عند الأطراف المعنيّة. 

أيضاً سيكون علينا أن نتوقع دوماً وجود عراقيل وأدوار سلبية لبعض الدول التي قد تفضّل رؤية هذه الأقطاب تتصارع في المحيط الإقليمي في بينها بدلاً من أن تبني على المصالح المشتركة. حتى الآن، أخذت التحوّلات الجارية في الإقليم طابعاً تكتيكياً بما في ذلك المصالحة الخليجية، لكنّ تحقيق مصالحات أوسع ومد الجسور بين القوى الإقليمية والبناء على المصالح المشتركة سيساعد بالتأكيد على تمتين المخرجات السابقة والبناء عليها بشكل أعمق مستقبلاً وإلاّ فإنّ الوضع الإقليمي ستيلّ عرضة للتقلّبات بفعل المؤثرات الخارجية خلال المرحلة المقبلة. 
 

عن الكاتب

د. علي حسين باكير

مستشار سياسي - باحث في العلاقات الدولية والشؤون الاستراتيجية


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس