د. سمير صالحة - تلفزيون سوريا

امتحان استهداف المدنيين الفلسطينيين بهذه الوحشية في غزة وردود الفعل التركية نسف حتما فرص الرهان على تحسن محتمل في مسار العلاقات التركية الإسرائيلية، لكنه عكس حقيقة استحالة حدوث المعجزة لتخفيف التوتر القائم في العلاقة بين أنقرة وواشنطن بعدما وجه الرئيس التركي سهامه صوب البيت الأبيض الذي اتهمه بتحمل مسؤولية الشراكة مع تل أبيب وتجاهل ممارساتها الأخيرة في الأراضي المحتلة.

خيب بايدن آمال أنقرة التي كانت تعول على الرئيس الأميركي الجديد ليكون مختلفا عن سلفه ترامب وأكثر تشددا حيال إسرائيل وسياساتها الفلسطينية ثم تحول إلى مناصر لرئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو في تبرير الهجمات التي سقط ضحيتها العشرات من المدنيين والأطفال الأبرياء في غزة "من حق إسرائيل أن تدافع عن نفسها". لكن بايدن خسر رهانه على المعارضة التركية التي كان يراهن عليها ليدعمها في إزاحة حزب العدالة والتنمية وواجه معضلة توحد البرلمان التركي بكل ميوله السياسية والحزبية ضد الممارسات العدوانية الإسرائيلية وانتقاد واشنطن بسبب الضوء الأخضر الذي أشعلته أمام نتنياهو.

يتلقى "تحالف المصالح" التركية الأميركية ضربات وانتكاسات متواصلة منذ أعوام بسبب التوتر القائم في العلاقات الثنائية وتباعد السياسات في التعامل مع العديد من القضايا التي تتحول يوما بعد آخر إلى اصطفافات وتمترس إقليمي محير ومقلق. انفجار الوضع داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة أعاد إحياء ملفات الخلاف التركية الأميركية نتيجة السياسات والممارسات الإسرائيلية داخل الأراضي المحتلة وإصرار واشنطن على تجاهل ما تفعله تل أبيب ومواصلة تقديم الدعم والعون العسكري والسياسي والمالي لها لمواصلة مهاجمة المدنيين العزل في الضفة الغربية وقطاع غزة.

بين ما قالته أنقرة للقيادة الأميركية "لن نسكت إلى أن يعرف العالم بأسره أن إسرائيل دولة إرهاب.. واشنطن تكتب التاريخ بيدين ملطختين بالدماء" إلى جانب تذكير البابا في الفاتيكان أن "المذابح الإسرائيلية ستستمر إذا لم يتحرك المجتمع الدولي لمعاقبة إسرائيل". رئيس البرلمان التركي مصطفى شانطوب يقول إن "إسرائيل تمارس سياسات الإرهاب المنظم والعالم يكتفي بالتفرج".

قد تكون أنقرة تبحث عن إلزام تل أبيب باتفاقية سريعة لوقف إطلاق النار وتهدئة تفتح الطريق أمام نقاش جديد في الملف الفلسطيني. لكن الرسائل التركية كانت أيضا باتجاه تحريك المجتمع الدولي والرأي العام العالمي لإضعاف موقف واشنطن التي ترسل شحنات السلاح إلى تل أبيب في الوقت الذي تهاجم فيه الأخيرة المدنيين العزل في الأراضي المحتلة.

أثبتت التطورات الأخيرة في فلسطين المحتلة أن إدارة بايدن التي كانت تقول إن الشرق الأوسط ليس بين أولوياتها بالمقارنة مع سياسة التحضير لمواجهة مفتوحة ومتعددة الجوانب مع الصين وروسيا وجدت نفسها وسط بركان الصراع الفلسطيني الإسرائيلي مرة أخرى ووصلت إلى قناعة أنه دون حسم مسار هذا الملف لن تحظى براحة البال والهدوء الذي تبحث عنه في المنطقة. قرار إرسال وزير الخارجية الأميركي في جولة شرق أوسطية عاجلة لتثبيت هدنة وقف إطلاق النار وإقناع العواصم العربية والإسلامية أن أميركا لن تهمل الملف وأن التوازنات الإقليمية الحساسة لا يمكن تجاهلها مؤشرات أميركية على استحالة الجمع بين حسابات الحقل الفلسطيني والبيدر الإسرائيلي دون تسوية عادلة وثابتة وردع تل أبيب ودفعها للتراجع عن ممارساتها القمعية وعمليات التمدد والاستيطان في القدس والأقصى والضفة الغربية وهو بين ما قالته ورددته أنقرة باستمرار في رسائلها التحذيرية لواشنطن.

تتجه الأنظار في أنقرة وواشنطن نحو اللقاء المرتقب بين الرئيسين التركي والأميركي في العاصمة البلجيكية على هامش القمة الأطلسية المقررة في منتصف شهر حزيران المقبل. اللقاء إذا ما تم سيكون وسط أجواء وارتدادات التصعيد الأخير فمشكلة أنقرة مع الإدارات الأميركية وما تركها أمام معضلة توتير علاقاتها باستمرار مع واشنطن هو التشهير بانحياز البيت الأبيض المكشوف والاستفزازي إلى جانب إسرائيل وتجاهل دعم تنفيذ القرارات الأممية وقيادة محور تحدي المجتمع الدولي والمنظمات العالمية دفاعا عن تل أبيب ومصالحها. ومشكلة واشنطن مع أنقرة هي تمسك الأخيرة بدعم الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال وخارجه وعدم التراجع عن خطوات التشهير بالممارسات الإسرائيلية والتمسك بدعم جهود الاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني.

بايدن الذي لم يتردد قبل 4 أعوام وهو يتسلم جائزة تيودور هرتزل وهو رمز من رموز الصهيونية العالمية في القول "أنا صهيوني ومن أجل أن أكون كذلك لا أحتاج بالضرورة لأكون إسرائيليا".

يحاول أن يكون أكثر ليونة هذه المرة وهو يقول إن اتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل والفلسطينيين يمثل فرصة حقيقية للمضي قدما. لكن بايدن نفسه يرصد حتما ما قاله الرئيس التركي للبابا في الفاتيكان "المذابح الإسرائيلية ستستمر إذا لم يتحرك المجتمع الدولي لمعاقبة إسرائيل". وهو يتابع حتما رسائل وتحركات الدبلوماسية التركية التي تقول إن الإدانات لم تعد تكفي، وجهود السفير التركي ورئيس الدورة الحالية للجمعية العامة في الأمم المتحدة فولكان بوزكر التي ستكون حتما سببا آخر في التصعيد والتباعد بين البلدين. المشكلة الآن هي أن أنقرة تأتي في مقدمة العواصم التي تضع واشنطن وتل أبيب على مسافة واحدة في التعامل مع الموضوع الفلسطيني والمنتقدين لسياسة واشنطن الخاطئة المنحازة لتل أبيب.

يريد بايدن الاستفادة من الأزمة الاقتصادية في الداخل التركي والتوتر القائم في علاقات أنقرة مع العديد من العواصم للضغط باتجاه انتزاع تنازلات تركية ثنائية وإقليمية. وأردوغان يريد أن يتوجه إلى بروكسل مزودا بالدعم السياسي والشعبي لحزبه ومواقفه حيال التصعيد والممارسات الإسرائيلية الأخيرة وأرقام استطلاعات الرأي التي تجعل منه المتحدث الأقوى مع أميركا وضرورة الإصغاء لما يقول "بايدن يبيع الأسلحة لإسرائيل لتقتل بها أطفال فلسطين". ما يغضب تل أبيب من تحرك سياسي ودبلوماسي وشعبي تركي لدعم الداخل الفلسطيني لا يقل عن انزعاج وقلق واشنطن من الانتقادات التركية الموجهة للإدارة الأميركية والدعوة لوقف الإرهاب ولردع الاحتلال الإسرائيلي والمطالبة بإرسال قوات دولية توفر الحماية للمدنيين الفلسطينيين.

حكاية مصحوبة بمثل شعبي معروف.. طارد أحد الفلاحين عشيق زوجته وسط حقول العدس وهو يريد قتله بعدما دهمه بالجرم المشهود. قطع العشيق رزمة من العدس ولجأ إلى مزارعين يحتمي بهم ويقول إن مطارده سيقتله من أجل هذه الرزمة التي اقتلعها من حقله. خجل الفلاح من الكشف عن حقيقة الأمر وعاد أدراجه وهو يردد من يعرف يعرف ومن لا يعرف يقول رزمة عدس. التوتر التركي الأميركي أبعد وأعمق بكثير من صفقة إس 400 الروسية كما يقال ويردد باستمرار.

عن الكاتب

د. سمير صالحة

البرفسور الدكتور سمير صالحة هو أكاديمي تركي والعميد المؤسس لكلية القانون في جامعة غازي عنتاب وأستاذ مادتي القانون الدولي العام والعلاقات الدولية في جامعة كوجالي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس