طه عودة - نداء بوست

على امتداد تاريخ العلاقات التركية - الإيرانية تباينت هذه العلاقات على الصعيد الجيوسياسي في مراحل مختلفة بين التقارب والتعاون حيناً، والتنافس غير المباشر والصراع أحياناً، بما يخضع لأجندة الدولتين الداخلية والإقليمية. 

فإذا كانت بعض المصالح الاقتصادية والأمنية تجمع بين تركيا وإيران إلا أن الإيديولوجية والهوية السياسية بينهما كانت دائماً وأبداً نقطة خلاف جذرية بينهما.

ويذكر التاريخ أنه في الوقت الذي كانت تستعر فيه نار الحرب العراقية - الإيرانية في منطقة الخليج، كان نظام الحكم في تركيا عسكرياً، فالتزمت "أنقرة" في تلك الفترة الحياد من الطرفين المتنازعين، نظراً للعلاقات الجيدة التي كانت تجمعها آنذاك بكل من العراق وإيران. 

وفي الوقت الذي كان فيه لهيب الحرب يتصاعد بين البلدين، وصل الرئيس التركي الراحل "تورغورت أوزال" إلى الحكم الذي كان يترأس حزب "الوطن الأم" آنذاك، وكان مؤسسه عام 1983.

وبالرغم من التغيير الجذري الذي طرأ في تركيا بتقلد المدنيين للسلطة بدلاً من العسكر، إلا أن السياسة التي انتهجها "أوزال" لم تكن مغايرة لسياسة المؤسسة العسكرية الخارجية آنذاك، حيث فضلت تركيا التزام الحياد حفاظاً على علاقات الصداقة مع العراق وإيران، وتفادياً لخسارة موردين من الموارد الكبرى التي تدر عليها الأرباح وتنعش اقتصادها.

في عهد "أوزال"، لوحظ أن تركيا تجنبت قدر الإمكان أي خطوة يمكن أن تعكر صفو العلاقات خصوصاً مع إيران، بل وكانت تعاملها بسماحة شجعت حتى المحافظين الأتراك على الانفتاح على إيران، بل والانتقال للعيش فيها.

وعلى الصعيد الأمني، كانت العلاقات التركية - الإيرانية جيدة، إذ تواصلت الاجتماعات بين البلدين دون انقطاع وهذا بدوره لعب دوراً كبيراً في تعزيز علاقات البلدين.

لكن على ما يبدو أن إيران لم تكن تبادل تركيا حسن النية، بل كانت تهيئ الأجواء لإحداث بلبلة فيها وتصدير الثورة الإيرانية إليها.

في تلك الفترة، تحدثت مصادر مقربة من الرئيس الراحل "أوزال" بأنه لم يكن معجباً بشخصية الرئيس العراقي "صدام حسين"، وكان يتمنى تغير النظام هناك. 

وإن كنا لا نستطيع الحكم بمدى صحة هذا الادعاء، إلا أن الرئيس "أوزال" كان واضحاً تفضيله الوقوف إلى جانب إيران في تلك الحرب، بدليل الزيارة التي قام بها إلى العاصمة الإيرانية "طهران" آنذاك، وأزعجت النظام العراقي كثيراً الذي صب جم غضبه من خلال إطلاق صاروخ على الأراضي الإيرانية في الوقت الذي حطت فيها طائرة "أوزال" الأراضي الإيرانية. 

وعلى الرغم من ذلك، نجحت الزيارة التي قام بها "أوزال" إلى "طهران"، وكانت نتائجها مثمرة للغاية، إذ اتفق الجانبين في تلك الفترة على تعزيز التعاون المشترك على كل النواحي.

كما شهدت العلاقات الثنائية بين البلدين فترة من التفاهم الاقتصادي أعقبتها مرحلة من الازدهار النسبي خلال عام 1995-1996 الذي ترأس فيه "نجم الدين أربكان" وحزب "الرفاه" الحكومة التركية. 

وفي هذا العام، وقع البلدان اتفاقية لتصدير الغاز الإيراني إلى تركيا بقيمة 23 مليار دولار، وهي الصفقة الأضخم في تاريخ العلاقات الاقتصادية بين البلدين الجارين، يمتد بمقتضاها خط أنابيب نقل الغاز من مدينة "تبريز" الإيرانية وحتى مدينة "أرضروم" لمد تركيا بالغاز لمدة ثلاثين سنة.

ومع مرور ما يقرب من الـ25 عاماً على هذا التقارب، إلا أن إيران ظلت تضمر لتركيا الغدر المكتوم، حيث شهدت علاقات البلدين توتراً ملحوظاً أكثر من مرة، وكان السبب في ذلك إيران نفسها، عبر دعمها للإرهابيين المناهضين للنظام العلماني في تركيا بعد فشلها بتصدير الثورة الإسلاميّة إلى تركيا على غرار ما فعلت في بعض الدول العربية وباكستان وأفغانستان عبر تغذية الحركات الإسلامية خاصة "الشيعية" منها.  

تركيا التي أعادت خلال العقد الماضي اكتشاف نفسها في الشرق الأوسط من جديد لتبزغ كطرف فاعل تتزايد أهميته وحضوره في المنطقة يوماً بعد يوم، لاحظت هذا الموقف المعادي من إيران ما جعلها تتخذ مبدأ "المعاملة بالمثل"، فكانت أول ثمرة لذلك هو موافقتها على طلب إسرائيلي بالتحرك لمنع "سوريا" من إرسال أسلحة لعناصر "حزب الله" في جنوب لبنان الذين حلوا مكان الإسرائيليين بعد انسحابهم. 

لقد تقبلت تركيا الطلب الإسرائيلي برحابة صدر بعد أن فطنت إلى أن إيران تستغل نواياها الطيبة، فبادرت لمعاملتها بالمثل حتى وإن كانت بخطوة معنوية.

مع ذلك، التاريخ يشير إلى أن إيران ورغم أنها كانت تكيد المكائد لتركيا في الخفاء إلا أنها تجنبت دائماً الدخول في مواجهة علنية معها من منطلق إدراكها لقوة تركيا الإقليمية وعلاقاتها الخارجية القوية، كما وكانت تحتاجها أيضا أثناء حربها مع العراق (1980-1988) حيث كانت تنظر لتركيا على أنها الجسر السياسي والاقتصادي الحيوي والآمن الذي يربطها بأوروبا و"شعرة معاوية" التي تربطها بأمريكا وإسرائيل إلى جانب خشيتها من أن تعاملها تركيا بالمثل، عبر تغذية النزعة الانفصاليَة لدى العنصر الأذري الذي يشكل نحو 25 في المئة من عدد سكان إيران، على اعتبار أن هذه الإثنية تربطها بالأتراك الجذور العرقية نفسها.

وعلى الرغم من أن العلاقات التركية - الإيرانية السياسية والاقتصادية، شهدت تحسناً ملحوظاً بعد تولي حزب "العدالة والتنمية" السلطة في نوفمبر/ تشرين الثاني 2002، خاصة بعد الغزو الأمريكي للعراق، إلا أنه لا ينبغي المبالغة في تقدير درجة التعاون بين البلدين.. فالعلاقات بين البلدين الجارين ملتبسة منذ عقود تسودها التوتر في عدة قضايا عالقة، من أبرز تجلياتها هو الدعم الإيراني الخفي لمنظمة حزب "العمال الكردستاني" المتمردة ضد تركيا والتي تعد "العدو الأزلي" لها. 

في مطلع تسعينات القرن الماضي، بدأت "طهران" محاولات التحرش بجارتها تركيا عبر غض الطرف عن نشاط حزب "العمال الكردستاني" في إيران، بالتوازي مع ما فعلته دمشق منذ مطلع الثمانينات ولغاية 1998.

وهذا الدعم بطبيعة الحال عمق من المخاوف التركية خصوصاً مع تهاوى سلطة "بشار الأسد" على المناطق الكردية على طول الحدود التركية - السورية ما قد يشجع أكراد تركيا على المطالبة بالحكم الذاتي، وهو ما يشكل بالنسبة لها نقطة ضعف كبيرة. 

لم تكتف "طهران" بدعم "الكردستاني" بل وقدمت أيضاً الدعم لـ"حزب الله" التركي الذي هو أساساً تم استحداثه من قبل جهاز المخابرات التركي الذي قام بإنشائه على أمل التصدي للمد الكردي إلا أنه انقلب على تركيا مطلع التسعينات.

وعليه، بدأ الجاران يتبادلان الاتهامات في هذا الصدد، وبدأت العلاقات بينهما تشهد أزمة على خلفية اغتيالات طالت بعض الصحافيين الأتراك العلمانيين والمنتقدين للسياسات الدينية في عهد الرئيس السابق "هاشمي رفسنجاني".

فاتهمت "أنقرة"، "طهران"، بالتورط في تلك الاغتيالات، وبدعم "الكردستاني" و"حزب الله" التركي، وكانت "طهران" ترد بالنفي، وتتهم "أنقرة" في المقابل بأنها تدعم "الحزب الديمقراطي الكردستاني" الإيراني، وحركة "مجاهدين خلق".

في المقابل، ذهبت تركيا إلى دعم المعارضة السورية ضد نظام الأسد الذي يعد الحليف الحقيقي الوحيد في المنطقة لإيران، وسقوطه سيكون بمثابة ضربة إستراتيجية يمكن أن تؤدي إلى زيادة نفوذ تركيا في الشرق الأوسط على حساب إيران، وهو الأمر الذي لا يمكن أن تقبل به "طهران". 

وعليه، تشكل كل من الدولتين مصدراً للمخاوف والقلق العميق للأخرى، لتصبح علاقة بحاجة إلى فك الالتباس بين ميزان تجاري هو الأكبر بين البلدين وجو مشحون دائماً بالتنافس على النفوذ الإقليمي.

كما يبرز العراق أيضاً كميدان للتنافس الخطير بين تركيا وإيران، بيد أنه بعد انسحاب القوات الأمريكية من العراق حصل ميدان فراغ في السلطة، حاولت إيران التي ترى أنها القوة الموازنة الوحيدة للإمبريالية الأمريكية في المنطقة ملئه، إلا أن تركيا التي ترى في نفسها قوة صاعدة في الشرق الأوسط أبتّ أن تترك العراق مسرحاً للألاعيب الإيرانية، فألقت بثقلها هناك وفرضت سياسة حازمة متحدية بها الطموحات الإيرانية، وهو ما أعطى زخماً جديداً للتضارب التاريخي بين البلدين.  

كما خرجت القضية الفلسطينية أيضا كمستوى أخر للتنافس بين البلدين بعد أن تمكنت تركيا عبر مد نفوذها هناك والدعم الحازم الذي قدمه رئيسها "رجب طيب أردوغان" إلى الفلسطينيين من سحب البساط من تحت أقدام إيران التي كانت ترى أن معارضتها لإسرائيل تعزز من شعبيتها في العالم العربي. 

وعليه، فطنت إيران إلى أن تركيا كبلد سني، تمثل ضغطاً بل وخطراً كبيراً على النفوذ الإيراني "الشيعي" هناك. 

بعد انتخاب "محمد خاتمي" رئيساً لإيران، سعى الجانبان، وبخاصة في السنوات الأخيرة، للقيام بخطوات ملموسة لتمتين هذه العلاقات وإزالة التشنج والفتور الذي كان يكتنفها، فعقد البلدان اتفاقيات أمنية للحد من نشاطات المنظمات المناوئة. 

وهنا حاولت تركيا بذكاء احتواء التهديد الإيراني لها من خلال منع تدهور العلاقات كيلا تعطي إيران ذريعة لتكثيف دعمها للكردستاني.

كما أن احتياج تركيا أيضاً إلى الطاقة وموارد النفط والغاز الطبيعي الوفيرة لدى إيران التي تعد ثاني مورد للغاز الطبيعي إلى تركيا بعد روسيا، كان دافعاً مهماً لزيادة التعاون بين البلدين في العقد الماضي، حيث تم التوقيع على اتفاق لبيع الغاز الطبيعي لتركيا، والاتفاق على إنشاء أنبوب في هذا الصدد.

على هذه الخلفية التاريخية يمكن اعتبار أن مستقبل تطور العلاقات الإيرانية - التركية في المرحلة القادمة يبقى رهناً بتصارع مجموعة من العوامل فيما بينها، يتصدرها التناقض في الأفكار المؤسسة لأدوار كل من النظامين السياسيين وكذلك قدرتهما على لعب دور حاسم في تجذير التباعد بينهما.

وتشترك "طهران" و"أنقرة" في حقيقة أنهما تمتلكان موقعاً جيو-إستراتيجياً مهماً في المنطقة حيث تتداخلان بوشائج التاريخ وروابط الحضارة المشتركة على نحو قلماً يتوافر في مناطق جغرافية أخرى، لكنهما أيضاً تعانيان في نفس الوقت من عدم وجود إطار مؤسسي يجمعهما بالدول العربية ضمن منظومة إقليمية وأمنية مشتركة.

ولعل تركيا استعاضت بذلك عبر الانخراط في حلف "الناتو" والتحالف الدولي الذي تقوده "واشنطن"، بينما إيران لم تتمكن من الانخراط بأي منظومة إقليمية أو دولية بل حتى علاقاتها الدولية مع روسيا والصين لا ترقى إلى مستوى علاقات تركيا بالغرب. 

بالتالي، يبقى النفوذ الإقليمي لإيران في منافسة حادة مع التحالفات الدولية لتركيا، مما يضع كلا البلدين على مسار التصادم في أي وقت على اعتبار أن تركيا تقف كحجر عثرة أمام قدرة إيران على تحقيق طموحاتها ومد نفوذها في المنطقة. 

ولكل هذه الأسباب، يبدو أنه مهما تحسنت العلاقات التركية - الإيرانية على اعتبار أن كلا البلدين لديهما مصلحة في الحفاظ على علاقات جيدة إلا أنه من غير المرجح أن تصل إلى ما يسمى بـ"فترة ذهبية" إذا أخذنا بعين الاعتبار أن السياق الإستراتيجي للعلاقات التي يغلب عليها الصراع والتنافس على النفوذ في الشرق الأوسط والقوقاز وأسيا الوسطى وجميع أنحاء العالم الإسلامي، سيبقى هو الحد الفاصل بين البلدين.

عن الكاتب

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس