د. علي حسين باكير - عربي 21

قبيل اتفاقية العلا التي أدّت إلى حلحلة الوضع الخليجي نسبيا بعدة أشهر، حصلت انفراجة في العلاقات التركية-السعودية تمثّلت بعدّة رسائل متبادلة كان من بينها بيان تعزية وتضامن من قبل وزارة الخارجية السعودية بخصوص زلزال إزمير في تشرين الأول (أكتوبر) من العام الماضي والذي خلّف عدداً من الضحايا ودماراً في البنية التحتيّة. بعد ذلك بأسبوع تقريباً، نشرت وكالة الأنباء السعودية خبراً يقول إنّ الملك سلمان وجّه مركز سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية لمساعدة الأشقاء في تركيا.

رسائل إيجابية

تقاطعت هذه الخطوات مع جهود إعادة التموضع التي بذلتها السعودية للتحضير لنتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية آنذاك في تشرين الثاني (نوفمبر) من العام ٢٠٢٠. وبالفعل، في نهاية تشرين الثاني (نوفمبر) من ذلك العام، أجرى العاهل السعودي الملك سلمان اتصالاً هاتفياً بالرئيس أردوغان حيث اتفق الطرفان على إبقاء قنوات التواصل مفتوحة لتطوير العلاقات الثنائية وتجاوز العقبات. وأدلى وزير الخارجية فيصل بن فرحان بتصريح لوكالة رويترز قال فيه إنّ العلاقات مع تركيا جيدة نافياً أن تكون هناك مقاطعة للبضائع التركية في المملكة.

أدّت هذه الرسائل الإيجابية إلى سلسلة من التطورات المهمّة على صعيد تحقيق انفراجة في العلاقة بين البلدين لأوّل مرّة بعد أن كانت قد تأزّمت إثر اغتيال جمال خاشقجي في قنصلية بلاده في إسطنبول. في ختام قمّة العشرين التي استضافتها السعودية افتراضياً، هنّأ الرئيس أردوغان الملك السعودي على نجاح القمّة.

وبعدها بحوالي خمسة أيام التقى وزير الخارجية التركي بنظيره السعودي فيصل بن فرحان على هامش القمة الـ ٤٧ لمنظمة التعاون الإسلامي على مستوى وزراء الخارجية، حيث تباحث الطرفان في المسائل الثنائية والإقليمية والدولية، وأكّد تشاووش أوغلو خلال اللقاء على أهمّية العلاقات الثنائية مع السعودية، مشدداً على أنّ اللقاء كان لقاءً صادقاً وأنّ علاقات تركية-سعودية قويّة من شأنها أن تصب في صالح المنطقة برمتّها.

وكان من المفترض أن تحصل لقاءات أخرى على مستوى التقنيين في البلدين بعد هذا اللقاء، لكنّ ذلك لم يحصل. فخرج وزير الخارجية مولود تشاووش أوغلو بتصريحات يشير فيها إلى أنّه "بالنسبة لنا لا يوجد أي سبب يمنع تحسين العلاقات مع المملكة العربية السعودية"، مضيفا أنه "في حال أقدمت السعودية على خطوات إيجابية فسنقابلها بالمثل والأمر ذاته ينطبق على الإمارات" على حد قوله.

قرارات مفاجئة

لكن وبدلاً من أن نشهد تقدّماً، تفاجأ البعض بالتقارير التي تتحدث عن استمرار عرقلة السلطات السعودية للتجارة مع تركيا والضغط على التجار السعوديين لمقاطعة المنتجات أو تأخير وصولها أو حتى تأخير معاملاتها. وقد نشرت بعض المواقع حينها تصريحات في شهر آذار (مارس) الماضي أشارت إلى أنّ تركيا سترفع شكوى ضد السعودية في منظمة التجارة الدولية بسبب اتخاذ السلطات هناك إجراءات للتجارة الحرة. 

كان ذلك بمثابة رسالة، لكن لم يحصل أي تغيير في الموقف السعودي. وبالفعل، قامت أنقرة وفقاً لما نشرته صحيفة "صباح" قبل عدّة أيام بتقديم شكوى بخصوص السلوك السعودي إلى منظمة التجارة العالمية بعد أن أشارت إلى أنّها كانت قد رفعت ثلاثة كتب إلى وزير التجارة السعودي ماجد القصبي تطالبه فيها بإنهاء هذه الممارسات.

المفارقة أنّ توقف مسار التطبيع مع السعودية ترافق مع انفراجة في مسارات أخرى لعلّ أهمّها العلاقة مع مصر، وذلك بالرغم من أنّ العلاقة مع القاهرة تعتريها مشاكل تفوق بمراحل تلك الموجودة مع السعودية. كما تبيّن أنّ هناك حراكا على مسارات أخرى منها اليونان وإسرائيل وحتى الإمارات.  

هناك ثلاثة عوامل باعتقادي أدّت إلى إيقاف عملية التطبيع عند الحد الذي وصلت إليه وهي:

أولا ـ علينا أن نأخذ بعين الاعتبار دوماً أنّ العملية التصالحية التي حصلت مؤخراً في الخليج لم تأت من قناعة راسخة لدى الأطراف المعنيّة بها بأنّهم ارتكبوا خطاً أو خطيئة ضد قطر ودول المنطقة، وإنما جاءت استجابة لمتطلّبات واقعية وظروف قاهرة أملتها عليهم عدّة عوامل لعل أهّمها خسارة ترامب ومجيء بايدن إلى السلطة في البيت الأبيض بالولايات المتّحدة الأمريكية.
 
لقد كانت السعودية ـ كما غيرها ـ تتوقع ضغوطاً كبيرة من إدارة بادين، ولذلك فقد كان التوجّه نحو تركيا أحد الخيارات المتاحة للرياض، لكن ضغوط بايدن على السعودية كانت دون المستوى، ما أعطى السعوديين انطباعاً بأنّهم غير مضطرين الآن للانفتاح على تركيا بانتظار التطورات التي قد تحصل لاحقاً. وبهذا المعنى، فإنّ جزءاً من عملية التطبيع بين تركيا والسعودية يرتبط بطبيعة العلاقة بين السعودية والإدارة الأمريكية الحالية. 

ثانياً ـ بالرغم من اتّساع الهوّة مؤخراً بين مصالح الدولة السعودية ومصالح الإمارات في عدد من الساحات الإقليمية، فلا يزال هناك اعتقاد سائد بأنّ ولي عهد أبو ظبي لا يزال يمتلك تأثيراً على ولي العهد السعودي. وفي هذا المجال بالتحديد، فإنّ حسابات أبو ظبي تقتضي أن تذهب الرياض باتجاه إسرائيل بدلاً من تركيا، ولذلك فإنّ جزءاً من إيقاف التطبيع مع تركيا إنما يعود إلى الحسابات المتعلقة بمدى إمكانية تعميق الرياض علاقاتها مع إسرائيل. 

المفارقة هنا، أنّه وفي الوقت الذي كانت فيه تظهر بعض المؤشرات الإيجابية الإماراتية تجاه تركيا، وفي ظل استمرار العلاقات الاقتصادية الإماراتية مع أنقرة، كانت الصحافة في أبوظبي تطلق حملات تحرّض السعوديين على مقاطعة تركيا!

ثالثاً ـ قرار المضي قدماً في إصلاح العلاقة مع تركيا يتأرجح على ما يبدو بين الملك وابنه. فإذا ما تابعنا الخطوات الأولى للتقارب خلال المرحلة الماضية لاسيما نهاية العام الماضي وبداية هذا العام، فسنلاحظ أنّ الملك سلمان منخرط بشكل مباشر في هذه العملية، لكنّه يختفي تماماً في مرحلة توقّف التطبيع، ما يعني أنّ الملف انتقل ربما إلى ولي العهد أو أنّ الأخير تدخل بطرقه الخاصة لعرقلته.
 
وفي هذا العامل بالتحديد، فإنّ توقّف التطبيع يرتبط بشكل مباشر بدوافع ذاتيّة. وفي الوقت الذي يشير فيه البعض إلى استمرار سياسة النكايات مستشهدين بالصفقات التي جرت مع اليونان لحماية الرياض من هجمات الحوثيين المدعومين من إيران والتي تُظهر السعودية بمظهر اليائس والضعيف، إلاّ أنّها تصب في نهاية المطاف في خدمة الاتجاه نحو خيار إسرائيل واليونان بدلا من تركيا. 

وعليه، فإنه ما لم يطرأ تغيير باعتقادي في المعطيات المتعلّقة بأي من هذه العوامل خلال المرحلة المقبلة، فإنّ إمكانية توقّع تغيير في المعادلة القائمة حالياً ستبقى ضعيفة، وهو ما قد يدفع تركيا مجدداً باتجاه طهران بدلاً من المراهنة على علاقات أفضل مع الرياض، علماً أنّ خرقاً مهمّاً في علاقة تركيا مع مصر و/ أو إسرائيل و/ أو الإمارات خلال المرحلة المقبلة سيؤثر من دون شك على الحسابات السعودية تجاه أنقرة كذلك.

عن الكاتب

د. علي حسين باكير

مستشار سياسي - باحث في العلاقات الدولية والشؤون الاستراتيجية


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس