محمد قدو الأفندي - خاص ترك برس

في حياة الكثير من الأمم والشعوب منعطفات حادة تتغير اتجاهاتها بسبب الصدمات التي تصادفها والحواجز التي تحتم عليها تعديل مسارات اتجاهاتها، ومعظم هذه الانعطافات رغم كونها فجائية، إلا أنها تقتضي إعادة أوراق تطلعاتها وتعيد حسابات صداقاتها وعلاقاتها من جديد أو تختار ما هو الأشمل في المسير، أو تستفيد من تجارب الغير في التركين في خط مسير ثابت ومستقيم وسالك دون وجود التفافات ومطبات وحواجز تعتريها.

ومن الضروري أن ننبه إلى نقطة مهمة قبل الخوض في هذه المسألة بأن المغرب كدولة مؤسساتية لم تكن في يوم من الأيام تحاول الاستفادة من هامش مشاكل الغير، كما أنها لم تنقل مشاكلها وتبعاتها خارج حدودها لتوزعها إلى بلدان أخرى سواء دول الجوار أو غيرها أو تعلقها على شماعات ترجو منها صرف النظر عن وضعها الداخلي.

ومن الضروري أيضا أن ندرك أن المغرب دولة مؤسساتية لها دستور يتكفل بإجراء الانتخابات التشريعية، والتي تنبثق منها حكومات منتخبة ناتجة عن صناديق الاقتراع الضامنة لمسيرة الحياة السياسية وديمومة تواجد الأحزاب والعمل الحزبي ومؤسسات المجتمع المدني المؤازرة لأعمال الدولة الرسمية ونشاطاتها.

وبمعنى أدق فإن المؤسسات السياسية المغربية هي التي تحدد تماما شكل السياسة الداخلية والخارجية وهي التي تنظر في مسألة تقويم علاقاتها الدولية وهذا يعني أن العلاقات المغربية الدولية لم تكن في يوم ما وليدة الصدف أو بنت لحظتها بل هي عبارة عن استراتيجية ناتجة عن دوائر دبلوماسية ذات اختصاص تحدد علاقاتها الدولية تبعا لمصالحها الوطنية.

إن أولى تلك المنعطفات التي صادفت السياسة المغربية هو الموقف الغير المسؤول من إسبانيا فرغم أن الأخير لا يزال يحتل جزءًا من أراضي المملكة المغربية وتمتنع عن أي مفاوضات في هذا الصدد أو حتى فتح ملفاتها مع المغرب، فقد تفاجأ المغاربة باستقبال مدريد لزعيم جبهة البوليساريو الحركة الانفصالية (إبراهيم غالي) في العاصمة الإسبانية بدواعي إنسانية حسب تصريحات مدريد، ولكن التخبط الإسباني في تقاطع تصريحات المسؤولين حول القضية حتمت على المراقب قراءة مقدار ندم إسبانيا ودبلوماسييها على ارتكاب هذا الفعل المؤذي جدا والذي أدى حتما لانهيار الثقة المغربية بحكومة مدريد.

ولسنا بصدد عرض مشاهد التورط الإسباني في استقدام أو استقبال إبراهيم غالي بالشراكة مع الجزائر بل الذي يهمنا أن نقول إن إسبانيا نسفت علاقة جيرة ممتدة لعشرات السنين وربما أكثر، وأن من المؤكد أن المغرب سيحسب حساب الطعن الغادر في الظهر عند تعامله مع إسبانيا مستقبلا مهما كانت إغراءات مدريد في استمالة الرباط ومهما كان نوع الاعتذار الذي تحاول أن تقدمه حكومة مدريد، هذا الموقف المغاير تماما لموقف الرباط من طريقة التعامل مع إسبانيا ومشاكلها الداخلية، فقد تحدثت بعض الأوساط الصحفية المطلعة العام الماضي على وجه التحديد بأن الزعماء الانفصاليين لكتالونيا قدموا طلبا للحكومة المغربية لزيارة المغرب وكان من ضمنها  أيضا لقاء بعض المسؤولين المغاربة وإقامة علاقات ومشاورات معهم ولكن المسؤولين المغاربة رفضوا الطلب لمنع حدوث حالة تصدع في العلاقات أو انزعاج من الدوائر الدبلوماسية الإسبانية، وهذه الحالة توضح تماما الفرق الواضح في طريقة تعامل الدولتين مع بعضهما البعض.

فنحن إذن أمام حالتان لدولتان لهما علاقات استراتيجية واقتصادية حيث تعتبر مدريد أكبر شريك اقتصادي للرباط لسنوات طويلة وفي كافة المجالات الاقتصادية، ولكن فور ما أدخل إبراهيم غالي بهوية مزيفة لإسبانيا باسم محمد بن بطوش كُشف زيف صداقة ومصداقية الإسبان في علاقاتهم مع المغرب، وهذه المسألة أيضا يجب أن تنتبه لها دول أخرى غير المغرب في تقييم علاقاتها مع مدريد.

ورغم أن المغرب ولسنين طويلة استخدمت النفس الطويل في حل مشاكل متعلقة بين البلدين لكن ما أشار إليه البعض أن انفجار الأزمة أمر منتظر، وذلك بسبب خلافات عميقة بين البلدين حول عدة قضايا، بينها إقليم الصحراء المتنازع عليه بين الرباط و"البوليساريو"، فضلا عن ملف ترسيم الحدود البحرية، ومدينتي سبتة ومليلية الواقعتين أقصى شمال المغرب والخاضعتين لإدارة إسبانيا، لا تعني شيئا أمام انهيار الثقة ونهاية شهر العسل إلى الأبد، لأن الأزمة بين المغرب وإسبانيا دخلت دهليزا مغايرا بعد إصدار البرلمان الأوربي قرارا في العاشر من حزيران/ يونيو 2021 أعلن فيه رفضه استخدام المغرب للمراقبة الحدودية والهجرة، كآلية ضغط ضد الاتحاد الأوربي.

وباحتماء مدريد بالاتحاد الأوربي وتدخل الأخير الغير المبرر إلى جانب إسبانيا نتجت مضاعفات ثنائية ضد إسبانيا ودول الاتحاد - والتي للكثير منها علاقات متميزة مع الرباط، محطمة اللبنة الأخيرة في هيكل العلاقات المغربية الإسبانية، مثلما أكد وشدد الرد المغربي في بيان وزارة الخارجية على أن الأزمة محصورة بين المغرب وإسبانيا وليس مع الاتحاد الأوربي وتوظيف إسبانيا البرلمان الأوربي في هذه الأزمة له نتائج عكسية، ويندرج ضمن منطق المزايدة السياسية قصيرة النظر، معتبرا أن ما جرى مناورة لا تنطلي على أحد، تهدف إلى تحويل النقاش عن الأسباب العميقة للأزمة - والمقصود من الفقرة الاخيرة أن إسبانيا تحاول تسفيه القضية للمشاغلة لمنع البحث في أساس الأزمة.

ولكن يبقى الجواب المنطقي عن سبب توريط مدريد نفسها في افتعال أزمة تكون سببا في مقاطعة غير محدودة الفترة أو ربما نهائية لعلاقاتها مع الرباط هو ديدن المتابعين للشان المغربي والأوربي.

وأكثر التكهنات أن اختيار مدريد الغير المنطقي في إنهاء علاقاتها مع الرباط  يدخل ضمن تكتل أوربي جديد يتطلع إلى إعادة عصر الاستعمار في شمال أفريقيا بعد حصول بوادر من جهات أفريقية عربية وغير عربية بتعبيد الطريق القديم وإعادة تاهيله لوصول طلائع أوربية لإنقاذ اقتصادهم المهتري والذي يعاني منه معظم دول أوربا وأولها إسبانيا وتتبعها إيطاليا.

وفي الختام فإن المغاربة قد لا يبحثون طويلا في اختيار شريكهم الاستراتيجي القادم وسيكونون مضطرين لغلق علاقاتهم مع أوربا عموما وكذلك لن تكون لهم جولات قادمة مع جيرانهم في سبيل رأب الصدع وإعادة المياه إلى مجاريها بعد نفاد كل الوسائل الدبلوماسية مع الأطراف المعنية بقضية الصحراء المغربية، وخصوصا مع الجزائر والتي كانت وما زالت تحتجز المئات من الصحراويين في معسكرات ومخيمات لا حول لهم ولا قوة وتجبرهم على الإقامة فيها دون أن تكلف نفسها في حل مأساتهم الإنسانية برجوعهم إلى مواطنهم ومدنهم مع دعمهم لجماعات البوليساريو الانفصالية، وباعتقادي وحسب قراءاتي واطلاعي فإن الاختيار المغربي سيكون مع العثمانيين الجدد في أنقرة لإعلاء صرح العلاقات التاريخية والروابط المشتركة بعلاقات استراتيجية بناءة، رغم وجود البعض من المنفذين في بعض الدوائر المؤثرة في المغرب والذين لا يزالون يرون بأن مستقبل المغرب مع أوربا ومع فرنسا تحديدا.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس