ياسين أقطاي - مركز أمية 

في إحدى المقالات السابقة استخدمت في الحقيقة عنوانًا مشابهًا لهذا المقال، وذلك إبان أحداث “غيزي بارك” 2013، حيث كان العنوان “هل سينزل المسيح الذي ينتظره اليسار في تقسيم؟”.

لقد كان اليساريون في تركيا ينظرون إلى أحداث التخريب والشغب في غيزي بارك، على أنها ثورة، كانت “غيزي بارك” التي اعتقدوا أنها ثورة تتجه نحو الهاوية أو كانت قد وصلت للحافة، لكنهم جسدوا منها “انتفاضة” وأفاضوا عليها أدبًا خاصًّا بها.

إلا أنهم في الوقت ذاته لم يتمكنوا من النظر إلى حقيقة أن هذا التخريب اللامحدود والذي خيم على هذه الانتفاضة، إلى جانب دعمها من قبل الرأسماليين العالميين والعمالقة الماليين الذين يعتبرون أقسى عتاة النظام الرأسمالي، كل ذلك أبعد هذه “الانتفاضة” عن أي معنى من معاني الثورة، بل خرجت عن مسارها تمامًا.

وفي هذا السياق ربما قيّموا انضمام صاحب أكبر البنوك في تركيا إلى احتجاجات غيزي بارك، من خلال رفعه لافتة تحمل عبارة “نحن لصوص”، على أنه نوع من التوصل للهداية وأخذ نفَس نقيّ في رحاب الثورة وتاريخها. يا لها من حكمة جليلة إذن.

لقد كان الفهم اليساري للثورة والاستقلال بشكل عام “مسيانيًّا” على الدوام. حيث أنه سرعان ما يعتنق أي عنف يراه أو انقلاب أو ضربة أو حراك اجتماعي، وينظر له كالمسيح الذي بشر بالثورة، أو بقليل من الاعتبارات النظرية كـ”أمير حديث”. كان هذا تعبيرًا عن عدم كفاءة اليسار. وإن اليسار ذاته الذي اعتنق هذا الفهم خلال أحداث “غيزي بارك”، اعتنقه مجددًا، وحين الضرورة يرى المسيح في منظمة “بي كا كا” الإرهابية وأحيانًا في “غولن” الإرهابية.

جميع ذلك كان بالنسبة لليسار أمرًا حتميًّا، على الرغم من تعارضه من حيث المبدأ. وعلى الرغم من أن بي كا كا تمثل أيديولوجية رجعية قديمة قومية، تجاوزها اليسار منذ فترة طويلة، وكذلك “غولن” مثلت التدين الرجعي منذ بدايتها، وهيكلًا تنظيميًّا منخفض الجودة في سياق تعاونها مع الإمبريالية الأمريكية، لكن ومع ذلك فإن اليسار بجميع معتقداته وأسباب وجوده، كان يرى بصيص أمل في هذه الحركات المتعارضة تمامًا معه، إلا أن معارضته لحزب العدالة والتنمية يمكن أن تجعله ينظر لهذه الحركات على أنها المخلص المنقذ.

إلا أن أيًّا من ذلك لم يحدث، أو لم يتمكن من ذلك، ولم يتمكن أي من تلك الحركات أن يكون منقذًا بما فيه الكفاية.

لقد استمر حزب العدالة والتنمية وزعيمه رجب طيب أردوغان، في إعادة إنتاج السلطة ضمن الأماكن والقنوات الأكثر شرعية من القنوات السياسية والاقتصادية التي يثق بها اليسار. لكن مع ذلك لم يكن هذا محفزًا بما فيه الكفاية لليسار من أجل أن يخضع لنقد ذاتي، أو تشكيك في المبدأ المسياني الذي ينتحله. لم يحدث هذا أبدًا.

من الواضح للغاية أن اليسار في الآونة الأخيرة بات يرى في شخص “سادات بكر” منقذًا جديدًا، على الرغم من أن اليسار ذاته لم يسبغ علهه أي صفة سوى أنه “زعيم منظمة إجرامية”.

إن شهوة اليسار في اعتناق أقاويل ومزاعم “بكر” مليئة للغاية بمبدأ الأمل المسياني. حيث يسعى اليسار جاهدًا لتحويل هجمات سادات بكر ضد شخص وزير الداخلية التركي سليمان صويلو إثر هواجس شخصية تتعلق ببكر ذاته؛ إلى “انتقاد مدمّر” لحكومة العدالة والتنمية. لكن حينما يقوم بذلك يقول “على الرغم من أننا لم نتمكن من توجيه هكذا ضربة، ولم نصل لجزء يسير من ذلك، إلا أن سادات بكر سيتمكن من فعلها، وليكن ذلك، فالمهم أن تحدث الضربة”، يقول اليسار ذلك بكل ما يختزن في أعماقه من جشع وطمع.

إنه لعارٌ على اليساريين حينما يناقضون أنفسهم؛ فهم يجرّمون التواصل مباشرة مع سادات بكر لأنه مافيا، لكن في الوقت ذاته يمجدون اتهاماته بحق الوزير صويلو، على الرغم من أنهم يعرفون جيدًا أنه لا يوجد أي دليل على مزاعم بكر. لا يهم ذلك بالنسبة لهم، طالما أن هذا الوضع يساهم في تحقيق الهدف، فهم يذهبون إلى نقطة قاتلة من حيث العلاقة بين الوسيلة والهدف. كل الطرق جائزة بالنسة لهم طالما أنها تسير نحو الهدف. فلا يهم إن كانت الوسائل “غيزي بارك” أو “بي كا كا” أو “غولن. ولا مشكلة أيضًا في أن يحصل تحويل ينجم عنه تحويل “اليسار” بحد ذاته إلى وسيلة نحو هدف ما. ولا يلبث اليسار أن يتحول إلى لا شيء بعد استنفاد جميع خطاباته في سبيل هذه الوسائل الرخيصة.

سادات بكر ذاته الذي كان يتعرض للإهانة كزعيم مافيا عبر مواقع إخبارية محسوبة على اليسار، يظهر اليوم عبر مواقع اليسار ذاتها بعد عمليات تجميلية تحاول تحسين صورته وإظهاره بصورة البطل الشبيهة بحكاية قطاع الطرق والبطل الشعبي الخرافي “روبن هود” لإريك هوبسباوم.

تصريحات بكر في الواقع لم تفتن اليسار فحسب، بل خلقت موجة جديدة من الأمل لدى وسائل الإعلام الغربية ضد تركيا والرئيس أردوغان.

كذلك الأمر بالنسبة للإعلام العربي الذي ينظر لأردوغان على أنه شبح يهدد أنظمة الاستبداد العربية القائمة، ومن الواضح أن وسائل الإعلام تلك لا تقف عند حدود الوزير صويلو فحسب، بل إنها تتخذ من اسم صويلو مجرد وسيلة للهجوم على أردوغان تحديدًا، ويرون أن ذلك يمثّل بشرى سارة بالنسبة لهم.

أود أن أقول في هذا الصدد، أنني عملت في السياسة مع الوزير صويلو لسنوات عديدة، ولقد أتيحت لي الفرصة كي أرى عن كثب أسلوب عمله وحساسيته وعزيمته وانضباطه، وكنت أنظر إليه بإعجاب بالغ.

لم أطلب يومًا ما من الوزير صويلو أي طلب شخصي يتعلق بي مباشرة، لكنني طلبت منه طلبات عدة نيابة عن مظلومين ومهجّرين ومنقطعين وضحايا، وإنني أشهد أنه كان يلبي جميع ذلك بتفانٍ ومسؤولية عالية لا تكاد تصدق، كما أشهد أنه تلقى الكثير الكثير من الدعاء بسبب ذلك.

ولذلك فإن الدعوات بالخير والإحسان ورسائل الدعم التي وصلتني والموجهة للوزير صويلو، لا حد ولا حصر لها، لا سيما خلال هذه المرحلة التي يتعرض فيها لهجمات عدة طالما انعكست على شاشات الإعلام العربي. وإن هذه الدعوات وحدها لا شك أنها تشكل درعًا معنويًّا ضد الانتقام الذي يظهره اليسار إلى جانب بي كا كا وغولن، إزاء الوزير صويلو بسبب كفاحه المستمر ضد جميع التنظيمات الإرهابية. ولذلك فإنني أرى أن نقل شهادتي بالوزير صويلو هنا يعتبر دينًا على عاتقي.

 

عن الكاتب

ياسين أقطاي

قيادي في حزب العدالة والتنمية التركي الحاكم


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس